انفصال
العدد 274 | 09 كانون الأول 2022
طارق عباس زبارة


                                                

استيقظ قايد جابر العظيمي جراء خربشة سمعها في غرفة نومه، ظن أنها لفأر أو سحلية أو شيء من هذا القبيل! امتشق حذاءه وراح يلاحق مصدر الصوت إلى أن استوقفه كائن غريب، غزير الشعر.

“هل هذا قنفذ… قنفذ أم حيوان آخر؟”

همَّ برفع حذائه ليضرب الكائن الغريب، فسمع:

 “توقف يا أبله. كيف تجرؤ على رفع حذائك في وجه سيدك يا حقير؟”

اتسعت عينا قايد، أفلت الحذاء على الأرض ودار حول نفسه.

الكائن المشعر منتصب ويتكلم! منتصب وواقف على خصيتين، ويشبه ذكره كثيراً. تحسس ما بين رجليه فوجده فارغاً! صرخ بأعلى صوته مرعوباً. بدأ يقرص ذراعه كي يصحو من هذا الكابوس المفزع، لكن شيئا لم يتغير.

نظر إليه الكائن المشعر وقال له:

 “ما هذا الصراخ؟ تمالك نفسك، أنا أتحدث معك بدل أن أسيطر على عقلك. يفترض أن تكون سعيدًا بهذه الفرصة الاستثنائية.”

 “الفرصة الاستثنائية؟!كيف استطعت أن تنفصل عني أصلاً؟! لا يمكن لأعضاء الجسم أن تنفصل هكذا بإرادتها وكيفما تشاء!”

 “ولم لا؟ أنف كوڤاليوف انفصل عنه عام ١٨٣٦، ووثَّق غوغول ذلك، فلماذا لا يمكن أن أنفصل أنا عنك؟ لا تنس أن سلطتي عليك أقوى من سلطة الأنف”.

 “ولماذا قررت الانفصال عني؟” سأل قايد.

“ليس للأبد! خرجت لتبادل المشورة مع الأعضاء الأخرى” أجابه الكائن، ثم اقترب وأضاف: “نحن نجتمع عادة في الساحة العامة من وقت لآخر كي نناقش أمورا إدارية”.

“أمور إدارية؟!!”

“نعم، نعم … أمور إدارية، هل تظن أن قيادة أجسادكم أمر هين؟ بالعكس، نحتاج إلى الكثير من الحنكة كي نقودكم، بعضكم صعب القيادة”.

بدأ الكائن ينتصب أكثر، وأردف: “لكنك رجل استثنائي، لا يوجد إلا القليل من أمثالك يخدمون أعضاءهم بهذا الإخلاص كما تفعل أنت، إنك تكرس حياتك وتفكيرك كله لخدمتي، أشكرك على ذلك”. انحنى الكائن أمام قايد قليلًا هامساً:

“هل ترى، ها أنا أنحني أمامك لأشكرك على خدمتك، لكنني أرجو ألا تسيء فهمي، فانحنائي أمامك لا يعني أنك قوام عليّ، لا تنس! أنا سيدك دائماً وأبداً، لكنني أثق بك، فأنت لن تؤذيني مهما فعلت، ولذلك قررت الانفصال دون أن أتأكد تماماً من نومك، كما نفعل عادةً.”

 “وهل لكل الأعضاء كينونتها الخاصة، حتى تستطيع الانفصال عن أجسادها؟” سأل قايد وقد تغلبت دهشته على خوفه.

 “لا طبعاً! توجد أعضاء يسيطر عليها أصحابها جيداً، فلا يمكن لها أن تتحلى بشخصية لتسيطر على عقولهم، فضلاً عن الانفصال عنهم. هذه الأعضاء المهمشة التعيسة لاصقة بأجساد أصحابها إلى الأبد، كثيراً ما نناقش قضايا هذه الأعضاء المهمشة في جلساتنا ولقاءاتنا”.

“وكيف نجحتم في السيطرة على الناس هكذا؟” سأل قايد.

“نهيمن على عقولهم بأيدلوجيا مرنة تتغير وفق الزمان والمكان”.

 “أيدلوجيا؟!”

 “أيدلوجيا تؤمن بها الأجساد. مبدؤها بسيط قائم على مبدأ تفوق من لديه عضو على من ليس لديه، وقد نجحنا بترسيخها في معظم معتقدات وأديان البشر، كما أن على حامل العضو أن يثبت تفوقه بتصرفات تخدم عضوه، هذا ما يسمونه في كثير من الحضارات بالرجولة. هذه الأيدلوجيا خدمتنا عبر القرون، تزعزعت قليلًا في الأعوام الأخيرة، لكنها ما زالت قوية ومهيمنة”.

‏”ولمَ كل هذا؟” سأل قايد.

“‏نحن كائنات متطفلة على الجسد نعيش في، أو بالأصح، مع أجسادكم.”

‏ “هل يعني ذلك أنكم تطورتم بالتوازي معنا؟”

‏”نعم، الوضع هكذا، أنت بالطبع تعرف نظرية داروين، البقاء للأقوى، والكائنات تتطور حسب ‏المناخ الذي يحيط بها ‏وتتأقلم معه، وكما تقلصت الزائدة الدودية في جسم الإنسان ‏تطورنا نحن حتى استطعنا أن يكون لنا كيان ذاتي”.

‏”لكنك قلت إن أنفا استطاع أن ينفصل في القرن التاسع عشر عن صاحبه في روسيا، فهل تطورت الأنوف كذلك؟”

‏ “لا، كان هذا استثناء ولم يتكرر مرة أخرى. وضعنا يختلف، على مدى القرون اكتسبنا إمكانية السيطرة على عقول البشر، لا أحد غيرنا استطاع أن يفعل ذلك. يقولون إن القلب يسيطر على الإنسان، هذا هراء، القلب يضخ الدم، لا غير. لقد سيطرنا على محرك الإنسان الحقيقي وهو المخ”.

وراح الكائن يهذر وينظّر ويتبجح، تارة يتحدث عن رغبة الإنسان بالتكاثر، وصراع بقائه، وأخرى كيف أن كثرة التكاثر تحولت وبالاً على البشر والأرض ومواردها التي ما عادت تكفي. وكيف أن الأعضاء إن استقلت عن الأجساد للأبد فإن ذلك سيكون كفيلاً بانقراض البشر…

تأمل قايد هذا الكائن المشعر الثرثار وراح يتساءل: هل من الممكن فعلاً أن تكون البشرية كلها تحت سيطرة قطعة لحم متدلية بين الساقين؟ هل من الممكن أن تساق كل السلالة البشرية إلى الجحيم على يد كائن تافه كهذا؟

‏تقدم قايد إلى الكائن المشعر، وبحركة سريعة أطبق عليه ووضعه ‏في أحد أدراج خزانته وأقفله. ‏بدأ الكائن المشعر يصرخ ‏ويشتم صاحبه بأشد الشتائم بذاءة طالباً منه أن يُخرجه فوراً.

لم يأبه قايد، بل على العكس، انتابه شعور بالارتياح والقوة، وأحس بانتصاره على هذا الكائن الوقح. لقد كانت هذه المرة الأولى في حياته التي يقف فيها صامدًا أمام عضوه!  نظر إلى أسفل بطنه، كانت سيول الدم تتدفق بغزارة، استلقى قايد على الأرض وانتظر حتى يسكت عضوه عن الصراخ ويستسلم هو للهدوء التام إلى الأبد.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من اليمن مقيم في ألمانيا.