1
في “الشيخ زويد” كما في معظم بلدات وقرى وبوادي سينــاء كان النــاس يسمونها ” البندورة ” (ننطقها بفتح الباء والنون تماماً بنفس النطق الذي غنته لها فيروز في “مسرحية الشخص”)، دام ذلك حتى سنوات قليلة ماضية أتت بعدها الطماطم لتزيح “البندورة” من عرشها على ألسنة الناس وتجلس مكانها طبقاً لتحولات ثقافية أربكت المكان والناس على حد سواء. سيقول لك البعض إنها سنة الحياة، وسيجازف آخرون بلسان متحذلق ليقولوا “إنها العصرنة وسنن التحضر”، أما أنا وجزء لا بأس به من الناس – ما زالوا مدفوعين بنوستالجيا هي وحدها ما تجعل أقدامهم ثابتة تحت أجسادهم – فسنظل نردد “بالله عليك اعطيني رطل بندورة؟ .. بقديش البندورة اليوم؟” نقول ذلك ونحن نتفحصها ونستخلص من البسطة ما استدارَ واحمّرَ وخلا من عيوب لنضعه في الأكياس وفي البال فرحة الأطفال بها كتعويض عن الفاكهة أحياناً، و في أحيان أخرى كتفضيل لها عن غيرها من الفاكهة كما هو حال صغيري لؤي، وفي البال أيضاً دأب سيدات البيت على تجهيز وجبات تظل هي وليس غيرها العامل المشترك في أيٍ منها، كأننا على وشك تحريك قاعدة الحياة القديمة “عيش وملح” لنستبدلها بـ “عيش وطماطم”.
2
في تقرير إخباري حول سورية كانت هي الوحيدة بلونها الخاطف للأبصار وحضورها المطمئن من بقى في الشارع المدمر، كأنها تقول أنا هنا، أنا باقية، البائع بجوارها هو الآخر خلف بسطته لم يهتم لا بالكاميرا ولا بانشغال المحاور باستنطاق العابرين ودفعهم لإدانة هذا ومباركة ذاك، لم يرفع بصره عن البندورة، في خلفية المشهد كان يقلب حبّاتها ويهندم صفوفها كأنها حبيبة أو كأنها جسره الوحيد للحياة .
أما أنا فرحت أستعيد في رأسي مشهداً لن أنساه بعد رسالة شفهية تناقلها الناس هنا في “الشيخ زويد” مفادها أن انفجاراً هائلاً على وشك الوقوع. بهلعٍ ترك الناس محلاتهم وبضاعتهم، خلا الشارع من أي أثر للحياة، لتبقى هي وحدها ويبقى حضورها الزاهي فوق بسطات الخضار. عرفت أن كل ما قيل ليس أكثر من إشاعة وأن صبيّين على دراجة نارية وضعا كيس أسود بالقرب من موقع أمني وهربا فظن الناس أنها قنبلة وكانت ردود أفعالهم التي لن أتورط في القول بأنها ردود فعل مبالغ فيها، إذ أن من عاش في رعاية أهوال وحمى الرصاص والتفجيرات طيلة ما يدنو من عامين ونصف فإنه قد يفعل أكثر من ذلك. في إحدى المرات كنت مع صديقي في السيارة عائدين من العمل، وكانت أصوات الرصاص تأتي من كل اتجاه، هل جربتم العبور من شارع تعبره أصوات المدافع الثقيلة والمتوسطة؟ ورحنا نحارب مخاوفنا بالحديث عن تفاصيل في الحياة والعمل، بالكاد كان أحدنا يسمع الآخر، وفجأة وتحت إحدى إطارات السيارة حدث انفجار، هل سقطت قلوبنا أسفل أحذيتنا؟ هل حدث ما هو أبعد؟ كل ما أذكره هو أننا تنبهنا مع ابتعاد السيارة بضعة أمتار إلى أننا نعرف هذا الصوت جيداً، هو صوت كيس عصائر أو حليب مجلتن انفجر تحت اطار السيارة، لم يقل أحدنا للآخر ذلك، ابتسمنا بمرارة وتابعنا الطريق وصوت الرصاص يقوم بدوره على أحسن وجه.
3
ليست حمى واحدة، الخراب هنا وهناك يمد لنا لسانه، مقابل ذلك ليس من ردود أفعال سوى التمترس خلف ما نعرف وليس خلف ما يجب أن نعرف! الكل عاد إلى القواعد القديمة ظناً منهم أنها متاريس صالحة ستحميهم من الخراب، في السعودية جاري العودة للمنطق القديم، آل سعود يحكمون، على يمينهم آل الشيخ أحفاد محمد بن عبد الوهاب، هل علينا أن ننتظر المد الوهابي من جديد لنتحدث عن الوهابيين الجدد!؟ وبأي صيغة يا ترى؟! في اليمن عاد الحوثيون أحفاد الإمام – وعينهم على الماضي – وكأنهم يقولون أن كل تلك السنوات التي قضاها اليمن السعيد بعيداً عن حكم الإمام كانت غلطة تاريخية يجب تصحيحها! في مصر الدولة العميقة هي الحل، في العراق المحاصصة وليس غيرها هي الحل، في سوريا “نار بشار ولا جنة الإرهابيين!” هل بإمكاننا هنا أن نتجاهل النوستالجيا الضارة، حنين عوام المصريين لأيام مبارك “حرامي حرامي بس كنا عايشين في أمان!” أو حنين عوام العراقيين – حتى الشيعة منهم – لأيام صدام! في خلفية المشهد لا مكان للنخب العربية سوى مواضع هزيلة تحت ركبة هذا أو ذاك ولا دور سوى دور الوصيف، أو أنني – مدفوعاً بمرارة لا أطيق الصبر عليها – ينبغي أن أقول دور “صبي العالمة” بالتعبير المصري الدارج، يطبل ويمسك المنشفة لهذه الراقصة طالما هي على المسرح، فإذا غادرتهُ طواعية أو كرهاً يطبل ويمسك الفوطة لغريمتها، لم أجد من يصرخ في وجه الجميع: “كفى دماً”، “كفى خراباً”.
4
لا يملكون جزيرة معزولة ولا أساطيل وحاملات طائرات تحرس طبقات أعمق من الكراهية والكتمان، سوى تلك الأطلال (الخرائب بتعبير أفضل) التي صارت تحت امرتهم بفعل غضب لا أحد يعلم من أين استمد كل هذا الكمد وأحلام تراودهم في الليل عن أحصنة بيضاء تمخر العباب وسيوف تلمع، أنهار من لبن وعسل، لا شئ هناك، لا أحد يسألني متى وكيف تماهي الضحية مع الجلاد؟ أسألوا سكان تل أبيب، الفارق البسيط هنا أنهم لم يأخذوا عن الجلاد تأنقه وكتمانه.
في القميص البرتقالي كان يتقدم بعين مجروحة وجارحة، بشكل خاص جرحني في أعماقي عندما كان ينظر إلى أعلى من دون أن يتكلم، من كل صف المسلحين والملثمين اختارت العدسة عين ملثم بنظرة باردة لا تعرف الندم، هل كان يعرف مصير صاحب القميص البرتقالي؟ كانت النظرتان أكثر إيلاماً لي من النار في القفص، هل فكر أحدٌ في الحائط المائل والمهدم لأطلال بيت عبرته العدسة سريعاً؟ هل تساءل أحدٌ: كم روحٌ إنسانية كانت تسكن خلف هذا الجدار؟ غرق الجميع في مشهد القفص الذي احترق من بداخله، أما في الداخل جداً فلم تتحرك سوى تلك الروح القديمة “الثأر”، أبيدوهم، أحرقوهم، أذيقوهم من نفس الكأس، لو تأخر إعدام “ساجدة الريشاوي” لتحدث كثيرون عن ضرورة إحراقها بدلأ من إعدامها شنقاً! هذا ما أظنه.
الناس في بلداننا أعداء ما يجهلونه، طبيعي أن يكونوا أخلص العشاق لما يعرفونه، هل سمع أحدكم من قبل هذا المثل الصحراوي القديم: “الشر سياج أهله”؟ هل ينبغي أن أتحدث هنا عن “صدمة الرعب كأحد الاستراتيجيات العسكرية، دعك من هذا، ملايين الضحايا يتمددون على الخريطة العربية من شرقها إلى غربها سأبصق في وجهك لو قلت لي بأن هؤلاء هم المسؤولين عن مصائرهم، هل رأيت؛ أنا الآخر يمكنني أن أغضب.
5
تقريباً في نهاية الثمانينيات، عقد حقيبته على ظهره وسافر إلى العراق، ظن أهله الريفيون أنه فعل ذلك سعياً وراء رزقه كما فعل كثيرون من أبناء القرية، في أشهر الغياب راحوا يجهزون في رؤوسهم عروساً تليق ومكاناً يصلح لإقامة بيت بالطوب الأحمر بدلاً من الطوب اللبن الذي يعيشون فيه، لكن رأسه كان في مكان آخر، كتب لي في رسالة مازلت أحتفظ بها أنه لم يذهب إلى العراق إلا ليمشي على خطى السيّاب، بعد أشهر ليست بالطويلة عاد وليس في الحقيبة سوى نسختين من الأعمال الكاملة لبول إيلوار، إحداها مازالت في خزانة كتبي ممهورة بشعار دائرة الشؤون الثقافية بالعراق، في رأسي يلمع الآن مقطع شعري من إحدى قصائده: “هي الصحراء لا خمرٌ ولا عسلُ .. ولا نهدٌ من التقبيل يغتسلُ”، ذهب عني أو ذهبت عنه، باختصار فرقت بيننا ظروف الحياة، لترمي الصدفة بابن عمه في طريقي، كان ذلك منذ حوالي العامين، سألته عنه، فقال : “ادع له”، خفق قلبي، فتابع: “تركته في المستشفى يجري عملية صمام في القلب بعد أن مل الأطباء من نصحه لتخفيف وزنه، في رأسي كنت أستعيد صورته بجسده النحيل والقلق الذي لا يفارقه، أمسكت الصدمة لساني فلم أسأله المزيد، هو الذي تابع: “لو رأيته الآن لن تعرفه، أصبح شخصاً آخر، بلحيته الطويلة التي تجاوز كرشه وجسده البدين الذي بالكاد يتحرك.
أنا أم هو؟ لا أعلم من اختفى أولاً، مرات عديدة أضبط نفسي وأنا في حالة حنين للحظاتنا معاً، لم أفاجأ كثيراً عندما وجدت على الأكاونت الخاص به لوحة سوداء يتوسطها لفظ الجلالة بالأبيض.
أقول ذلك لمن يتحدثون بجدية عن الأميّة والتنوير ودور المؤسسات الدينية و….. و……، ما أعرفه أن الجرح أعمق.
6
عندما آلت ملكية الحياة اللندنية لآل خاشقجي لم أفهم، نعم حزنت على كتابة ظلت في الطليعة تنير وتنتصر على أنفاق العتمة الملغمة بالمذهبية تارة وبالطائفية تارة أخرى، خفت على الضحكة الصافية لصاحبي وصاحب “مالك الليل الحزين”، لم يكن يتكلم من حنجرته، من قلبه مباشرة، يرحب بي: “إزيك يا أشرف عامل إيه، وسينا عامله إيه؟ . اقعد يا راجل . اقعد “يقول ذلك ولا يجلس إلا بعد أن أجلس، خفت على غرفة صغيرة في آخر الممر، بالكاد تسع مكتباً بمقعد صغير، أمامها كرسيين لاستقبال ضيوفه الأقل، في القاهرة كانوا لا يخجلون من أن يقولونها في وجهي، ” كيف لرجل يعيش في أطراف العالم أن ينشر ما يكتبه، وأين في الحياة!” اطمئنوا : صاحبكم لا ينعم الآن بالقدرة على النشر ولا حتى في الجرائد المحلية!” لا علينا، لم يكن انتقال ملكية الحياة إلى آل خاشقجي الإشارة، ثمة إشارات أخرى وجب عليّ فهمها لكنني لم أفعل، استغرقت في تجرعها – كما هو حال كثيرين – كواقع عليّ التكيّف معه، فعل الخوف ما عليه، وبدلاً من التوقف ولو للحظة لتأمل ما كان يجري، دفعتنا أمامها الدواليب العملاقة لكائن خرافي لا أحد يعلم من كان يحركه، أغمضت عيوننا عن الخراب الذي يمد قدمية باتساع خريطة وجودنا، لا تحدثني عن البترودولار ولا عن العقد التاريخية ولا عن التواطؤ بين العمى والعصبية.
في لحظة نادرة نكأ أحدهم الدمل فتدفق الصديد ومازال، أظن ذلك سيستمر إلى أجل يعلمه الله، سمه ربيعاً عربياً، سمّه خريفاً، سمّه ماشئت، ما أنا متأكد منه هو – كما قلت لصديق بعد يناير 2011 بشهور أن – الإنجاز اللافت لتلك اللحظة هي أنها رفعت غطاء بالوعة الصرف، عرّت واقعاً لا مكان فيه سوى لروائح الجثث المتفسخة، دم فاسد، بول، غائط، صديد مع الاعتذار لباتريك زوسكيند. هل هذا كل ما هناك؟.
7
قبل ثلاث سنوات، ربما أكثر، تداول الناس هنا في سيناء نبوءة “البلاد المنفية وولاد الهفية”، كأنهم رأوا ببصيرتهم هذا الخراب قبل أن يمشي على قدمين، مرّات عديدة كنت أضبط نفسي وأنا أستعير الطمأنينة من أصوات ثغاء الماعز الصباحية المتداخلة مع أصوات الرصاص المتقطعة، أصوات الديكة التي لم يستطع صوت الأسلحة الثقيلة ولا الخفيفة ولا حتى زئير الطائرات أن يوقف انتظامها، أحد المرات كنت عائداً إلى البيت بعد أن انخلع قلبي أكثر من مرة أنا وسكان البلدة كلها نزحف تحت آلامنا ونحن نتحاشي الرصاص والموت الذي يسعى هنا وهناك على قدمين، لم تنقطع أصوات الرصاص، ما أدهشني، خطفني من خوفي، وجعلني أرفع رأسي عالياً، وأملأ رئتي بالأمل، كانت خنفساء سوداء تلمع على الرمل الأبيض وهي تدفع أمامها كرة كبيرة من الروث. أكثر من مرة كانت كرة الروث تتدحرج لأسفل لكن الخنفساء لم تيأس، أنا الآخر لم أتحرك – رغم أصوات الرصاص غير البعيدة – من مكاني إلا بعد أن أفلحت أخيراً في الوصول، كان المشهد يستحق.
ما أخشى أن أقوله أن هذا الخراب ضريبة تأخرنا كثيراً في دفعها، لست ممن يؤمنون بنظرية الضروريات التاريخية، لكن قراءة ولو حتى متعجلة لماضي أوروبا القريب لا يترك لنا مجالاً ولا فسحة للأمل في النجاة من مثل هكذا مصير، هكذا ويضربة يأس صارمة ليس أمامنا إلا أن نعقد صلات، الذين يتكلمون عن أوروبا بوصفها نموذجاً لا يذكرون ما دفعته كي تصل لتلك الحال، كتاب “العبودية المختارة” لإيتين دي لابوسيية انتظر 300 عام كي يتم نشره، مجازر، إبادة عرقية، حروب طاحنة باسم الدين بين الكاثوليك والبروتوستانت، الخراب الذي لم يكن يملك وقتها آلات تصوير لتوثيقه ولا فضائيات ولا انترنت لخلق موائد صراخ وعويل حوله على مدار الساعة، حتى التمترس حول الفاشيات كعصا سحرية للعصمة من الهلاك المقيم، سيعطيك المثال الأوروبي الحكمة لتستنير، فلا موسوليني أنقذ إيطاليا، ولا هتلر جنب الألمان الهلاك، في اسبانيا ما فعله فرانكو ليس بعيداً عن كل ذلك.
حتى النموذج الأمريكي لا يتم استحضاره عربياً إلا ونحن نستبعد من المخيلة الحروب الأهلية الطاحنة، حروب الإبادة ضد حضارات كحضارة شعوب المايا، نعم ربما كنا محظوظين بوصول البشرية إلى درجة من الوعي ربما لا تسمح لهذا الخراب بأن يتمدد، خصوصاً وأن الجغرافيات المنغلقة لم يعد لها وجود، ممتع ومفيد قراءة انتقام الجغرافيا لكوبلن، لاحظ الانزعاج الأوروبي بعد أن وصل الخراب إلى أطرافها.
8
عربياً يتجاذب طرفان لا ثالث لهما الحبل، طرف يتمترس خلف الدين، وطرف يتمترس خلف الوطنية بمفهومها الضيق المتشنج لا المواطنة بمفهومها الواسع المتسامح، طرف يحتكر الحديث عن الله عز وجل، وطرف يحتكر الحديث عن الوطن، ما يحيي الأمل في قلبي أن الغالبية العظمى ورغم تدني الوعي و عمي النخب لا تتمترس لا خلف هذا ولا ذاك وانما تتمترس خلف الحياة.
ما أنا على ثقة فيه أن هناك في الواقع العربي المعاش مشاهد لا حصر لها لا تقل قيمة عن لوحة بيكاسو الشهيرة انتصار جرنيكا، هي وحدها البندورة، هي وحدها القدرة على التعايش، هي وحدها القدرة على مواصلة الحياة من ستنتصر في النهاية.
_____________________________
شاعر من مصر صدر له “عزف منفرد” 1996، “صحراء احتياطية” 2014
الصورة للفوتوغرافي الأمريكي Mitch Dobrowner
*****
خاص بأوكسجين