امبرتو ايكو: قد يوّلد الإبداع واقعاً 1-2
العدد 188 | 01 آذار 2016
ترجمة عزة حسون


عندما اتصلت للمرة الأولى بامبرتو ايكو، كلّمني من مكتبه في قصره الذي يعود إلى القرن السابع عشر، ذاك الواقع على التلال خارج أوربينو قرب الساحل الأدرياتيكي. تغنى وقتها بمزايا حوض السباحة لديه كما أبدى شكوكًا حول قدرتي على التعامل مع منحنيات طرقات الجبال الوعرة في تلك المنطقة. لذلك اتفقنا أن نلتقي في شقته في ميلان. وصلت إلى الشقة أواخر آب في أكثر أيام الصيف حرارة، وأثناء احتفال الكنيسة الكاثوليكية بعيد انتقال مريم العذراء. التمعت مباني ميلانو الرمادية تحت أشعة الشمس واستقرت طبقة خفيفة من الغبار على الأرصفة وبالكاد مرّت أي سيارات. عندما وصلت إلى مبنى أمبرتو وأخذت المصعد القديم سمعت صرير الباب في الأعلى ثم ظهر أمبرتو خلف قضبان المصعد المعدني وقال عابسًا قليلًا: “آآآه.”

بدت الشقة متاهةً من الأروقة المليئة برفوف الكتب التي تصل حتى السقف العالي جدًا. هناك حوالي ثلاثين ألف كتاب كما يقول ايكو وعشرين ألفًا أخرى في قصره. رأيت مقالات لبطليموس وروايات كالفينو ودراسات نقدية لسوسير وجويس وأقسام كاملة في التاريخ القروسطي ومخطوطات سرّية. تبدو المكتبة حيّة مع كل هذه الكتب المهترئة من كثرة الاستخدام. يقرأ ايكو بسرعة كبيرة ولديه ذاكرة مذهلة. هناك أيضًا متاهة من الرفوف التي تحمل أعماله الكاملة والمترجمة إلى العربية والفنلندية واليابانية…. توقفت عن العد بعد اللغة الثلاثين. أشار إيكو إلى كتبه بدقة عاشق لافتًا انتباهي إلى مجلد تلو الأخرى منذ عمله الأول المشهود في النظرية النقدية وهو بعنوان “العمل المفتوح” إلى آخر أعماله “عن القبح”.

بدأ ايكو عمله باحثاً في الدراسات القروسطية والسيميائية. في عام 1980 وفي سن الثامنة والأربعين نشر روايته “اسم الوردة” التي أحدثت ضجة عالمية وبيع منها ما يزيد على العشر ملايين نسخة. وهكذا تحول البرفسور إلى نجم أدبي يلاحقه الصحفيون ويُخطب ود تعليقاته الثقافية مع احترام كبير لمعرفته الواسعة. وأصبح ايكو من أهم الكُتاب الايطاليين ممن يزالون على قيد الحياة (نشر اللقاء في صيف 2008). ومنذ نشر روايته استمر بكتابة المقالات الغريبة والأعمال البحثية إضافة لأربع روايات حققت أيضًا أفضل المبيعات بما فيها 

“بندول فوكو”(Foucault’s Pendulum)  1998

و “شعلة الملكة لونا الغامضة”  (The Mysterious Flame of Queen Loana) 2004

توجهنا إلى غرفة الجلوس وعبر النوافذ لاح قصر قروسطي هائل على خلفية سماء ميلانو. توقعت أن أرى أنسجة مزدانة بالرسوم والصور وتحف ايطالية ولكن بدلًا من ذلك وجدت أثاثًا حديث الطراز، والعديد من الخزائن الزجاجية التي تعرض أصداف ومجلات فكاهية نادرة وآلة عود ومجموعة من الاسطوانات ومجموعة من فراشي الألوان. “هذه الفرشاة أهداها لي خصيصًا الفنان أرمان.. ” أشار ايكو إلى إحداها.

جلست على كنبة بيضاء وغرق ايكو في كرسي منخفض وبيده سيجار. اعتاد تدخين ستين سيجارة يوميًا كما أخبرني ولكنه الآن يحمل سيجارًا دون اشعاله. عندما سألته السؤال الأول أغمض عينيه ثم فتحهما فجأة عندما حان دوره للتكلم والإجابة. ” لقد ظهر عندي شغف بالعصور الوسطى كما يطور الناس شغفًا بجوز الهند.” إيكو معروف في ايطاليا بردوده السريعة والكوميدية التي يلقيها تقريبًا مع كل عبارة. يبدو أن صوته يعلو كلما استطرد في الكلام، وسرعان ما بدأ يلخص مجموعة من الأفكار وكأنه يتكلم إلى صف مستغرق في محاضرة: ” أولًا عندما كتبت اسم الوردة لم أعلم تمامًا كما هو حال الجميع ما هو مكتوب في المجلد المفقود، مجلد الكوميديا الشهير، في كتاب “الشعر” لأرسطو. ولكن بطريقة ما وخلال كتابتي لرواية اسم الوردة اكتشفت هذا المجلد. ثانيًا تتمحور الروايات البوليسية حول السؤال الرئيسي في الفلسفة:  من الذي قام بالفعل؟ 

إن رأى إيكو أن محاوره ذكي كفاية يسارع إلى اظهار تقديره المهني “نعم جيد، لكن أود أن أضيف..”

بعد جلسة حوار دامت ساعتين وصل ماريو أندريوس ناشر ايكو ورئيس التحرير في دار بومبياني ليصحبنا إلى العشاء. جلست رينتي رامج (Renate Ramge) زوجة ايكو البالغة من العمر خمسًا وأربعين عامًا مع أندريوس في المقعد الأمامي وجلست مع امبرتو في الخلف. بدا ايكو متجهم الوجه وشاردًا ولكن مزاجه تغير عندما وصلنا إلى المطعم ووضع الخبز أمامنا. نظر إلى القائمة مترددًا وعندما وصل النادل طلب على الفور كالزوني وكأس من الويسكي. ” أجل