امبرتو ايكو: الأدب الحقيقي يحكي عن الفاشلين
العدد 183 | 21 تشرين الثاني 2015
ماركوس براون/ ترجمة: شذى يوسف


منذ صدور روايته الأولى “اسم الوردة” في عام 1980، وُسِمت أعمال امبرتو إيكو بمفارقة غريبة -حيث لا يمكنك أبداً توقّع ما ينتظرك، ولكنّك حتماً ستلاحظ البصمة الواضحة لإيكو.

ستتكشف الحبكات عن صميم مؤامراتٍ ضخمة، حيث تمتزج تفاصيل تاريخية غامضة مع المجهول. وتبقى تلك الإجراءات الموجهة في الظلّ بينما تربض مؤامراتٌ أخرى على بُعد بضع صفحات.

“لا أعرف ما الّذي يتوقّعه القارئ. أظن أنّ باربارا كارتلاند تكتب ما يتوقّعه القارئ” هذا ما قاله في لقاءٍ مباشر أجراه لـ “الجارديان” باستضافة رئيس قسم اللغة الإنكليزية في جامعة لندن، جون مولان.

الهدف هو صنع القارئ الذي تريده أنت لكل قصة

“أعتقد أنّ من واجب الكاتب أن يأتي بما لا يتوقّعه القارئ. فليست المسألة أن تسأل ما الذي يحتاجه، ولكن تغييره… ليصبح القارئَ الذي تريده أنت لكلّ قصّة.”

في عمله الأخير، “العدد صفر” يُعيّن الصحافي الهاوي، كولونا، من قبل أحد عمالقة قطاع العقارات والاتصالات ليعمل على صحيفة دوماني، التي لم يُنشر منها أيّ عدد بعد.

قام كولونا والمحررون بعد تكليفهم بإعداد صحيفة من الممكن ألّا تصدر أبداً، بوضع جدول أعمال يناسب رئيسهم، الملقب بـ “القائد”، الذي يطمح لاستخدام هذه الصحيفة كوسيلة لابتزاز نخبة الساسة والأثرياء في إيطاليا عبر مزيج من التلميحات المكثّفة والتعليقات الزائفة لترويع النافذين في البلاد.

وفي سياق الرواية، يتنبّه كولونا إلى مؤامرة ضخمة تشير إلى أنّ موسوليني لم يعدم، بل استُبدل بشبيه له قبل تنفيذ الإعدام – وأنّه نجا على عكس نظامه، ومازال حيّاً يرزق في الأرجنتين، حيث من المحتمل أن تكون له يدٌ في الكثير من المؤامرات التي حاولت زعزعة استقرار إيطاليا في فترة ما بعد الحرب، كحادثة خطف واغتيال رئيس الوزراء ألدو مورو في العام 1978.

50% من آراء الشعب مبنيّة على الزيف

“أنا فيلسوف؛ أكتب الروايات فقط في أيام العطلة” قال إيكو. “وبصفتي فيلسوفاً فأنا أهتمّ بالحقيقة. وبما أنه من الصعوبة بمكان معرفة الحقيقة من الزيف، اكتشفت أنه من الأسهل الوصول إلى الحقيقة عبر تحليل الزيف.

وأكمل، “باعتقادي فإنّ ما يفوق 50% من رأي العامّة مبنيّ على الزيف. ونحن نتعرّض للابتزاز على أيدي هؤلاء.”

تشير رواية العدد صفر أيضاً إلى منظمة حقيقية عملت في الظلّ، عُرفت باسم غلاديو، أدارت أعمالها في إيطاليا وسائر أوروبا في فترة الحرب الباردة على شكل شبكة من خلايا المقاومة الكامنة هدفها الوقوف في وجه أي غزو من قبل الاتّحاد السوفياتي.

“مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبهدف إيقاف غزو محتمل تتعرض له أوروبا، حاولوا تكوين مجتمع سريّ ضمّ أناساً مدربين للدخول في حرب حزبية، بالإضافة إلى بعض الفاشيين السابقين. امتدّت أعمال غلاديو لتشمل أوروبا كلّها دون أن يعلم بذلك أحد” قال إيكو. 

أستخدم في جميع رواياتي الكثير من الحقائق التي طالما ساد الاعتقاد بأنها من نسج خيالي. ففي رواية “جزيرة اليوم السابق” كان هناك آلة غريبة تراقب أقمار كوكب المشتري، هذا بالطبع أمر مضحك، فقد كانت من اختراع العالم غاليلو وجَرت عدّة محاولات لبيعها إلى الألمان، إلّا أنها باءت بالفشل إذ أنها كانت جنوناً بالكامل، ولكن عندما تروي ذلك كقصّة فإنها تكون مضحكة.”

“الواقع مذهل فهو أكثر إبداعاً من الخيال.” 

لطالما كانت المؤامرات الخيالية هي الأفضل

ولكن ماذا عن وجود المؤامرات في العالم الحقيقي؟ قاربت أغلب أعمال إيكو في المساحات التي يقود فيها الشّك الصحيح إلى الإصابة بجنون الارتياب – اعتقد إيكو بوجود غريزة لا بدّ لنا من حماية أنفسنا منها إذا أردنا الوصول إلى الحقيقة.

“أنا لا أنكر وجود المؤامرات على أرض الواقع، لكنّ الحقيقية منها سبق واكتشفت. فاغتيال يوليوس قيصر كان مؤامرة – لقد كان نجاحاً، وقد كان واضحاً… أن مكيدة البارود كانت مؤامرة. لذلك أقول أنّ المؤامرات الحقيقية سبق اكتشافها. المؤامرات المؤثّرة بحقّ هي تلك التي لا توجد حقاً؛ فبينما لا يمكنك التظاهر بأنها غير موجودة تستمرّ هي بالتسرب إلى أذهان العامة وتغذّي عقول الكثيرين من السذّج. 

الأدب الحقيقي دائماً يكون عن الخاسرين 

فيما بعد، اقتبس مولان أحد جمله المفضلة من رواية العدد صفر – “إنّ متعة المعرفة الواسعة محصورة بالخاسرين” -قبل أن يسأل إيكو عن السبب وراء خياره بسرد القصّة من وجهة نظر شخصيّة خائبة.

“هذا هو الأدب” قال إيكو. “دوستويفسكي كتب عن الخاسرين. والشخصيّة الرئيسية في الإلياذة كانت هكتور، الذي هُزم وكان خاسراً. إنّه لمن المملّ التكلم عن المنتصرين. الأدب الحقيقي كان قصصاً عن الخاسرين. مدام بوفاري كانت خاسرة. جوليان سوريل كان خاسراً، أنا فقط أسير في الطريق نفسه. فالخاسرون هم الأكثر سحراً.

“المنتصرون أغبياء… فانتصارهم غالباً ما يكون محض صدفة.”

____________________________________

عن جريدة الغارديان

الصورة للفوتوغرافي الفرنسي جيلبرت جارسين (Gilbert Garcin)

*****

خاص بأوكسجين