المَبْخَرَة
العدد 192 | 05 حزيران 2016
نادين باخص


[إلى بيت جدّي الذي كانَــني]

 

في المحطّة

أمامَ سِكّةِ قطارٍ

فَتَحْتُ عينيَّ عليه

يروحُ ويجيءُ مُحَمَّلاً بالخرافات،

تُطِلُّ شُرَفَةُ بيتِ جدّي.

 

سَبْعُ حفيداتٍ من أربعِ بنات

وحفيدٌ بَعَثَتْ به السّماءُ

لردِّ عينٍ

تُريدُ أنْ تُصيبَ الزّهراتِ الإحدى عشرةَ

بسوء،

أو ربّما

لملءِ قلبِ جدّتي المَحزونِ على

“ظافرٍ”

لم تستطعْ إنجابَه.

 

أبو ظافر يُجيدُ انتقاءَ أفضلِ قِطَعِ العِجْل

يقولُ لأبي مباهياُ:

(لحمة فستق،

“بِتْل” الورد).

ويرمي نردَه

ليندُبَ حظّه الـ “يوك”.

 

يضحكُ أبي

ويواصلُ تحريكَ حجارِه

نحوَ فوزٍ مُحتَّم،

وفي صدره ينبضُ

قلبُ صهرٍ

أغلى من الابن.

/

 

في المطبخ

كانت الطاولةُ المستطيلة

تتّسعُ لبطوننا الجائعة،

خزائنُه العامرة بعُلَبِ الزيتون

والمكدوس

والجبنة البلديّة

ملجأُ جدّتي حين تباغِتُها العائلةُ

في إحدى المساءات،

وعجينةُ البيتزا

مرسى القلوب

وعربونُ دلالِ الجدّة.

 

عشاءاتٌ مُفعمةٌ بزيتِ الزّيتون

تُغرِقُ به جدّتي

صحونَ اللّبنة، والحُمّص، والبطاطا المسلوقة..

وشايٌ بطعمِ الحنينِ المُدَّخر

للقادمِ من الأيّام.

/

 

غرفةُ الجلوسِ الواسعة

من مخملٍ أزرق

ورنينِ ضحكات.

 

مناوشاتُ البناتِ،

ونِدّيّةُ العدلان الفكاهيّة،

نُغلِقُ الأبوابَ خوفاً على فرحنا

من جيرانٍ

يخالونُه جنوناً.

 

كُحلةُ أمّي وخالتي أمل

نلحقُها بالمناديل قبلَ أنْ تسيلَ

وغالباً ما نتأخّر.

/

 

كلُّ غُرَفِ الاستقبالِ في البيوت

تُدعى “صالونات”

إلّا في بيت جدّي

اسمها (الصّالية)،

شاهدةُ السّهرات،

وأفراحِ العائلة.

/

 

في كلّ عيدِ ربٍّ

تفتحُ السماءُ أبوابَها

لنَسْجُدَ على الشّرفة

بقيادةِ جدّتي ليلى

“مايسترو” صلواتِ العائلة.

/

 

شموعٌ لا تنطفئ

على نيّةِ البنات

وبناتهنّ،

وصلبانٌ

ظلَّتْ جدّتي ترسمُها لتحرسَنا

مُتكئةً

على أيقونةِ العذراءِ العجائبيّة

لطالما بثّتْ بخورَها

كلّما أصابَ البيتَ الكبيرَ

كَرْب.

/

 

أيقوناتٌ

سمعْتُ قصصَ الرّبِّ في ظلّها،

ويهوذا تعرّفْتُ به

في لوحةِ العشاء الأخير المعلّقة

في غرفةِ الطّعام.

/

 

أَورَثَني جدّي “حكمت” حُبَّ الشّعر،

وعَظْمةَ الأنفِ، والقدَم،

وجدّتي حاسّتَها السادسة،

وخوفَ الأمِّ المبالَغ به،

وكلاهما الكثيرَ من الصلوات،

ومحبّةَ الرّبّ!

/

 

ما زالت خطواتُ جدّي

تحفرُ في ذاكرتي

فيما يتّجه إلى الخزانة الحمراء

ليُخْرِجَ السّطلَ النّحاسيّ المزخرف

خبّأ لي فيه قِطَعَ الشوكولا،

والكثيرَ من الحبّ

مُتّكئاً على عصاه الخشبية

لم أرْتضِ أقلَّ منها ميراثاً

بعد أنْ غاب.

/

 

للممرّ الضيّقِ المُفضي إلى غُرَفِ النّومِ

أسرارُه،

في خزانته

_صندوقِ عجائبِه_

عَثَرْتُ على ثروةٍ من كتب،

وفي آخره تقعُ “الغرفة الصغيرة”

حيث “الكون كان” بطلةُ الجلسات،

نقضي بعد الظهر

بانتظارِ جوكرٍ لا يأتي.

/

 

فُتاةُ “التارت”

خَبَزَتْه “ليلى”

على شرفِ الحفيداتِ

يملأ السجادة الخمريّة،

ودخانُها (الشرق)

يخنقُ هواءَ الغرفة

فيما تُكمِلُ مَضْغَ ما تبقّى من تّبغِ

في عَقِبِ لفافتها العشرين

غير آبهةٍ

بعدّاد السّنين يجري.

/

 

“هيا”

آخرُ حصادِ الحفيدات

تزرعُ البيتَ بمشاكساتها..

لم تترك امرأةً في حمص

دون أنْ تُطَرِّزَ بكفُّها الصغيرة

وجهَها بصفعة.

 

السكاكينُ التي لطالما هدّدَتْ

بأنْ تطعنَنا بها

تشهدُ

على أنّ أبانا الذي في السّماء

خلقَها

وكسَرَ القالب.

/

 

لغرفةِ نومِ الجدّين

حكاياتُ الطفولة، والمراهقة

صَهرَتْنا ابنةُ خالتي “ميس” وأنا

مثلما صهرَتْنا ثمانينيات القرن الماضي

في السنة ذاتها.

 

ميّزَتْنا شهورٌ أربعة

أكبرُها بها،

وفرَّقَتْنا دمشقُ التي

وُلِدَت فيها.

 

صوتُ آذانِ الفجر

وصفيرُ قطارِ الثالثةِ فجراً

يستحيلُ أنْ يفوتَنا.

 

نغفو حين تشاكسُ الشمسُ “أبجورَ” النافذة

ولم نرتوِ بعدُ من الكلام.

/

 

غرفةُ النّومِ الورديّة

نامَتْ أمّي فيها لسنوات

قبل أنْ يحتضنُها دفءُ أبي..

لطالما حكَتْ لي فيها خالتي الصّغرى

حكاياتِ ما قبل نومٍ

لا بدّ أنْ يتخلّلَه الملاكُ الحارس،

يضعُ لي هديّةً تحت الوسادة

ويرحل

تاركاً عبقَه

في ورقِ الجدران.

/

 

تؤولُ تلك السنين إلى

بضعِ كلماتٍ

في قصيدةٍ مُختنقة.

تختفي ضحكاتُ الحفيدات،

وتمكثُ كلُّ بنتٍ في بيتها

لا أبٌ يذهبنَ لتحضيرِ حساءِ الأرزّ له،

ولا أمٌّ يشربن معها القهوة،

ولا بيتٌ يتفقّدنَ ما علقَ من أرواحهنّ في زواياه،

أو أصص زرعٍ يسقينها على شرفةٍ

لطالما كانت مفتوحة على الحبّ.

 

مختصرُ حكايةِ تلك السنين

أنّ بيتَ الجدّ ذاك

كان مَبْخرةً،

انقلبَتْ بعد احتراقِ آخرِ حبّاتِ بخورها

وظلّ الرّمادُ

الشاهدَ الوحيدَ

على ماضٍ من بَرَكة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من سورية. من مؤلفاتها رواية بعنوان "وانتهت بنقطة"" 2009، و""أُخفي الأنوثة"" 2012، و""حمص ويستمر"" 2015."