المسلّح والأعزل
العدد 230 | 28 نيسان 2018
محمد فطومي


مضت ساعة على مغادرتهما المُعسكر  في اتّجاه مقرّ القيادة سيرا على الأقدام حيث سيكون على المُسلّح تسليم الرّجل الأعزل. مازال صدى كلمات  رئيسه وهو  يلقّنه الطّريق التي سيسلكها تتردّد  في أذنه:«إيّاك أن تغفل عنه طرفة عين. لا نريد مشاكل من أيّ نوع. ينبغي أن يصل سليما معافى. إنّها مسألة حياة أو موت». ربّما لو أمكنه أن يعرف قصّة الرّجل لاختلف الأمر. فكّر. لا يدري كيف تحديدا. لكن دون شكّ يظلّ إلمامه بكلّ جوانب العمليّة أفضل دائما.

لعن في سرّه الإجازات ومن أوجدها. خلال الإجازة يستيقظ باكرا كالعادة، لكنّه يمكث في الفراش حتّى العاشرة مؤجّلا الشّروع في يوم سخيف حافل بوداعة جبريّة لا تُطاق. لم يعد ثمّة مجال ليعرف شيئا، فالرّجل الذي في عهدته والذي حتّى فترة قريبة كان إذا نال منه التّعب ظنّ أنّه مريض، منكفؤٌ على نفسه الآن ولا يريد إهدار  ما بقي له من جهد في غير  المشي.  قبل الرّحلة كان عليهم تضميد جرح تسبّبت له فيه شظيّة استقرّت في فخذه. كان يعرج دون أن يبدو  عليه الوهن كأنّه وُلد كذلك. اليدان مقيّدتان أمامه بحبل خشن ولم يكن على وجهه ما يدلّ على أنّه أسير.  في البداية عندما كانت الطّريق عبارة عن مسلك ترابيّ ممهّد كانا يسيران جنبا إلى جنب. لكن عندما انقطعت في قلب الغابة تراجع المسلّح خطوتين إلى الوراء مُعوّلا تماما على الرّجل الأعزل . كان منذ البداية قد لاحظ أنّ الأخير يتقدّم كما لو كان بمفرده. لذا لم تكن فكرة سيّئة أن يتبعه من الخلف متظاهرا بحراسته خصوصا أنّه لا يرى أيّا من العلامات التي ذكرها له رئيسه قبل قليل. وكان يحمل حقيبة على ظهره و رشّاشا مصوّبا للرّجل الأعزل ومسدّسا يتدلّى من خصره وسكّينا بالكاد يبرز من غمد في حذائه. كان واضحا أنّ الأمور تجري كما حَدَس، مع ذلك وليبطل شكوكه تماما قال محاولا قدر استطاعته أن يبدو  كمن غلبته حاجته للتكلّم مع نفسه بصوت مسموع: « الطّريق من هنا وعرة لكنّها الأقلّ ارتفاعا». قال الرّجل الأعزل بعد صمت قاتل: « نحن في منحدر». نطقها بطريقة حرص على أن توحي بأنّه يؤيّده. أحسّ المُسلّح بالوضاعة إلاّ أنّه سرعان ما تجاوز إحساسه إلى الإذعان للآخر جهارا  مُحدّثا نفسه بأنّه الأقوى رغم أنف الرّجل الأعزل وأنف كلّ شيء على وجه الأرض.

زادت الّرطوبة من وطأة البرد في عمق الغابة. والرؤية لم تكن – بسبب فائض اللّون الأخضر  والسّماء الداكنة – تسمح  بامتداد يفوق البضعة أمتار. أمّا الهضاب المتفاوتة الارتفاع في الأفق  البعيد  والتي اعتقد المسلّح  لوهلة أنّ الأقصر بينها تخفي مقرّ القيادة فقد اختفت بدورها. الأشجار تحفّ بالرّجلين من كلّ اتّجاه. مع توغّلهما بدأت تظهر جذور زلقة ضخمة مكسوّة بالطّحالب. كما أنّ خشخشة الأوراق الميّتة باتت تنبؤ بخطر كامن. تعثّر المسلّح فجأة. تأوّه. سبّ الرّجل الأعزل واسترسل يصرخ: «الّلعنة عليكم وعلى أمّهاتكم. براغيث! لقطاء! حثالة!..». بعد صمت أردف بمزيج من الّلطف والترقّب:  «يمكننا أن نرتاح قليلا». تكلّم الرّجل الأعزل دون أن يلتفت إلى الوراء أو يفتر عزمه: « لا ليس هنا». لم يعارض المُسلّح. لمّا وصلا إلى مساحة دائريّة تكاد تكون جرداء أسند كلّ منهما ظهره إلى جذع شجرة على نحو يجعلهما متقابلين. قال الرّجل الأعزل:« أشعر بالجوع والعطش». أجاب المُسلّح بتهكّم:« لا تتعجّل. لابدّ أنّهم جهّزوا لك وليمة في المقرّ». ابتسم الرّجل الأعزل بصورة لا تخلو من الذلّ كأنّه يشهد للمُسلّح بروح الفكاهة. تابع المُسلّح : «أنت تضحك أليس كذلك؟.. أنت مضحك حقّا.. هل تدري ما الذي ينتظرك هناك.. أنا أخبرك.. سيصبّون الرّصاص الذّائب في حلقك.. لا تقلق، سيضعون لك منديلا على صدرك كي لا تلوّث ملابسك.. اضحك هيّا.. بعد ذلك سيطلقونك كي تشرب مع الخيول. ثمّ لعلّهم يثقبون رأسك». لم ينبس الرّجل الأعزل بحرف.  بل تضاءل على نحو  يُفَسَّر  بأنّه أذكى من أن يُغضب مُسَلّحا شريفاً. إلاّ أنّ المُسلّح ثار: « تبّا لكم لِمَ لا تهدؤون أبدا! لِمَ لا تدعون الحياة تستمرّ ! لِمَ يجب أن نخرج لملاحقتكم!». تكلّم الرّجل الأعزل: «لأجلنا جميعا». صرخ المُسلّح في هستيريا: «أنتم ضباع مسعورة ليس إلاّ». وبصوت خافت مرتعش أضاف: « ابنتي عمرها ستّ سنوات.. أتفهم معنى أن تكون لك ابنة عمرها ستّ سنوات؟ أفتقدها كثيرا.. هي الآن تعيش مع أمّي.. أحيانا أزورها.. لكن مضى الكثير من الوقت لم أفعل لأنّي غارق في المشاكل» . أومأ الرّجل الأعزل برأسه وارتسمت ملامح إشفاق وتفهّم على وجهه كأنّه يواسي الرّجلَ الوحيد في العالم الذي أنجب بنتا وحصل له ما حصل.« هيّا انهض. تحرّك. يبدو أنّك بدأت تتطاول » صرخ المُسلّح. قفز الرّجل الأعزل مرتكزا على ساقه السّليمة. تابعا السير صامتين لا تسمع سوى صوت خطواتهما. ثمّ خطر للمُسلّح أن يسلب الرّجل الأعزل معطفه ليرتديه فوق زيّه ويجعله يحمل الحقيبة بدلا عنه. «على طرزان أن يكون عاريا» قال. رضخ الرّجل الأعزل دون مقاومة. كان يترنّح من حين إلى آخر  وبدا على وشك السّقوط ميّتا في كل لحظة. خفّت كثافة الأشجار بشكل ملحوظ ولاح مقرّ القيادة على مسافة ميل تقريبا.

 توقّف الرّجلان.« قف مكانك!» قال المُسلّح بلهجة صارمة. التفت الرّجل الأعزل وإذا به أكبر من سنّه بعشرين سنة.  شعر أشيب وتجاعيد في الوجه ووعينان غائرتان في محجريهما وعروق نافرة من الصّدغين ولحية شعثاء لم تكن موجودة قبل ساعات. تراجع المُسلّح خطوة مصعوقا تماما. صوّب البندقيّة إلى صدر الرّجل الأعزل بثبات كأنّه يستعدّ لإعدامه. « لِم صرتَ هكذا؟» قال كأنّه يتضرّع إليه حتّى لا يؤذيه. ثمّ رويدا عاد إليه تماسكه فأخذ منه الحقيبة وأعاد إليه المعطف. وقدّم له الطّعام والماء الذي ادّخرهما للعودة. حلق له ذقنه. ثمّ راح يقلّبه يمينا وشمالا ماسكا إيّاه من فكّه الأسفل. «لم أصبحت هكذا تكلّم!» صرخ بعنف. وبهدوء أضاف وهو  يفكّ الحبل عن معصميه: «تثيرون المتاعب دائما.. أكان ضروريّا أن تصير شيخا حين شارفنا على الوصول.. ألم يكن في وسعك أن تؤجّل الأمر حتّى تصبح في عهدتهم». رمقه الرّجل الأعزل بنظرة هرمة خالية من التّعبير  فواصل: « أتدري. ليس من الصّعب التعرّف عليك.. ليسوا أغبياء إلى هذا الحدّ.. أنت هو وليس غيرك.. لِم لا تهدؤون لِمَ. لِمَ لا تدعون الحياة تستمرّ  في سلام!» نهض الرّجلان. علّق المُسلّح الرشّاش على ظهره وصوّب المسدّس في اتّجاه الرّجل الأعزل. واستأنفا المسير. المقرّ  الكائن على سفح أجمة صخريّة عائمٌ في الضّباب. لم يعد يفصلهما عنه سوى نهر يتدفّق ضعيفا. بأمر من المُسلّح توارى الرّجلان خلف شجرة كثيفة غير بعيد عن ضفةّ النّهر. أحكم ربط الحبل حول معصمي الرّجل الأعزل وراح ينفض عنه القشّ العالق بشعره وكتفيه.

– اسمع. قال. حدّثهم عن جماعتك بالتّفصيل. عن أسمائهم ووظائفهم. أتفهم؟ أخبرهم عن تاريخك. تحركاتك. لا أدري. أبناؤك. جيرانك. زوجتك. بهذه الطّريقة لن يشكّوا في أنّك أنت هو وليس غيرك. حدّثهم عن أمور تظنّ أنّك الوحيد الذي يعرفها. أتفهم؟ ولا تنس أن تقول لهم إنّ الضّابط تعامل معي بروح عسكريّة عالية.. لا. لا. هذه لا تقلها فهم دهاة وسيفطّنون إلى أنّي لقّنتك إيّاها. ماذا تعرفون أنتم عن أشياء كهذه! قل لهم إنّ الضّابط كان لطيفا معي. ولا تزد حرفا واحدا. أتفهم؟

أطرق الرّجل الأعزل. فشدّه المسلّح من ياقته:

– أتفهم؟ قال بعنف. ضباع قذرة. لِمَ يجب أن تنكّدوا الحياة لِمَ!

– حاول دائما أن يكون الصّنوبر على يمينك وعلى شمالك. ذاك هو طريق العودة. قال الرّجل الأعزل.

ثمّ وهو يسوّي للآخر ياقة المعطف قال المُسلّح:

– إيّاك أن تقول إنّ الضابط تعامل معي بروح عسكريّة عالية. أسمعت؟ ما أدراكم أنتم بأمور كهذه. قد تفسد كلّ شيء. حدّثهم فقط كما أوصيتك. أسمعت؟ (ثمّ متحاشيا النّظر إليه) بِمَ يُخبرك قلبك؟.. في اعتقادك هل سيصدّقوننا؟

 

 

 

 

 

 


كاتب وقاص من تونس. من اصداراته "زبد رخام"" 2013،و""جلّ ما تحتاجه زهرة قمرية"" 2017"