المثلّث الأحمر
العدد 269 | 21 كانون الثاني 2022
كاصد محمد


 

اكتشفتُ فجأة أنّ لديّ قدرةً خارقة.

 

حدث ذلك بصدفة تافهة وسخيفة، وقد غيّرتْ مجرى حياتي بالكامل. ومع أنّي حاولتُ أنْ أسخّر قوّتي الخارقة لفعل الخير، إلّا أنّني، في نهاية المطاف، تركتُ أثر الدم فوق البلاط وألقيتُ بنفسي في التهلكة.

 

ولا شكَّ أنّ معظمنا لا يؤمِنُ بالقدرات الخارقة لدى الأشخاص العاديّين، كتلك الّتي نراها في الأفلام: باتمان وسوبرمان وكلّ «المان» الآخرين. فمن يُصدّقُ بإمكانّيّة تحريك الأشياء بقوّة الذهن، وقراءة أفكار الآخرين وشفاء المرضى والقيام بمعجزاتٍ مذهلة إلخ؟ معَ ذلك فإنَّ كثيرًا منّا، ومن مختلف الثقافات، يؤمن بها لدى الأنبياء والأولياء والصالحين. بل إنّ الكثيرين يؤمنون بوجودها في أشخاصٍ خرقاء في نظرنا، خارقين في نظر غيرنا.

 

على أنّ جلّنا يحلم بها ويتمنّاها لنفسه في سحيق أعماقه، ولعلّ جزءً صغيرًا جدًّا وخفيًّا في طيّات عقولنا وقلوبنا يصدّق بها، وكلّ ما تبقى فينا يحاول نفيها وإنكارها. مع ذلك، فمن يصدّق بقدرة خارقة يمتلكها شخصٌ عاديٌّ مثلي؟ والحقيقة لم أصدّق حتى أنا، على الأقلّ أوّل الأمر، ولا أعرفُ أنْ كان ما حصل من أحداث هو تراكم لبعض الصدف أم بفعل القوّة الخارقة لديّ. وكان من نتائج هذه الأحداث، أو الصدف، أنْ جعلتني أصدّق بنفسي، أو هكذا توهّمت. إذ أنّ اعتقادك بنفسك ملاكًا لا يجعلك فعلًا ما تعتقد.

 

كان الشّبّان يمورون في «الإسطبل»، ما بين داخل وخارج. يحملون بأنفسهم الصواني التي تحوي مشروباتهم ويبحثون عن مقاعد شاغرة بين الطاولات التي توزّعتْ في ساحة الموسيقار جوسيبّه ڤيردي، في قلب مدينة بولونيا. فتيان وفتيات يشغلون المقاعد الكثيرة، يثرثرون ويمزحون. بعضهم يتناول القهوة وبعضهم يحتسي البيرة أوالنبيذ، والكثير منهم ينفثون دخان سجائرهم في سماء الساحة، بينما يسترقون النظر إلى جميلات المدينة.

وكنتُ أنا أجلِسُ إلى أحدى طاولات «الإسطبل»، في ركن من أركان الساحة، ارتشف القهوة وأسهم في تلويث الجو بدخان السجائر. أتأمّل هذا المكان الذي كان، ذات يوم، إسطبلًا حقيقيًّا لخيول عائلة «بينتيڤوليا» النبيلة التي سادتْ مدينة بولونيا الايطاليّة طوال القرن الخامس عشر، وقد أصبح من أشهر المقاهي. وطالما جذبت انتباهي جداريّة تعتلي بابه الرئيسي العظيم: لوحة للمسيح وقد أُنزلَ من على الصليب إلى حضن أمّه العذراء، والدم ينزف من خاصرته. أتطلّع إليها، وقد جاوز عمرها الخمسة قرون وبهتت ألوانها، وأتذكّر الأفران والمطاعم ومحالّ الأحذية في بلدي، وهي تحمل أسماءً مقدّسةً أو صورًا، لا شأن لها بالفن، فوق أو على واجهاتها. أظنّ أنّ الغرض واحد، طبعًا مع فارق المسافات، الزمنية والجغرافية … والأخرى منها.

ويُعتبرُ هذا البار الأقرب لقلوب الطلبة، والمكان المركزي الذي فيه يتواعدون وفيه يلتقون، كونه يقع في قلب المدينة النابض: في شارع جامعة بولونيا العريقة، الجامعة الأقدم في أوربا. وكونُه يحتفظ، حتّى الآن، باسمه الأصلي لا يخلو من متعة، بل ويبعث على رسم الابتسامة فوق الشفاه: «أين أنت؟ أنا في الإسطبل». «هيّا نذهب إلى الإسطبل لنأكل شيئًا ما». «كم أحبُّ المكوث في الإسطبل، أتطلّع على الداخلات والخارجات!». 

ولا أُنكرُ أنّني أنا أيضًا أحبّ قضاء بعض وقتي في الإسطبل، أطالع كتابًا ما، أو أطالع وجوه الحسناوات، على الأخصّ في الربيع وبدايات الصيف، حيث تنهمرُ الشمسُ الدافئة فتملأ الساحة بالحياة والصبايا الجميلات، بثيابهنّ التي تجعل المكان وكأنّه عرسٌ جماعي.

وكنتُ عصر ذلك اليوم أنتظر صديقًا لي، وهو طالبٌ مثلي في كلّية الآداب، سوى أنّه يطالع وجوه الجميلات وأنواع النبيذ والبيرة أكثر من مطالعته الكتب الدّراسيّة. فقد كان مسرِفًا في حبّه للنساء والنبيذ والمتعة، وقد اتّخذه مبدأً لحياته، وربّما بوسعي أنْ أقولَ عقيدةً، إذ هو يعتقد بما يُعرفُ بفلسفة الليبرتين أو الإباحيّة. إيمانهُ بأنّ الحياة تتكوّن من هذه الأشياء فقط كان إيمانًا أعمى، وكلّ ما تبقّى إنّما هو على الهامش. وعليّ أنْ أعترف أننّي أشعر بشيء من البغض على أشخاصٍ من هذا النوع، فأنا أستقبحُ كلّ أنواع الإسراف والتطرّف، حتّى لو كان في الأشياء الجميلة والبهيجة، وحتّى لو كان في الحب والخير. إذ دائمًا ما يسبّبُ ذلك مشاكل جمّة، وكما يُقال فالزيادة كالنقصان. ومع أنّ عصر ذلك اليوم الشباطيّ البارد لم يكنْ مثاليًّا للجلوس في تلك الساحة، إلّا أنّ صديقي فرضه عليّ، وأنا أعرف السبب.

وبينما كنتُ أنفث الدخان من سيجارتي وإذا بصبيّة ايطاليّة مليحة تدنو منّي، يسبقها عطرها المثير. يبرز وجهها الأبيض الصغير من بين قبّعةٍ صوفيّة حمراء يتهدّل من جانبيها شعرها البنّي، وشالٍ صوفي أحمر يلتفّ بحجمه الكبير حول رقبتها. وبصوت موسيقي وابتسامة عذبة سألتني فيما إذا كان الكرسيّ الذي بجانبي شاغرًا أم محجوزًا. طبعًا لم يكن في خلدها الجلوس معي إلى الطاولة، بل غرضها أنْ تأخذ الكرسي وتنضمّ إلى طاولة أصدقائها. وخطر بذهني لحظتها ما قد يفعلُه صديقي: يمنحها الكرسيّ دون قيد أو شرط، ويصحبه بكلماتٍ حلوةٍ وإطراء خادع يستخدمه مع كلّ النسوة، وتتفتّح في وجهه ابتسامة يكاد يسيل منها لعابه. وما كان بوسعي أنْ أفعل شيئًا كذلك، ولو ملّكوني نساء الأرض. ولا أدّعي أننّي زاهدٌ في النساء، فأنا أيضًا أحبّهنّ ككلّ الرجال، ولكن، بنحو معقول. والحقيقة فقد كان يصعبُ عليّ أنْ أردّ تلك الحسناء، وكدّتُ أدفعه إليها، لولا أنّي رأيتُ صاحبي يقبل علينا وكأنّه طيرٌ كاسرٌ ينقضّ على فريسته. اعتذرتُ من الصبيّة وأشرت إليه وكأنّي أقول: ها هو قد أتى. وأقبل الخبيث مسرعًا نحوها قبل أن تبتعد، وقد أدرك مقصدها، فقال لها من فوره: «خذيه خذيه، لا تقلقي. لا يصحّ لجميلة مثلك أنْ تبحث بين الطاولات عن كرسي، سأفعل أنا». وأشرقَ وجههُ بابتسامته اللعينة تلك.

شكرْتهُ الفتاة بابتسامة تشبه تلك الّتي أقبلتْ بها عليّ أول الأمر، وسحبتْ الكرسي وهي تحدجني بنظرة مغلّفة باللطف، أشعرتني وكأنّي أحقر الموجودات. كادت عيناي تنفران من محجريهما، وكدتُ أنهضُ وأحطم الطاولة على رأس صاحبي، لولا الحياء والخوف من مآل الأمر. نظرتُ إليه وقد تجمّع البصاق بين أسناني، إلّا أنّه استدار وابتعد عنّي، وراح يبحث عن كرسيّ له.

استغرق بعض الوقت هدأ في أثنائه شيءٌ من غضبي، فجنّبني ونفسه موقفًا محرجًا. عاد يحمل الكرسيّ وجلس أمامي بوجه الشديد السمرة، مع كلّ ما يستخدمه من أنواع الكريمات، وعينيه الماكرتين كعيني ثعلب وسكسوكته الدقيقة التحديد. تبسّم وهو يرى الحنق في وجهي، فارتفع شارباه كجناحي نورس. أخرج قنينة البيرة من حقيبته، فتحها بمؤخّرة الولاعة وارتشف منها جرعة ثمّ قال ممازحًا:

«ما بك يا رجل؟ أتنكرُ كرسيًّا لا قيمة له على تلك المؤخّرة الفاحشة الجمال؟ أجُننت؟»

هززْتُ رأسي بينما هو يتحدّث عن التفاصيل الجنسيّة المثيرة في الفتاة وعن جمالها الأخّاذ، ويتلفّت نحوها بين الفينة والأخرى. لا أعرف كيف خطر في بالي حينها، ولعلّه بدافع الغضب، أنّ العقوبة الأشدّ لصاحبي هي أنْ تقتلع هذه الفلسفة من رأسه، وتحرمه من تلك المتعة واللذة. ولكن، كيف السبيل إلى ذلك؟ لو كانتْ هناك شريحة ترفعها وينتهي الأمر، لأمكن فعله.

في تلك اللحظة تمامًا حصل ما أذهلني: رأيتُ الهواء بيننا يتعكّر ويتماوج، وكأنّ ثمّة مصدر حرارة ما فوق الطاولة، ثمّ تمتدّ تلك المويجيات من أمامي صوب وجه صاحبي. رأيتها وكأنّها تدخل في أنفه وفمه وأذنيه وعينيه، فجمدتُ في مكاني لا أعرف ما أفعل. بعد أقلّ من ثانيتيْن وإذا الشيء ذاته يحصل، ولكن هذه المرّة كانتْ المويجات تتجه نحوي. أصابني شيء أشبه بالدوار، وفقدت الإحساس بالمكان والزمان لوقت لا يتجاوز الثانية. استمرّ الأمر برمّته لثوانٍ قليلة جدًّا، ثمّ عاد كلّ شيء لطبيعته. تلفّتُ حولي وأنا أحاول أنْ أفهم تلك الظاهرة الطبيعيّة، لا بدّ أنّ لها تفسيرًا ما. ولكن، لعلّ كلّ ما حصل إنّما هو شيء تخيّلته، أو هو أشبه بظاهرة السراب. يا للعقل البشري ويا لخيالاته، قلتُ في نفسي وأنا أحاول أنْ أنسى الأمر.

عدتُ للحديث مع صاحبي، أسأله عن دراسته وامتحاناته، فأجابني مهمومًا مكدّرًا كما لم أره من قبل، وقال إنّ عليه أنْ يحضّر لامتحانٍ قريب، وأمامه الكثير من الكتب ليدرسها. ولم يحدث أن أصاب الهمّ صاحبي بسبب الدراسة، بل كان عادةً ما يقول بانشراح إنّهُ سيفعل ما باستطاعته، وسيقنع بأيّ درجة يحصل عليها. ثمّ مدّ يده بنحو ميكانيكي وتناول قنينة البيرة الزجاجيّة، أخذ رشفة منها فتعكّر وجهه وزمّ فمه، واتّخذ شاربه شكلًا غريبًا.

«بيييع، ما هذا الطعم الغريب؟» قال في ذهول منّي، ثمّ نحّى القنينة جانبًا. أكمل حديثه عن الدراسة ومتاعبها وكأنّ شيئًا لم يكن. وبعد وقت قصير نظر إلى الساعة في الهاتف الجوال ولعن الوقت، ثمّ نهض وغادرني قائلًا إنّ الكتب تنتظره. بقيتُ أنا في مكاني لبعض الوقت غارقًا في غرابة تلك اللحظات. تكاثف الضباب فجأة فوق أبنية المدينة، أو لعلّي لاحظته في تلك الأثناء فقط. نظرتُ إلى أحد أركان الساحة، حيث تنتصب كنيسة عصرمتوسّطية، يبسق منها برج الناقوس وتختفي قمّتهُ في الضباب. وكان ذلك المنظر دائمًا ما يثيرني، إلّا أنّ البرد كان أشدّ تأثيرًا، فنهضتُ وغادرتُ أنا أيضًا.

انقضت ليلتي في أحلام غريبة، واستيقظتُ صباح اليوم التالي وفي ذهني شخصيّة «صالح جميل» في رواية فرمان «المرتجى والمؤمّل». فقد كنتُ أشعر بعطش صباحيّ شديدٍ لشراب كحولي، وهو شيء لم يحدث لي من قبل. أنا بطبيعتي قليل الشرب جدًّا، وقد استمتع به رفقة الأصدقاء في بعض المناسبات. خرجت بعد الإفطار وعيني لا تزوغ عن مؤخّرات النساء، دون حياء أو غشاوة، وأحيانًا أنظر في وجوههنّ بابتسامة عريضة حتّى يكاد يسيل لعابي. أمضيتُ يومين شارد الذهن أثناء المحاضرات، أتطلّع إلى زميلاتي وتدور في خيالي أفلام غريبة. وفي الليل ألاحق الفتيات في البارات والديسكوات، أمازحهنّ والقي العبارات المعسولة وأشرب البيرة والنبيذ بكمّيات كبيرة. استيقظتُ صباح اليوم الثالث وفي سريري فتاةٌ لا أذكر اسمها.

عدتُ إلى رشدي بعد اليومين الصاخبين، واستعدتُ السيطرة على نفسي. ثمّ شرعت أحلّل تصرفاتي وذلك السلوك الغريب الذي بدر منّي. تذكّرتُ ما حدث بيني وبين صاحبي في لقائنا الأخير، وتلك الظاهرة الغريبة في الهواء. أحصل فعلًا؟ هل أفرغتُ صديقي من فلسفته أو عقيدتهِ تلك، كما تمنّيتُ في أعماقي، وبقي أثرها في نفسي لهذه المدّة القصيرة؟

التصقتُ بصاحبي في الأيام التالية، ذهبتُ لزيارته في بيته وخرجنا سويّة وأنا أراقب تصرّفاته وكلّ حركة تصدر عنه. لقد تغيّر بالكامل، صار شخصًا مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه في السابق. إذن، لقد اقتلعتُ ما كان يؤمن به فعلًا، وتسبَّبْتُ بشفائه! يا إلهي، أهذا فعلًا ما حصل!

ذهبت عصر أحد الأيام إلى مقرّ الجمعيّة الإنسانيّة الّتي تعمل فيها صديقةٌ لي، وهي سيّدة ايطاليّة مسنّة نشيطة، كانتْ أحد المؤسّسين للجمعيّة. سخّرتْ هذه السيّدة كلّ إمكانيّاتها لمساعدة المهاجرين واللاجئين، وكنتُ أقدّم لهم العون فيما يخصّ الترجمة أو أشياء من هذا النوع. وكانتِ السيّدة تُسرّ لي مشاكلها الاقتصاديّة والمتاعب الّتي تنوء بها بفعل ما تقوم به من نشاطات. حتّى وصل الأمر أنْ رُفعتْ عليها قضايا تتهمها بإيواء المهاجرين غير الشرعيّين. ولم تكنْ تأبه للأمر، تلك اليساريّة العتيدة، سوى أنّي أشعر بالأسى تجاهها، وكنتُ أكنّ لها الودّ الصادق، فأحببتُ أن أساعدها. لذا قرّرتُ أنْ أجرّب معها ما فعلتهُ مع صديقي، لأستيقن الأمر. وتعكّر الهواء فيما بيننا، وأنا استمعُ إليها بينما هي تحدّثني بغضبٍ عن سوء إدارة الحكومة ولا مبالاة المجتمع، وتسارعتْ نبضات قلبي وأنا أشاهد المويجات تلِج أنفها وفمها وعينيْها وأذنيْها.

انقضى النهار وأنا على حالتي الطبيعيّة، ولكن، مع بلوغ المساء وانفرادي في غرفتي بدأتْ تدور في رأسي أفكار عن العدالة والمساواة، وبدأتُ أشعر بغضب عارم جرّاء ما يحدث في العالم. وبعد أن انقضت الليلة، بأحلامها الغريبة العجيبة، استيقظتُ صباح اليوم التالي وذهني مشغول تمامًا في التفكير بالفقراء والمهاجرين ومآسيهم، وكيفيّة العثور على حلول لما يحصل في عالمنا المجحف. وحين خرجتُ وصادفْتُ السائلين المعتادين وهم يستجدون اليورو واليوروّين من أجل لقمة العيش، انتفضّتُ وتملّكني الأسى. توجّهتُ من فوري إلى الصراف الآلي وسحبْتُ مبلغًا كبيرًا، وصرتُ أوزّع ما لا يقلّ عن عشرة أو عشرين يورو على أولئك الذين كنتُ أمنح أحدهم، في أقصى حد، يورو واحد فقط. توجّهتُ في اليوم التالي إلى مقرّ الجمعية ولم أجد صديقتي، أخبروني أنّها لم تحضر ذلك اليوم. بقيتُ هناك أقدّم المساعدة ما وسعني. وفي نهاية النهار حين عرفْتُ أنّ أحد المهاجرين لا يجد مأوى لتلك الليلة، اقترحتُ أنْ أستضيفه في بيتي، وهذا ما حصل. واستيْقظتُ في اليوم التالي فوجدتني أنام على الأريكة في الصالة، وتذكّرتُ أنّني تركتُ غرفتي وسريري للشاب المهاجر.

اكتشفتُ في الأيام اللاحقة أنّ صديقتي الايطاليّة اعتزلتِ العمل التطوّعي وانسحبتْ من الجمعيّة. ذهبْتُ لزيارتها في بيتها، فقالتْ لي إنّها تشعر بالتعب والإنهاك، وهي تفضّل أنْ تعيش ما تبقّى من عمرها لنفسها وزوجها، ذلك المسكين الذي لم توليه اهتمامها لسنين طويلة. أصابني الذهول، فما كنتُ أتصوّر أنْ تلك المرأة العنيدة المؤمنة حتّى النخاع بما تصنع، يمكنها أنْ تتخلّى عن مبدئها فجأة. خرجتُ من عندها وأنا متيقّنٌ أنّني أملك قوّة خارقة: اصطياد ما يؤمن به الآخرون وإفراغ قلوبهم وعقولهم منه، بشرط أنْ أسمعهم يتحدّثون ويناقشون. وأدركْتُ أنّ إيمانهم أو اعتقادهم يتملّكني ليومين أو أكثر، وأنّ مفعوله يبدأ فيّ آخر اليوم أو في اليوم التالي. ثمّ طوّرتُ من قدراتي، فصار بإمكاني أنْ أستطلعَ دواخل المتحدّث قبل أنْ أفرغه من مبادئه ومعتقده.

 

نظّمتُ نشاطي الخارق على أساس ما توصّلتُ إليه، فكنتُ أبقى حبيس البيت في الأيام التالية، وهذا ما فعلْتُهُ حين أفرغتُ عقل وقلب جارتي العنصريّة من ما تعتقده وتشعر به صوب الغرباء والأجانب. لم أخرجْ من البيت في تلك الأيام، إذ لا أرغب في أنْ أجرح مشاعر أحدهم بجملة عنصريّة أو كلمة سيئة، وقد أتسببُ لنفسي بالمشاكل. أمّا جارتي فقد أصبحتْ طيّبةً للغاية، وبعد أنْ كانتْ تنظر إليّ شزرًا وأحيانًا لا تردّ التحيّة، متظاهرة أنّها لا تسمعها، صرتُ من أقرب وأحبّ الأشخاص إليها.

سرتُ على هذا المنوال في نشاطي الخارق حتّى اليوم الذي عُقد فيه مؤتمرٌ غاية في الأهمّية، أولتْه بلديّة المدينة وجامعة بولونيا اهتمامها، وأقيم في أحدى أكبر القاعات في الجامعة. وصلتُ إلى القاعة ذات الجدران والأبواب الزجاجيّة، فشاهدتُ من خلال الزجاج جمعًا غفيرًا في القاعة، من الطلّاب والأساتذة وسكّان المدينة عامّة. جلسْتُ في أحد المقاعد، قرب صاحبي «زير النساء السابق»، بانتظار مجيء المحاضرين في المؤتمر.

وكنتُ كلّما تطلّعتُ إلى عيني صديقي أرى فيهما الهمّ والكدر بفعل انشغاله بالدراسة ومشاكلها، وما عادتْ عيناه كعيني الثعلب. وكنتُ – أحيانًا – أشعر بالحزن من أجله، وأتساءل فيما إذا كنتُ أسيئ للأشخاص في فعلي ذلك أم أحسن إليهم، وأسئلة مشابهة عن مدى أخلاقيّة ما أقوم به. أمّا نيتي ورغبتي فهي أنْ أحسن إليهم وأخلّصهم ممّا قد يدمّر حياتهم في المستقبل. وكنتُ في بعض الأحيان أشعر وكأنّي إله يغيّر مصائر الأشخاص ومسار حياتهم، ثمّ سرعان ما أستغفر الله من هذه المقاربة. فأنا لستُ سوى أداته، يصنع من خلالي الخير للناس، وإلّا لماذا أعطاني هذه القدرة!

أضيئت الشاشة الكبيرة خلف المنصّة وعُرض عليها مثلّثٌ من ثلاثة رموز: نجمة داوود، الصليب والهلال. بعد ذلك بقليل دخلَ أسقفٌ، يرتفع البرطُلُ فوق رأسه، يتبعه شيخٌ معمّم وحاخام يغطّي رأسه كيباه أبيض وأزرق. بدأ عمدة المدينة اللقاء بكلمة تحدّث فيها عن أهمية الحوار بين الثقافات والأديان، وعن التعايش السلمي والتسامح. وأشاد بدور رجال الدين الثلاثة الذين رحّبوا بهذا اللقاء من أجل تدعيم السلام والمحبّة. ثمّ سرعان ما فسح المجال للمتحاورين، بعد أن صفّق لهم، والجمهور معه، بحرارة.  

بدأ رجال الدين، واحدًا تلو الآخر، يتحدّثون عن المحبة والسلام في الكتب السماويّة، وكلٌ يضرب الأمثلة ويذكر الآيات التي تحثّ على ذلك. كانوا وضّاحي المحيّا طليقي الوجه، يتطلّعون لبعضهم وللجمهور بلطف وود، كانوا إيقونات للمحبة والسلام. على أنّه لم يفُتْهم أنْ يجعلوا من أفكارهم أسلحة يتبارون بها، كلٌّ يثبتُ أنّ دينه هو الأكثر تسامحًا وتقبّلًا للآخر. أتطلّع إلى الجمهور من حولي وقد شغفهم حديث الشيوخ، فكانتْ وجوههم تفيض بالمحبّة والتسامح. أمّا أنا فما كانتْ تنطلي عليّ تلك الكلمات. حدّقتُ فيهم، بينما هم يتحدّثون ويحاورون بعضهم، وشغّلتُ قدرتي الخارقة لاستقصي دواخلهم. وكم كنتُ قد سبرتُ غور أمثالهم، فلم أشعر بتلك الكمّية من الكراهية والحقد في أعماقهم.

حسمتُ أمري في أنْ أخلّصهم ممّا يغلي في دواخلهم. وتعكّر الهواء بيننا، ولكن، في اللحظة الّتي أفرغتُ فيها ما كانوا يحملون في صدورهم وعقولهم وإذا بشيءٍ غريبٍ يتكاثف في عقلي وصدري بسرعة مذهلة. فجأة شعرتُ بحقد وكراهيةٍ يغليان في أعماقي ويكادان يشقّان صدري ويفيضان فيُغرقان العالم ومن فيه. لم يحصل لي شيء كهذا من قبل، وكان عادة ما يمرّ النهار بأكمله في اقل التقديرات، قبل أن يسري مفعول ما أفرغهُ ويأخذ مأخذه منّي. ثمّ شعرت بسواد يتناوب مع الضياء في عينيّ، وثمّة تشوّش قوي في ذهني. نظرتُ إلى المحاضرين فكانتْ وجوههم قبيحة وغائمة. نهضت من مكاني ولا أكاد أتبيّن طريقي، حتى وصلت طاولة البوفيه. وقع نظري على تلٍّ من الرغيف المقطّع، قرب صحونٍ من البلاستيك، ثمّ لمحتُ سكينا كبيرًا كالمنشار، عادة ما يستخدم لتقطيع الرغيف. لا أذكر أنّي تناولت السكين، وربّما فعلت، ثم انفصلتُ عن المحيط من حولي. أيقظني صراخٌ عالٍ وضوضاءٌ وجلبةٌ في القاعة، فوجدت نفسي وراء المنصّة الطويلة التي كان يجلس خلفها المحاضرون من الديانات الثلاث، وليس في يديّ سكين أو أيّ شيء آخر. الناس يركضون بين الكراسي، يرتطمون ببعض وهم يفرّون من الأبواب الزجاجيّة. كان هناك من يصوّرني برعب، وثمّة من يتحدّث على الهاتف وينظر صوبي بوجل. ثمّة نساء على جانبي الصالة يصرخنَ ويبكين، وهنّ ينظرنَ نحو أسفل المنصّة.

وكانت الكراسي الثلاثة فارغة، فنظرتُ أسفلها وإذا بي أرى الشيوخ الثلاثة، حاسري الرؤوس، وقد اتّخذ كلٌّ منهم وضعيّة معيّنة، والدم الغزير يجري من تحته. بدت  أجسادهم الجامدة في تلك اللحظة مثيرة للشفقة والعطف، كأنّها أجساد أطفال لم يبلغوا العام من العمر، يغطّون في نوم البراءة. جذبتِ انتباهي حركة أحدهم، التفتّ إليه فإذا به يمسك السكين المنغرس في خاصرته. فتح عينيه وتطلّع إلي، نظرتُ فيهما فلم أجد سوى فضاءً نقيًّا شاسعًا، ولم أرَ سوى نظرة إنسانٍ عادّي، مستعدّ للكذب كما لقول الحقيقة. تجمّع الدمع فيهما وهو يحاول أنْ يقول لي شيئًا، فأثار عاطفتي. كانتْ عيناه أشبه ما يكون بعيني رجلٍ ثمل أخذتْهُ «سكْرَةٌ» قويّة، يقسم لك وهو يتطوّح أنّه يحبّك ويحترمك، لأنّك إنسانٌ طيّب. فتشعر في تلك اللحظة أنّه في منتهى الصدق، وأنّه يحبّك فعلًا.

 

 تحرّكتُ خطوةً فشعرت بسائلٍ تحت قدميّ، نظرتُ فإذا بالأحمر القاني يتسرب من الأجساد الثلاث، ويتجمّع تحتَ قدميّ. نظرتُ أمامي وإذا بي أرى العمامة البيضاء والكيباه الأبيض والأزرق والبُرطُل الأبيض المزدان بصليبٍ أحمر وزخارف أخرى. أكانتْ على هيئة مثلّث متساوي الأضلاع أم يتراءى لي ذلك؟ أحنيت رأسي صوب اليسار، ثمّ اليمين، لا بدّ أنّه متساوي الأضلاع: من البُرطُل إلى العمامة ثمّ إلى الكيباه.

فجأة سال الدم وسط ذلك المثلّث، ملأه تمامًا، ثمّ أخذت أغطية الرأس تلك تتشبّع به، حتّى تغيّر لونها فصارت حمراء داكنة بالكامل. ولم يعد الاختلاف فيما بينها سوى بالشكْل، أمّا لونها وما يقطُرُ منها فكان ذاته.

 

دخلتْ عناصر الشرطة الايطاليّة، ببدلاتها الزرقاء الأنيقة، سدّدتْ فوّهات مسدّساتها نحوي. رفعتُ يديّ عاليًا، قطعتُ بضع خطوات صوبهم، تركتْ فيها أثر الدم فوق البلاط، ثمّ استلقيتُ أرضًا، كما يفعل المجرمون في الأفلام. تهافتوا عليَّ من كلّ صوب وأمسكوا بي من كلّ جزء من جسدي، ثمّ قيّدوني. شعرتُ بدوارٍ عنيف ونقص بالهواء، كنتُ أعرف أنّي لا أموت، سوى أنّني أوشكُ على الإغماء. وكان آخر ما أذكُرهُ هو أنّني كنتُ أشعر براحة نفسيّة وسلام عميقين.

ثمّ غبتُ عن الوجود.

——————–

هذه القصة مأخوذة من مجموعة قصصية بعنوان “أفاعي لامشتو” صدرت أخيراً عن منشورات المتوسط في ميلانو.

 

*****

خاص بأوكسجين


قاص ومترجم من العراق مقيم في إيطاليا حيث يُدرس الأدب المقارن. ترجم العديد من الروايات من وإلى الإيطالية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: