المايسترو
العدد 264 | 14 أيار 2021
مارتن سكورسيزي | ترجمة: محمد السعدي


فيديريكو فيلليني وسحر السينما الضائع

مشهد خارجي، الشارع الثامن-مساءً “1959”

كاميرا في حركة مستمرة، يحملها على كتفه شاب في مقتبل العشرينيات، يمشي غرباً نحو طريق “غرينويتش فيليج” المكتظ، يضع كتباً تحت إبطه، ونسخة من صحيفة “ذي فيليج فويس” في اليد الأخرى.

يحثّ الخطى متجاوزاً رجالاً بمعاطف وقبعات، ونساءً بأوشحة على رؤوسهن، يدفعن عربات تسوق مثقلة، وأزواجاً متحابين، وشعراءَ ومحتالين وعازفين وسكارى، ويمر بجوار صيدليات ومتاجر مشروبات روحية ووجبات سريعة ومبانٍ سكنية.

لكن تركيز الشاب منصبٌّ على شيء واحد فقط: صالة “آرت ثياتر”  التي تعرض فيلم جون كاسافيتيس “الظلال/شادوز” وفيلم كلود شابرول “أبناء العم/لي كوزينز”

يسجل ملاحظة في ذهنه ويعبر الشارع الخامس متجهاً غرباً، فيمر بجوار المكتبات ومتاجر الأشرطة واستوديوهات التسجيل ومحلات الأحذية، وصولاً إلى صالة السينما في الشارع الثامن التي تعرض فيلمي “تحليق الغرانيق/ذي كرينز آر فلاينغ” و”هيروشيما حبيبتي/هيروشيما مون آمور” ويشاهد إعلاناً يبشّر بعرض مرتقب لفيلم جان لوك غودارد “على آخر نفس/بريثليس”.

نواصل تجوالنا معه عندما ينعطف يساراً عند الشارع السادس، ويشق طريقه ماراً بالمطاعم والمزيد من محلات المشروبات الروحية وأكشاك الصحف ومتجر لبيع السجائر، ثم يعبر الشارع ليحظى بنظرة واضحة على سينما ويفرلي التي تعرض فيلم “رماد والماس/آشيس أند دايموندز”.

ينحرف شرقاً على شارع ويست الرابع فيمر بالقرب من بار “كيتل أوف فيش” وكنيسة “جودسون ميموريال” في ساحة واشنطن ساوث، ونرى هناك رجلاً يرتدي ملايس رثة، يوزع على المارة صوراً للممثلة أنيتا ايكبرغ في معطف من الفرو وإعلان بدء عرض فيلم “الحياة حلوة/لا دولتشي فيتا” في مسرح برودواي، بمقاعد محجوزة للبيع بسعر تذاكر برودواي.

يمر بجوار لاغوارديا بليس إلى شارع بليكر، مروراً بناديي فيليج غيت وبيتر إيند وصولاً إلى سينما شارع بليكر التي تعرض “عبر زجاج داكن/ثرو غلاس داركلي” و”أطلق النار على عازف البيانو/شوت ذي بيانو بلاير” و”الحب في العشرين/لوف أت توينتي” والفيلم الدرامي “الليل/لا نوتي” المتواصل عرضه للشهر الثالث على التوالي.

يقف في الطابور لمشاهدة فيلم فرانسوا تروفو ويفتح نسخته من حوار الفيلم فيقفز من صفحاتها لفيف وفير من الأفلام الغنية تحوم حوله: “ضوء الشتاء/وينتر لايت” و”النشّال/بيكبوكيت” و”الحبيب الثالث/ثيرد لافر” و”اليد في الفخ/ذي هاند إن ذي تراب”، وعروض أندي وارهول، وفيلم “خنازير وبوارج/بيغز أند باتلشيبس”، وأعمال المخرجين كينيث أنغر وستان براكيج في أرشيف الأفلام المختارة، والفيلم الفرنسي “القبعة/لي دولوز”. وفي وسط كل هذا، تبرز عبارة تغطي على كل شيء: جوزيف ي. ليفين يقدم فيلم فيديريكو فيلليني “ثمانية ونصف/8 ½” للمخرج.

أثناء تجواله بين الصفحات، ترتفع الكاميرا فوقه وفوق الجمهور المترقب، كما الأمواج متلاطمة من شدة الحماس.

تنتقل الصورة إلى الوقت الحاضر الذي أصبح فيه فن السينما منتقصاً، ومهمشاً، ومهملاً، ومقتصراً على القاسم المشترك الأدنى: المحتوى.

منذ خمسة عشر عاماً ليس إلا، كنا نسمع مصطلح “المحتوى” فقط ضمن النقاشات الجادة حول السينما، وكان يتناقض مع “الشكل” ويقاس مقارنة به. وشيئاً فشيئاً، زاد استخدامه من المسيطرين على الشركات الإعلامية، الذين لا يعرف معظمهم أدنى شيء عن تاريخ الشكل الفني، ولم يهتموا بما يكفي للاقتناع بواجبهم في اكتساب تلك المعرفة. أصبح “المحتوى” مصطلحاً تجارياً لجميع أفلام التحريك سواء كانت فيلماً للمخرج ديفيد لين، أو فيديو يصور قطة، أو إعلاناً تجارياً خلال مباراة التتويج ببطولة كرة القدم، ليصبح “المحتوى” تتمة خارقة، وحلقة متسلسلة لا ترتبط بالتجربة السينمائية بطبيعة الحال، بل بالعرض المنزلي على المنصات التي تخطّت تجربة الذهاب إلى السينما، على غرار ما فعله موقع أمازون بالمتاجر الفعلية. استفاد المخرجون من هذا الأمر، وهذا يتضمنني شخصياً، لكنه خلق وضعاً معيناً يُعرض فيه كل شيء أمام المشاهد على قدم المساواة، وعلى الرغم من الديمقراطية التي يوحي بها الأمر، إلا أن واقع الحال ليس كذلك. فلو كانت اللوغاريتمات “تقترح” مشاهدة فيلم آخر بناء على المشاهدات السابقة، وكانت هذه الاقتراحات قائمة فقط على موضوع الفيلم ونوعه، عندها ما الذي سيفعله هذا بفن السينما؟

إن تقييم الأفلام وعرضها ليس ديكتاتورياً أو “نخبوياً”، وهو المصطلح الذي يشيع استخدامه الآن لدرجة فرّغته من معناه، بل يمثل نوعاً من الكرم، حيث تشارك مع الآخرين ما تحبه ويلهمك. إن أفضل منصات العرض مثل قناة كريتوريون وموبي والشبكات التلفزيونية التقليدية “تي سي أم”، قائمة على تقييم الأفلام وعرضها، ومبنية بالكامل على هذا المبدأ”. أما اللوغاريتمات فهي مبنية على حسابات تتعامل مع المشاهد كمستهلك ولا شيء آخر.

إن اختيارات الموزعين مثل أموس فوغل في صحيفة غروف بريس في الستينيات لم تكن نوعاً من الكرم فحسب، بل ضرباً من الشجاعة في كثير من الأحيان. أسس العارض والمبرمج دان تالبوت شركة “نيويوركر فيلمز” لتوزيع فيلم أحبه “قبل الثورة/بيفور ذي ريفيلوشن” لبرناردو بيرتولوتشي، لكنه كان رهاناً محفوفاً بالمخاطر. إن الأفلام التي وصلت إلى الولايات المتحدة بفضل جهود هؤلاء وغيرهم من الموزعين والعارضين والمسؤولين عن اختيار الأفلام قد أفسحت المجال أمام لحظة استثنائية تستمر ظروفها إلى الأبد، انطلاقاً من أسبقية التجربة السينمائية وصولاً إلى الحماس المشترك تجاه إمكانيات السينما، وهنا يكمن السبب الذي يدفعني إلى العودة إلى تلك السنوات مراراً وتكراراً، وأشعر أنني محظوظ لأنني كنتُ شاباً وحياً لأطّلع على كل ما كان يدور حولي. لطالما كانت السينما أكثر من مجرد محتوى، وستظل كذلك دوماً، وخير دليل على ذلك السنوات التي شهدت إنتاج هذه الأفلام من جميع أنحاء العالم، وتحاورت مع بعضها البعض وأعادت تعريف الشكل الفني أسبوعياً.

لطالما خاض هؤلاء الفنانين صراعاً جوهرياً متمثلاً بسؤال “ما هي السينما؟” ثم انتظروا الفيلم التالي لإيجاد إجابة على سؤالهم. لم يكن أحد يعمل بمعزل عن الآخرين، وبدا أن الجميع يستجيبون للآخرين ويتعاطون معهم. كان غودارد وبرتولوتشي وأنطونيوني وبرغمان وإمامورا وراي وكاسافيتس وكوبريك وفاردا ووارهول يعيدون اختراع السينما بكل حركة كاميرا جديدة وكل مشهد جديد، في حين كان المخرجون الأوسع تقديراً مثل ويلز وبريسون وهوستون وفيسكونتي مشحونين بتدفقهم الإبداعي.

وفي خضم كل هذا، كان هناك مخرج واحد يعرفه الجميع، فنان واحد يترادف اسمه مع السينما وكيف يجب أن تكون. كان ثمة اسم يستحضر أسلوباً معيناً على الفور، وموقفاً بعينه تجاه العالم، لدرجة أصبح الاسم صفة. لنقل إننا نريد وصف الأجواء السوريالية في مأدبة عشاء، أو حفل زواج، أو جنازة، أو مؤتمر سياسي، أو من نفس المنطلق، الجنون الدائر على هذا الكوكب، كل ما علينا قوله هو “الفيللينية” وسيفهم الناس مباشرة ما نعنيه.

أصبح فيديريكو فيلليني في الستينيات أكثر من مجرد مخرج، على غرار تشابلن وبيكاسو والبيتلز الذين أصبحوا أكبر من فنهم.  ولم يعد الأمر في نقطة معينة متمحوراً حول هذا الفيلم أو ذاك، بل كل أفلامه مجتمعة كبادرة عظيمة مكتوبة على وجه المجرة. كان الذهاب لمشاهدة فيلم لفيلليني أشبه بالذهاب لمشاهدة ماريا كالاس تغني، أو لورنس أوليفر يمثّل، أو رودولف نورييف يرقص. حتى أن أفلامه بدأت في إضافة اسمه إليها مثل “ساتيريكون فيلليني” أو “كازانوفا فيلليني”، والمثال الوحيد المشابه لذلك في السينما هو هيتشكوك، لكنه كان شيئاً مغايراً، بوصفه علامة تجارية، ونوعاً محدداً ومستقلاً بنفسه، بينما كان فيلليني فيرتوسو virtuoso السينما.

أما الآن، فقد مرت ثلاثين سنة تقريباً على وفاته، ومضى وقت طويل على اللحظة التي بدا فيها تأثيره متغلغلاً في كل فروع الثقافة، وعليه لاقت مجموعة “فيلليني كاملاً” التي أطلقتها قناة كريتوريون السنة الماضية احتفاءً بمرور مئة عام على ميلاده كل الترحيب.

تجسد إتقان فيلليني البصري المطلق عام 1963 بفيلم “ثمانية ونصف”، الذي حامت وطافت وارتفعت فيه الكاميرا بين عوالم واقعية داخلية وخارجية، بما يتناسب مع الحالات المزاجية المتغيرة والأفكار السرية لشخصية فيلليني البديلة، غايدو، الذي لعب دوره مارسيلو ماستروياني. شاهدت مقاطع في ذلك الفيلم أجبرتني على العودة إليها مرات لا تعد ولا تحصى، وما زال يراودني نفس التساؤل: كيف فعل ذلك؟ كيف بالإمكان جعل كل حركة أو إيماءة أو هبّة ريح تبدو مثالية في مكانها؟ كيف يبدو كل ما فيه غريباً وحتمياً كما لو كنا في حلم؟ كيف بالإمكان جعل كل لحظة مشبعة تماماً بتوقٍ يستحيل تفسيره؟

لعب الصوت دوراً كبيراً في هذا المزاج، لأن ابداع فيلليني في الصوت كان لا يقل عن إبداعه في الصورة. تتمتع السينما الإيطالية بتقاليد قديمة في الصوت غير المتزامن مع حركة الشفاه ابتداءً بموسوليني الذي أمر بدبلجة جميع الأفلام القادمة من الدول الأخرى. وفي العديد من الأفلام الإيطالية، حتى بعض الأفلام العظيمة منها، قد يكون الإحساس بالصوت المفصول عن الصورة أمراً مربكاً، إلا أن فيلليني عرف كيفية استخدام هذا الإرباك كأداة تعبيرية، حيث تتكامل الأصوات والصور فيما بينها بطريقة تجعل التجربة السينمائية بمجملها تتحرك كالموسيقى، أو كلفافة هائلة منشورة. أما في الوقت الحاضر، يفتتن الناس بأحدث الأدوات التكنولوجية والأشياء التي تستطيع فعلها، لكن الكاميرات الرقمية خفيفة الوزن، وتقنيات ما بعد الإنتاج مثل التجميع الرقمي وتغيير ملامح الصور لا تصنع الفيلم من أجلك، بل تتمحور حول اختياراتك في تكوين الصورة الكاملة. بالنسبة للفنانين العظام من أمثال فيلليني، لا يوجد عنصر ثانوي، بل كل شيء مهم، أنا متأكد من أنه كان ليشعر بسعادة غامرة تجاه الكاميرات الرقمية الخفيفة، لكنها لم تكن لتغير صرامة اختياراته الجمالية ودقتها.

لا بد لنا أن نعلم أن فيلليني انطلق من الواقعية الجديدة، وهذا أمر مثير للاهتمام بالنظر إلى حقيقة قدومه لتمثيل قطبه المضاد. كان فيلليني من الأشخاص الذين اخترعوا الواقعية الجديدة، بالتعاون مع معلمه روبرت روسيليني. ما تزال تلك اللحظة تثير دهشتي، فقد كانت لحظة إلهام غامرة في السينما، وأظن أن كل الابداع والاستكشاف الذي شهدته الخمسينيات والستينيات ما كان ممكناً لولا وجود الواقعية الجديدة كلبنة أساسية. لم تكن حركة بقدر ما كانت مجموعة من فناني السينما يستجيبون للحظة عصية على التصديق في حياة بلدهم. فبعد 20 سنة من سيطرة الفاشية، بكل ما فيها من وحشية ورعب ودمار، كيف يمكن لأحد الاستمرار، سواء كفرد أو كدولة؟ إن أفلام روسيليني ودي سيكا وفيسكونتي وزافاتيني وفلليني، الأفلام التي يتداخل فيها الجمال والفضيلة والروحانية في وحدة لا تفصم عُراها، لعبت دوراً جوهرياً في خلاص إيطاليا أمام أنظار العالم.

شارك فيلليني في كتابة أفلام “روما مدينة مفتوحة/روما أوبن سيتي” و”بايسا/القروي”، ويقال أيضاً إنه أخرج بعض المشاهد في حلقة من مسلسل فلورنتين عندما كان روسوليني مريضاً، كما ساهم  في كتابة فيلم روسيليني “المعجزة/ذي ميركل” ومثّل فيه. لا شك أن مسيرته كفنان قد افترقت عن روسيليني في فترة مبكرة، لكنهما احتفظا بحب عميق واحترام كبير تجاه بعضهما، حتى أن فيلليني قال في إحدى المرات شيئاً في غاية الذكاء مفاده أن ما يسميه الناس واقعية جديدة موجود في أفلام روسيليني دون سواه. بصرف النظر عن أفلام “سارقو الدراجة /بايسكل ثيفز” و”أمبرتو دي” و”الأرض المرتجفة/لا تيرا تريما”، أعتقد أن فيلليني قصد أن روسيليني كان الشخص الوحيد الذي يتمتع بهذه الثقة العميقة الثابتة في البساطة والإنسانية، والوحيد الذي أفسح المجال للحياة نفسها كي تقترب منا وتروي قصتها. أما فيلليني، فعلى النقيض، فقد كان أسلوبياً يجترح القصص، ساحراً وحكواتياً، لكن المعلومات الأساسية من التجربة التي عاشها مع روسيليني والأخلاق التي اكتسبها منه كان لها بالغ الأثر على جوهر أفلامه.

عندما بلغتُ الحلم، كان فيلليني في طور التطور والازدهار كفنان، وأصبح العديد من أفلامه غالية على قلبي. شاهدت فيلم “الطريق/لا سترادا” الذي يروي قصة امرأة فقيرة تباع إلى رجل متجول، الأمر الذي أثّر بي بطريقة معنية لفتى في الثالثة عشرة من عمره. تدور أحداث الفيلم في إيطاليا ما بعد الحرب، لكنه ينساب كأغنية راقصة من القرون الوسطى، أو ربما شيء أكثر قدماً، كما لو أنه منبثق من عالم غابر. ينساق هذا القول باعتقادي على فيلم “الحياة حلوة/لا دولشي فيتا”، لكن على شكل بانوراما، فهو موكب للحياة الحديثة والانفصال الروحاني. كان فيلم “الطريق/لا سترادا” الذي عُرض عام 1954 “وبعدها بعامين في الولايات المتحدة” خامة أصغر، وحكاية متأصلة في العناصر: الأرض، السماء، البراءة، الوحشية، العاطفة، التدمير.

تمتع الفيلم بالنسبة لي ببعد إضافي، وشاهدته للمرة الأولى مع عائلتي على شاشة التلفاز، فتركت القصة أثراً جلياً على جدي وجدتي وكأنهما تذكرا الصعوبات التي تركاها وراءهما في بلدهما الأم. لم يعجب فيلم “الطريق/لا سترادا” الإيطاليين، فقد كان بالنسبة للبعض خيانة للواقعية الجديدة “كان الكثير من الأفلام الإيطالية في ذلك الوقت تُقيّم بناء على هذا المعيار”، وأفترضُ أن رؤية قصة قاسية ضمن إطار حكاية رمزية كان أمراً في غاية الغرابة بالنسبة للمشاهد الإيطالي. أما حول العالم، فقد حقق الفيلم نجاحاً ساحقاً، ليكون الفيلم الذي صنع فيلليني بحق، لكنه الفيلم الذي أذاق فيلليني الأمرّين بسيناريو تصوير مفصّل للغاية لدرجة احتوائه على 600 صفحة، إلى جانب تعرض فيلليني عند اقتراب نهاية الإنتاج الشاق إلى انهيار نفسي مما اضطره للخضوع لأولى جلسات العلاج النفسي المتعددة قبل أن يتمكن من إنهاء التصوير. بالإضافة إلى ذلك، كان هذا الفيلم الأقرب إلى قلبه طيلة حياته.

عن مجلة “هاربرس”

*****

خاص بأوكسجين