العكرماوي
العدد 182 | 08 تشرين الثاني 2015
علي عبدالله سعيد


منذ فنجان قهوته المبكر، يتساءل بوعلي العكرماوي ماذا أفعل؟ يقول لأمه: ان العفّيشة بين صبح ومساء أصبحوا مليارديرية حمص. بينما هو مايزال جحشا لا يمتلك ثمن سندويتش. تقول أمه مداعبة.. ربما غير ذلك: منذ نعومة أظفارك خلقك الله جحشا وطشا يا بو علي، ان مت لن تجد من يطعمك حتى بعض التبن. لم يغضب بو علي، لم يثره سلبا او ايجابا مزاح أمه. تخيلي لم يتركوا شيئا في حمص، يسحبون حتى اسلاك الكهرباء من الجدران كي يبيعوها نحاسا. أن لهم أذهان الشياطين وأفكارها. سيارات حمص المسروقة ملأت الساحل باسعار بخسة، حتى الكر في الساحل يستطيع ان يركب سيارة فخمة بأوراق نظامية واثمان تافهة لا تذكر. حتى هيفا المحمد رفضت الارتباط بي ساخرة من رجولتي قائلة لي بوضوح وقح: تنوي الارتباط بي لأنني أتقاضى راتبا.. تريد امرأة تعلفك لتنكحها فقط يا بو علي..

 هيفاء المحمد.. ماعدا الحقيقة لم تقل شيئا مهما. مقتنعا تماما بأن الوقت تأخر كثيرا على التعفّيش. لم يبق في حمص بيت صالح للسرقة او التعفّيش، سوى بيوت جيرانه العكرماويين. أخذ يفكر جديا بتعفّيش بيت هيفا المحمد، التي عفّش اخوتها ثلثي حمص. حتى شقيقها الكبير قال له: يا بو علي بعد ان خلص الحشيش، طلع الكديش يدّور عليه.. لم يبق لك حشيش في حمص يا خيي يا بوعلي.. حتى حمص لم يبق فيها عفّيشة، عفّيشة حمص أصبحوا في كسب، في معلولا.. في.. في.. يعلمون الحمير هناك أصول التعفيش. انت تعرف أكثر من غيرك، انه ما من كائن في حمص الا العبقري.. الا أنت.. ليهدك الله.

 لم تنقطع ابدا صداقة بوعلي العكرماوي مع بو عمر البابا عمري. جربا حظهما معا زمنا لابأس به في التحشيش وكتابة الخواطر في الشعر والقصة والحب الحلال والحرام، في التنقيب غير الشرعي عن الآثار. الا ان الحظ.. كما يقول بو عمر: شخّ علينا، كل اللصوص ارتزقوا، ما عدا نحن لم نرتزق. حتى المعلم الفهيم بو عبدالله اللاذقاني خرج من البئر اليهودي في باب هود.. ثم بوجهه الى سجن امن الدولة في العاصمة. مما دمر احلامهما معا بتكوين ثروة طائلة فأغلقا البئر اليهودي، الذي يملكه في حمص بلجيكي من اصل سوري. طائرا في الليلة ذاتها الى بلجيكا هربا من السجن المحتمل. لاعنا اليهود وآبار دفنهم، وذهبهم الأسود، والأصفر، والأحمر.

 لم يكن بو علي قد التقى وجها لوجه ببو عمر منذ سنة على الأقل. الا ان تلفونات الاطمئنان عن الحياة وعليها لم تتوقف. لم تكن افكار بوعلي العكرماوي واضحة حيال التظاهرات السلمية. بل كان يخشى ان تصل الامور الى ما وصلت اليه فعلا.

 ـ طائفية بحتة يا بو عمر.. لماذا؟

 ـ الجميع يريدها كذلك.. تخيل؟

 زمن المكالمة لم يكن قصيرا. اذ ان بو علي خلالها اقر لصديقه بانه يعاني من الفقر الشديد. وبان العاهرة هيفاء المحمد تستضرطه على الطالع، على النازل، بعد ان عفّش اخوتها حمص برمتها.

 ـ اخي بو علي هل لي ان اراك..

 ـ طبعا..

 بعد انتهاء المكالمة بقليل ليس صدفة، ربما صدفة، تمر هيفاء المحمد على بيت بوعلي كي تتناول القهوة مع امه واخته. ليس من اليسير على أي عازب ان تجد عريسا في مثل هذه الظروف الدموية القذرة. في الحوار القصير الذي دار بينها وأمه، لم تخف هيقاء المحمد، استعدادها للانفاق على الرجل الذي يتزوجها ان كان رجلا.. لا جحشا، أوطشا، ينتظر صحنا من ذهب يسقط عليه من السماء، او يخرج له من بئر دفن يهودي في باب هود. يبتلع بو علي الاهانة التي تخصه ليس بمودة، انما بابتسامة غير صفراء لا تخلو من اللؤم. كانت تبحث لديه عن جملة: اريد الارتباط بك.. ربما كي تتمادى في اهانته. الا انه كان اذكى بقليل من ان يقع في بئر البراز الذي في فمها.

 داخل ذاك الخط من حمص .. لم يدم طويلا لقاء العكرماوي، مع اخيه البابا عمري. يعرف من خلاله العكرماوي، ان بوعمر مقاتل مع العرصات الطائفيين في جبهة النصرة رغما عن انفه.. وان المسألة الوطنية في رأس الكتائب الاسلامية هي كذبة كبيرة.. مقابل الحقيقة الاسلامية القائمة في اذهانهم. الا ان الزمن فات على مثل هذه الترهات، والحقيقة المالية هي الأهم في مناخ الخيانات اللانهائية. ثم يفتح عيني العكرماوي على قضايا كثيرة تجلب مالا طائلا دون تعب يذكر. حينها يدرك بو علي العكرماوي ان العبقرية المتأصلة في كل حمصي على حدة، لايمكن ان تخونه على طول الخط. في اليوم التالي ما ان تشاهد هيفاء المحمد المئة الف على الطاولة، حتى تنحلّ مفاصلها وتتراخى متراجعة عن كل اتهاماتها السابقة لبو علي قائلة: لا يمكن للحمصي ان يكون جحشا الى النهاية.. الا ان تستيقظ فيه شعطة العبقرية التي يحملها بداخله رغما عن انفه.

 يبتسم العكرماوي معلنا ان هذه المئة ما هي الا مبلغ تافه دون تعفيش، دون سرقة اموال الاخرين و ممتلكاتهم. والاعظم من المئة الف، آت في المستقبل لا ريب. لم يكن بامكانه ان يرفض دعوة هيفاء المحمد الى الكافيتريا الجديدة المبهرة بأضوائها وأسعارها فوق السياحية. في اليوم التالي، في منتصف الطريق غير بعيد عن خطوط التماس. يستئذن بو على العكرماوي من هيفاء والسائق لأنه سيترجل هنا من أجل ان يشتري شيئا مهما لهيفاء، من ثم يلحق بها سريعا الى الكافيتريا. يتذكر السائق ان العكرماوي قبل ان يترجل اجرى اتصالا غامضا، مع كائن غامض قائلا له: الحمامة على السطح.. باي.

 بعدئذ.. بأمتار غير كثيرة أوقف السائق من قبل مسلحين. اختطفت هيفاء المحمد رغما عن انفه، ولو لم تكن بطاقة هويته تحمل خاتم نفوس باب السباع لخطف هو الآخر. أشيع خبر اختطاف هيفاء المحمد. يعلن اخوتها على الفور استعدادهم لدفع الفدية التي تطلب، بعد ان تمادوا كثيرا في تخمين ما قد يحدث لشقيقتهم شرجا وفرجا وفما بين ثلة من الملتحين الوحوش، الذين يقتاتون على لحم الجثث النافقة في كل مكان. يقف بو علي العكرماوي امام المرآة يعد المئة الف المرة بعد المرة، ينظر الى نفسه باعجاب شديد: كان على العاهرة ان تعرف انني أكثر من عبقري. لابد أن أشلح عائلتها آخر قرش عفّشوه. ينام تلك الليلة هانئا حالما بمئات الملايين التي عفشّها أخوة هيفاء المحمد. بعد احلام وردية لم تتخللها الكوابيس، يتصل العكرماوي بالبابا عمراوي مخبرا اياه ان مئات الملايين التي تخولهما الهرب من البلاد الطائفية اللعينة اصبحت بين ايديهما. الا ان رد بو عمر كان مخيبا و محبطا قائلا بصوته اللامعهود: اخي بو علي. الامير الواطي، تزوج من الداعرة هيفاء المحمد بعد ان اسلمت وتنقبت وتعهدت ان تعمر بيتا لله في حي الروافض الانجاس. تعلمهم فيه اصول الدين المحمدي. وان الامير يرفض أي تفاوض او فدية بخصوص هيفاء، التي اكلت بعقله الحلاوة بالجبن، بعد أن اراها ذهبه المسروق من محلات الصاغة.

 قبل ان يصاب بوعلي بالجلطة القلبية، يطمئنه بو عمر الى انه لن ينساه، وقد يؤمن له في القريب العاجل ضربة العمر المرجوة.

 ـ حسنا اخي بو عمر بانتظار ضربة العمر.. كدت ان تجلطني.

 تنفق ام بوعلي العكرماوي من المئة الف بمتعة.. مؤكدة لابنها: ان الجحش في حمص اكثر من عبقري. وان ثقتها به لم تتغير منذ نعومة اظفاره. الا انه كان يفكر فعلا ان ضربة العمر.. لابد ان تكون امه، اخت اخواله، الذين فاقوا اخوة هيفاء المحمد تعفيشا وتهتكا واستفشارا. لكنه سيوصي بو عمر ان يكونوا لطفاء معها، وان يبعدوها عن نظر الامير الواطي في جبهة النصرة. وان لا يحاولوا اغتصابها ابدا لا من الامام، ولا من الخلف. مجرد درس تأديبي يحصد من ورائه مالا طائلا. كان على وشك ان يبادر، غير ان بو عمر سبقه بهنيهة فقط.. معربا عن امله بلقائه في اسرع وقت ممكن من أجل ضربة العمر المشتركة.

 ـ لو لم تتصل كنت سأتصل

 ـ حسنا يا بوعلي.. غدا..؟

 ـ غدا..

 يعرف عن بو علي قيادته المتهورة للسيارات في شوارع حمص حين تتاح له. الا انه لم يرتكب أي حوادث خطيرة تذكر. يقول له بو عمر: تركن السيارة امام متاجر العغيّشة. ثم تذهب الى بيتك تعد ما في الحقيبة حتى السادسة، تعود الى السيارة حيث سيلاقيك هناك اخ يريد الهرب. عليك ان تخرجه من البلد بطريقتك. تجلس في السيارة وتنتظر الى ان يصعد بقربك شخص لا تتحدث اليه لأنه لن يرد عليك.

 ـ مفهوم بو عمر.. عرسال؟ مفهوم..

 لم يصدق بو علي انه يستطيع العد حتى المليون الخامس. داهية ذاك البو عمر، انها فعلا ضربة العمر، لعل الهارب هو الامير الواطي زوج هيفاء المحمد. ان كانت بصحبته سيقود بهما الى فرع الامن بدلا من عرسال.. وليكن الطوفان. كان ذهنه مشتتا بين الهجرة الى كندا اوالى فرنسا. ليس مهما يقول بعد تردد فرنسا؟ كندا؟ المريخ؟ كانت امه مأخوذة بما رأت وعدّت الى ان ملّت. متيقنة ان ابنها هداه الله الى الطريق الصحيح.. طريق التعفيش، او ما اعتادت ان تسميه بغائم الحرب. طالبة منه أي خدمة يمكنها ان تقدمها له فنجان قهوة، كأس من العرق المثلث، أي شيء؟ الا ان الانفجار الهائل في حي التعفيش أوقف الاسئلة والكلام الحلو في حلقها. يتناثر زجاج النوافذ، تهتز الجدران، تصطفق الابواب، تنفلت من اطاراتها المحكمة. لابد ان القيامة قد قامت.

 يطمئنها بوعلي بعد هنيهة من الانفجار الضخم: ليست القيامة انما هي لعبة أمنية، سيارة مفخخة في حي التعفيش، يستاهلون أكثر من ذلك.

 يتذكر أن موعده مع سيارته هناك في تلك النقطة. لابد ان الأمير مع الداعرة هيفاء المحمد قد تتطايرا أشلاء مع أشلاء العفيشة، لابد انها مؤامرة من الجبهة على الامير الموبق الواطي. يحمد الله ان ذلك كله.. حدث قبل ان يخرج الى موعده او موته ببضع دقائق. يهرع الى المكان راكضا، يجد الناس تحمل اشلاء، توزع على الريح بكاء صراخا فجائعيا. لم يجد سيارته في مكانها، كانت قد احترقت مع ما يجاورها من سيارات العفيشة الفخمة. لم يفرح بو علي مرة في حياته كما اليوم. ارتاح من تهريب الأمير الى الأبد. كذلك كوّن ثروة الى الأبد تنجيه من صفة الجحش دون تعب جسد او ضمير يذكر. لم يطل بكاء امه وعويلها على زجاج الشبابيك والزجاج المهشم.

 ـ لا يهمك.. غدا تجدين بيتا جديدا

 ـ لو لم تعفش بقرشين لما كان بامكانك ان تفعل شيئا.. كنت ستنام في العراء مثل الجحش يا بو علي

 ـ لم أعفش.. انا أكبر من أن أؤذي احدا بسرقة بيته

 يفكر مغبونا، لا بد أن بو عمر قد يتهمه بالتآمر على الامير مع الاجهزة الامنية الدموية. يفكر أن بو عمر لابد ان يفكر بالانتقام منه من عائلته، يفكر بالهرب على وجه السرعة. إلا أن صوت بو عمر يطمئنه على طول الخط: لا عليك أخي بو علي.. طارت السيارة اليس كذلك؟ لا عليك السيارة الثانية جاهزة مع حقيبتها.. لابد من الوصول الى عرسال. هذا الأمير الحيوان يصر على ذلك. نحن نعرف ان الأمن يتعقبه باستمرار نظرا لعدم التزامه بوعوده.

 ـ متى أراك يا بو عمر

 ـ فوراً إن أمكن يا بو علي

 يتفق بو علي مع بو عمر على ركن السيارة أمام بيته المخلع النوافذ والأبواب. إلى الموعد المحدد، حيث يكون بإمكان الامير الحمار الوصول الى السيارة والدخول اليها قبل ان يصل بوعلي مع اول الليل اذ تنقطع الكهرباء في مثل هذا التوقيت ويضيع الحابل بالنابل في الزحمة التي تحدث يوميا.

 ـ المكان امام بيتي آمن اخي بو عمر

 ـ لا بأس يا بو علي من العتمة امام بيتك تقود بالحمار الى عرسال

 ينهمك بو علي بعد الاوراق المالية، التي يخامره شك بأنها مزورة بالكامل. مجرد احساس تافه يقول لأمه بعد رحيل آخر عامل المنيوم من المنزل. لم يكد يفرغ من العد قبل ان تنقطع الكهرباء بدقيقة حتى اكتظت حارة بو علي بافراد اجهزة امنية متعددة بعد تلقيها خبرا سريعا عن سيارة مفخخة ستنفجر بعد ساعتين. كان التوقيت في الاتصال كاذبا. يتلقى بو علي رسالة من بو عمر قبل التوقيت المحدد بنصف دقيقة تقول: تحديد المكان تم بناء على جحشنتك يا عبقري إلى اللقاء في العالم الآخر.. يا أخي../

_____________________________________

من مجموعة قصصية بعنوان /غداً.. أبعثر الدم والريح/ 

*****

خاص بأوكسجين


روائي من سورية، مواليد اللاذقية 1958. من رواياته: “جسد بطعم الندم”، (2020). “البهيمة المقدسة”، (2020). “براري الخراب”، (2000). فازت روايته “جمالية المتاهة” بجائزة منتدى ابن خلدون، القاهرة (1993)، بينما نالت روايته الأولى “اختبار الحواس” جائزة مجلة الناقد، لندن (1992). صدر له في القصة: “موت كلب سريالي”، جائزة أصدقاء الأدب، دمشق (1996)، و”هكذا مات تقريباً" (1993). صدر له عن محترف أوكسجين للنشر رواية "سكّر الهلوسة" (2023).