الطَّوف
العدد 241 | 03 شباط 2019
بيتر أورنر


يناديني جدي الذي فقد ذاكرته قصيرة المدى خلال فترة رئاسة آيزنهاور الأولى إلى غرفة مطالعته لأنه يريد أن يحكي لي القصة التي لم يخبرها لأحد من قبل مرةً أخرى. فتصرخ جدتي من حافة كرسيها عند طاولة زينتها ذات المرآة البيضاوية المحاطة بمصابيح صغيرة كنت أحب فكّها “آه، بحق الرب يا سيمور. سنقابل آل ديووسكن في نادي توين أورتشاردز عند السابعة والنصف. أعليك أن تعود إلى جنوب المحيط الهادئ؟”

يغلق جدي الباب بعنف ويأخذني نحو الكرسي أمام مكتبه. سأبلغ الثالثة عشرة خلال أسبوعين. يقول: “هناك شيء أريد إخبارك به يا بُني. شيء لم أخبر به أحداً. أتظن أنك مستعد؟ أتظن أن لديك النباهة؟”

“أظن ذلك.”
“تظن ذلك؟”
“أعلم ذلك يا سيدي. أعلم أن لدي النباهة.”

فيجلس على كرسيه ويمزق فاتحاً ظرفاً بفتاحة رسائل لامعة على هيئة سيف ذهبي صغير. “إذن، تريد أن تعرف؟”

“للغاية.”
“حسناً، إذاً قف أيها البحار.”

غرفة مطالعة جدي مفروشة بسجاد من الشعر الأبيض الكثيف، أستشعر ملمسه الصوفي بقدمي العاريتين مقحماً أصابعي بداخله. في الغرفة أيضاً عدّة صبارات، غالباً ما شجعني جدي على لمس شوكها ليبيّن لي مدى صلابة الشباب قديماً مقارنةً بها. فقد قاد جدي مدمرة أثناء الحرب العالمية الثانية.

يقول: “كان الوقت متأخراً. طرق أحدهم باب قمرتي فاندفعت. في تلك الأيام، اعتدت النوم بملابسي الرسمية وبالحذاء أيضاً.” ثم يبتسم. تبدو ابتسامته كشقٍّ في كرة السلة وسط وجهه كامل الاستدارة. فأردّ الابتسامة بمثلها.

فيقول: “لا تبتسم. لا تفترض أن تبسمي لك يعني أنني لن أقتلك الآن. تعلّم ذلك عن الإنسان.”

تهتف جدتي من وراء الباب: “آه يا سيمور، يا إلهي؛ ألا يفترض أن يكون في المخيم الصيفي أصلاً؟ اتصل بأمه.”

فينظر إليّ مباشرة ويصيح عليها غاضباً “كلمة أخرى منك أيتها الملازم وسأرميك في سجن المدمرة، ولن تري بيني ديووسكن حتى يوم النصر على اليابان.”

“سأعد القهوة.” ترد جدتي.

فأقول “كان الوقت متأخراً، وطرق أحدهم…”

يكمل “طرقتان، وفي الوقت الذي رفع به يده للثالثة، فتحت الباب. “رسالة من المراقبة يا سيدي. قارب على بعد ثلاثة أميال شمالاً يا سيدي. صغير جداً يا سيدي. قد يكون قارب عدو يا سيدي. ومرة أخرى، قد لا يكون. من الصعب الجزم بذلك يا سيدي.” أمرت الصبي بأن يخرس؛ بعض السعاة لا يعلمون متى يلتقطون نفساً ويدعونك تفكر، فهم يظنون أنك إذا لم تقل شيئاً فهذا يعني أنك تريد سماع المزيد، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق. تذكّر ذلك. ذهبت إلى منصة الربان وقلت لهم “انتظروا، انتظروا حتى نستطيع رؤيته، وجهزوا الطوربيدات.” هذا ما قلته، أو شيئاً شبيها. إنني أنسى الكلام.”

“الطوربيدات؟”
“نعم، الطوربيدات. لم أستطع رؤيته بوضوح، لكن احتمال أن يكون قارباً غير معادٍ ضئيل. هل تفهم ما أقصده؟”
“نعم سيدي.”
“لا، لستَ كذلك أيها البحار.”
“لا لستُ كذلك. على الإطلاق.”
“كنا قد حُذرنا بأمرٍ من الآدميرال بأن نكون على أهبة الاستعداد لأسراب قوارب الكاميكاز. هل لديك أي فكرة عن سرب قوارب الكاميكاز؟”
“بشكل عام، إنها تصطدم بجانب قاربكم، ثم تنفجر.”
“هل تتحاذق معي؟ ألا ترى أننا نتحدث عن حياة وموت هنا؟”
“أعتذر سيدي.”
“إذاً، انتظرت… تطلب الأمر منا نصف ساعة بالطاقة الاحتياطية كي نصل إلى نطاق ربع ميل من الشيء – ثم وبالبحث عنه تمكنت من رؤيته.”

يتوقف جدي عن الحديث ثم يفتح درج خزانته الأيمن، حيث يحتفظ بمسدس مغلق الصمّام وحزمة من كتب الرسوم الإباحية التالفة. إنها كتب غريبة، ففي الرسومات رجال بقضبان طويلة ذات قبعات في آخرها وشعر ينمو على الجانبين – تبدو لي مثل المخلل – يطاردون نساءً ترفعن تنانيرهن فوق رؤوسهن وعلى مؤخراتهن وشوم من قبيل “العم سام هو بابا” و”لم أقبل قيصراً أبداً”. ثم يغلق الدرج بقوة ويضم يديه معاً أمام وجهه، محركاً إبهاميه في الأرجاء كما لو أنه يستعد للصلاة أو لمصارعة الإبهام.

ثم يقول “يابانيون. يابانيون عراة على طوف. طوف محمل ببحارة عراة يابانيين. من المحتمل أن رقيقي القلوب اليوم كانوا سيدعونهم لاجئين، لكن في ذلك الوقت لم نسمهم بأي شيء عدا يابانيين. بدوا وكأنهم كانوا يطفون هكذا من أيام. أداروا ظهورهم باتجاه الضوء، لذا كان كل ما استطعنا رؤيته هو ظهورهم، حيث الجلد والعظم يتقاتلان للخروج والعظم يفوز.”

أعود خطوة إلى الوراء. أريد أن أجلس لكني لا أفعل. فيقف وينحني على مكتبه ويتفحص وجهي. ثم يشير إلى الباب ويغمغم “إن فيليس لا تعرف.” ثم يكتب بيده على دفتر الهاتف “فجّرتُه” بأحرفٍ كبيرة ويهمس “أصدرت الأمر.” يدور حول المكتب ويتحرك نحو خزانته ويقول “نستطيع التحدث هناك” فأتبعه إلى منطقة البزات. لقد أزال جدي كل ملابسه من خزانات جدتي المحشوة عن آخرها منذ زمن بعيد. إنه يطفئ الأنوار. وفي ضوء النهار خلف الباب أستطيع رؤية حذاء جدي وجوربيه الأبيضين. إنه يرتدي سروالاً قصيراً. كان يهتم بمظهره حتى ولو في ممشى البيت.

يقول “على رسلك يا بحار”، فأنحني عبر البزات وأربطة العنق والأحزمة المتدلية، وأرى الآن أن ما يهم ليس عدد مرات سماعك للقصة بل مكان سماعك لها. فقد سمعت هذه القصة من قبل، لكنها المرة الأولى التي أكون فيها وحدي في خزانة مع جدي. أقول:

“لماذا؟ لماذا، إن كنت علمت أنها ليست..”

يرد “لماذا؟” كما لو أنه لا يردد كلامي قدر أنه لا يعرف السبب بحق، فيتنهد ثم يقول هامساً رغم أننا في الخزانة “سيكذب عليك بعض الناس. سيقولون إنها الحرب. لن أكذب عليك. الأمر ليس مرتبطاً البتة بالحرب وكل ما يمكن فعله باللباس الذي كنت أرتديه. لأن وظيفتي كانت اتخاذ القرارات. بالإضافة إلى ذلك، ما الذي يمكنني – بحق الجحيم – عمله بحمولة طوف من العراة اليابانيين؟ كانت هناك حرب قائمة.”

“لكنك قلت للتو..”

“استمع يا مسؤوليتي. كون رجال مثلي جعلوا العالم آمناً لرجال مثل أبيك ليكونوا جبناء لا يعني أنك لن تفجر أي مدنيين، لأنك ستفعل ذلك. إني أقوم بذلك مرة كل أسبوع في الضفة.” ويضع يداً ممتلئة قوية على كتفي. “مفهوم؟”

أتنفس قائلاً “أبداً.”

فيقول “جيد”، وها نحن واقفان في الظلام ننظر إلى بعضنا والقصة مثل ما هي ومختلفة في نفس الوقت – أي مثل آخر مرة، لكن في هذه المرة هلت دموعه سريعاً وكأنها رغوة. يستنثر بيده، فأتناول كم أحد معاطفه من نسيج التويد وأعرضه عليه. فيقول “سأخرج” ويتركني في حجرة الاعتراف تلك مغلقاً الباب خلفه.

لا أتخيل أي شيء، ولا حتى يداً مثل سمكة تشد كاحلي. ينفتح باب آخر وتقول جدتي “سيمور؟ سيمور؟ أين الصبي؟

*****

خاص بأوكسجين


أستاذ الكتابة الإبداعية واللغة الإنجليزية بـ "جامعة دارتمُث"". من مؤلفاته: «عودة مافالا شكونغو الثانية» (رواية، 2006) - «حب وعار وحب» (رواية، 2010) – «قصص أستير» (مجموعة قصصية، 2001) - «آخر سيارة فوق جسر ساغامور» (مجموعة قصصية، 2013) - «هل أنا لوحدي هنا؟: ملاحظات حول القراءة لأجل الحياة والحياة لأجل القراءة» (مقالات، 2016)."