توقف متحيرا عند الباب، متسمرا، بين إكمال ما جاء به أو العدول عن قراره، ليس المهم أن تكون تلك الزيارة واجبا عليه بقدر تمسكه بشرف الصداقة والكلمة. كسر صبي سكونه حينما دنا منه وهو ينعق بمنبه عجلته الهوائية :
– صباح الخير عمو، من المؤكد انك زميل أبي !
– صباح النور، وكيف عرفت؟
– ليس الأمر بغاية الصعوبة أو الذكاء، خصوصا وأنت ترتدي بزة الطيران
– فعلا… خانني ذلك الأمر، إذاً أنت سامر!
– الأمر لا يستحق ذلك العناء أيضا، قد عرّفت عن نفسي بقولي أنت صديق أبي، وليس لي أخ آخر من الذكور!
قهقها، اسند سامر عجلته إلى الحائط، حضنه الطيار بلهفة حتى لاحت بعينيه دمعة
– صدق أحمد عندما وصفك بالذكي و………..
قاطعه سامر قائلا :
– والمتحذلق!
– نعم صدقت، هو يقولها هكذا دوما، لست أنا !
ضحكا هذه المرة كثيرا، تسلق سامر باب البيت برشاقة، فاتحا متراسه، أركن عجلته الهوائية داخل باحة الدار بسرعة، مناديا بصوت عال :
– جدتي، جاء صديق أبي، سأجعل مجلسه في الحديقة، لا عليك، سأهتم بأمر ضيافته…
دخل الطيار مدخل الدار المزين بحديقة كبيرة، جميلة التصميم، كثيفة الزرع يتوسطها الثيل الأخضر الداكن كأنه بساط مستوي، محاطة بساقية مقوسة الأكتاف، مرصوصة بالحجر الملون، تكاثفت على أطرافها أشجار متنوعة بشكل متناسق وجميل، تجاوزت بعض الأغصان سياج البيت الخارجي، تناثر الكثير من ثمارها خارج البيت و كمية أقل على عشب الثيل، وطافت بعض الحبات على مياه الساقية، تستظل بالأشجار أزهار الجوري بأغصانها المتدلية على الساقية، وأجمل ما في تلك الحديقة أزهار ألرازقي المزروعة داخل أواني فخارية، والمعلقة على مساند أرجوحة كبيرة تعلوها مظلة برتقالية اللون، كأنها حشرت تحت فيء شجرة التين الكبيرة، بجانبها كراسي بلاستيكية مبعثرة، ملونة بلون عشب الحديقة..
لم يهتم الطيار بأمرها كثيرا، كأنه رآها مسبقا، حينما كان يستمع لصديقه أحمد عن مواصفات حديقته التي يعشقها كثيرا، و يقضي معظم أيام إجازته للاعتناء بها، وقد أطلق عليها اسم العراق لأنها مختلفة الأنواع والألوان والعطور…
فوجئ الطيار بأقفاص الطيور الموزعة بين أرجاء الحديقة هنا وهناك، لم يستطع حبس صوته:
– لماذا يا أحمد، حبست تلك الطيور، خصوصا وأنت طيار بارع، تعشق الطيران، يا ترى ما هو شعور تلك الطيور، لا، لن أصدق ما أرى ؟
قاطع سامر حديث الطيار مع نفسه وهو يحمل بيديه ماعون من التمر وقدح من اللبن:
– عمو، أبي لم يحبسها إطلاقا، إنما يخشى عليها دوما من المتطفلين، تَهدّها أمي في صبيحة كل يوم، لن تصدقني بما سأقوله لك:
– حالما تشعر تلك الطيور بمغادرة أمي صبيحة كل يوم وهي تمسك بيد أختي التلميذة في نفس المدرسة التي تعمل فيها أمي معلمة، تحط جميعها على الأرض، تدخل أقفاصها بكل سلاسة وهدوء وأمان، وما على أمي، سوى غلق تلك الأقفاص…..
– أين هي جدتك ؟
– بالقرب منا، تسمع حديثنا، إنها مقعدة على كرسي متحرك، أصيبت بمرض ما….
– نعم، سمعت ذلك من أبيك، عافاها الله…
جلس الطيار على إحدى الكراسي الخضراء، يشرب اللبن بروية، بينما يحاول سامر غسل يده اللزجة في مياه الساقية بعد تناوله قليل من التمر، ثم بدأ يتكلم وهو مازال يمضغ :
– هل أنت في إجازة ؟
– نعم، جئت للتو…
– وماذا عن أبي ؟
– ستراه قريبا إن شاء الله، وهل اشتقت له ؟
– عمو : قبل أن أجيب على سؤالك، مالي أراك تتصبب عرقا و الطقس بارد؟
– لا، لا شيء، أشعر بالتعب، لم أنم طيلة الأيام الماضية، دعك من هذا الأمر، لم تجب على سؤالي ؟
– وكيف لا، إنه حبيبي، أفضل من أمي…!
– لا، لِمَ تقول ذلك ؟
– إنها تكره أن أكون طيارا مثل أبي.
– لأنها تخشى عليك كثيرا.
– ولِمَ لا تخشى جدتي على أبي ؟
– لأنها شجاعة، حكيمة، تكبر أمك بعدة سنين، كما أن أبيك أصر على ذلك…
– قال أبي، إن الحرب، تحتاج إلى رجال أقوياء، وأنا قوي جدا، أنظر إلى عضلاتي المفتولة !
سحب سامر كُم قميص يده اليمنى فوق المرفق، واضعا ذراعه بزاوية قائمة ليقلص عضله، كرر تلك الحركة عدة مرات، أما الطيار كان مشغولا بمسح العرق عن وجهه بكم بزته… ومازال سامر يتكلم:
– كم هو جميل أن أقاتل مع أبي في سرب واحد، أحب الطيران كثيرا، كما
أنني أمتلك طائرة سريعة جدا، دائما ما كان أبي يعلمني الطيران عليها….
– حقا ! وأين تلك الطائرة، شوقتني كثيرا ؟
– إنها في المخزن، سأجلبها حالا، اخذ سامر ما فرغ من الأواني، متجها نحو باب المطبخ، الذي دخلت منه امرأة عجوز، تدفع بيديها دولاب كرسيها المتحرك نحو الممر المرصوف بالمرمر المؤدي إلى الكراج والملاصق لسياج الحديقة الخشبي، انتبه الطيار لصوت العربة، أسرع بالنهوض من مقعده، سبقته العجوز بالتحية:
– أهلا أمي، عافاك الله، كيف حالك ؟
– أنا بخير، وماذا يحصل لعجوز مثلي، أنا قلقة عليكم كثيرا، انطلاق الصواريخ، صفارات الإنذار وسيارات الإسعاف، أمست الأصوات الأكثر شيوعا في هذا البلد، ولا نعلم ماذا يجري في تلك الحرب الملعونة، لاسيما بعد انقطاع مصادر الكهرباء و الاتصالات، والتشويش على محطات الراديو، البلد يحترق عن بكرة أبيه……
صمتت قليلا، كأنها استدركت شيئا مهما :
– كيف حال أخيك، هل هو بخير ؟ سمعت أنكم في درجة قصوى من الإنذار، لم يقم أحمد يوما بإرسال مبعوث إلّا لأمر مهم، هل هناك خطب ما ؟
أخذت أوداج الطيار تصعد وتنزل من منحره، حتى بان الإرباك على صوته :
– إنه بخير، يبعث السلام أليك ولعائلته، سترينه قريبا بإذن الله…
طأطأت العجوز برأسها، كأنها تخفي وجهها عن الطيار، تعبث بحاشية حجاب رأسها الفضفاض…
قطع سامر حديثهما، آخذا بيد الطيار نحو الحديقة:
– ها هي طائرتي الورقية، أترى كم هي جميلة ! صنعها لي أبي قبل أن يذهب إلى الحرب، أصبحت طيارا ماهرا، سترى صدق كلامي ؟
ظلت العجوز تراقب حركات الطيار، التي باتت حركاته مرتبكة، خجولة، وبالأخص تعرقه واحمرار وجهه، سر كثيرا عند مقاطعة سامر حديثه مع العجوز، لم يستأذن الطيار من العجوز، مشاركا سامرا بنصب طائرته الورقية، فتحا خيطها الطويل في وسط الحديقة، رفع سامر طائرته بمساعدة الطيار إلى الأعلى، أخذت ترتفع تدريجيا حتى حلقت على علو شاهق، كأنها طائرة حقيقية، همس الطيار بأذن سامر المشغول بأمر الطائرة :
– طلب أبوك مني أن أعطيك هذه الساعة، إنها ساعة طيران حقيقية، لم يسمع
سامر ما قاله الطيار في الوهلة الأولى، صاح بصوت عال : ماذا تقول ؟ كرر
الطيار همسته ثانية، لم يٌصدِّق الطفل ما سمعه،سٌر كثيرا :
– هل هي ساعة أبي حقا ؟ حبيبي، حبيبي أبي، كررها عدة مرات، كم اشتقت إليه، أيها الطيار، أرجوك أذهب بدلا عنه، حتى يأتينا بأجازة، اليوم عيد ميلادي، الله عليك، الله عليك..تراقص بساقيه إلى الأعلى والأسفل، ضاربا بإحدى قدميه الأرض بقوة كل مرة، مكررا توسله.
كأنما كان في حلق الطيار حجرا وهو يتكلم بغصة:
– لهذا أنا هنا اليوم، هي هدية عيد ميلادك، بعثها أبوك، دعني أساعدك على لبسها رغم إنها ستكون كبيرة جدا عليك، جلس الطيار القرفصاء وراء سامر، واضعا خده الأيسر قرب خد الصبي الأيمن، وكلاهما ينظران نحو الطائرة الورقية المحلقة،ماسكين بالخيط، همس بأذنه ثانية :
– إذا كنت تريد من أبيك أن يكون معك الآن، لا عليك سوى أن تغمض عيناك، وانتبه جيدا لما أقوله لك، أغمض الطفل عينيه وهو يبتسم قائلا وماذا بعد ؟
– تخيل أن أبيك قائد الطائرة، هل تراه الآن ؟
صمت سامر قليلا، كأنه يبحث عنه، صاح عاليا:
– نعم، قد وجدته أنه يقود الطائرة متعمم بغطاء حديدي، ولكنه لم ينتبه لي حتى الآن.
– ربما مشغول بأمر الشمس لأنها أمست أمام مقصورة الطائرة، حاول بخيطك التملص من مقابلة الشمس…
– لا أستطيع، هناك غربان، قريبة من طائرتي، تحاول نكزها، لابد أن أناور بها، سأنحدر قليلا، ثم أتسلق..
– جيد أيها البطل، تجاوز الغربان، ولا تجعلها خلفك أبدا، هل رآك الآن ؟
– نعم، نعم، نعم، لوح لي بيده اليسرى، ها أبي، ها أبي….
صمت قليلا، ثم بادر متحدثتا بهدوء هذه المرة وبنبرة حزينة :
– إنه لا يسمعني، لِمَ لا يسمعني ؟ رفع من نبرة صوته عاليا، أبي، أرجوك التفت نحو ي، هل من المعقول أنك لم ترني أو تسمعني؟
التفت نحو الطيار ومازال مغمض العينين :
– عمو الطيار، لكن أين ساعته، لم أرها بمعصمه، أنه لا يستغني عنها أبدا ؟
ذرف الطيار دمعه خلسة لكنها بانت على حشرجة أنفاسه :
– يا سامر الساعة في يدك، أصبحت مالكها، دع ذلك بيننا، لا تفرط بها أبدا، هيا لنستمر بالطيران، واترك أمر أبيك، الذاهبون للشمس لا يسمعون أهل الأرض…
– إنه يتجه نحو الشمس فعلا، مازالت الغربان تلاحقه بسرعة…
– لا عليك من الغربان، ستنكش الشمس ريشها…
و ما لبثا على تلك الحال حتى سمع الطيار هديل الطيور و كأنها مفزوعة، عندما قامت العجوز بفتح متاريس الأقفاص، ناحبة بصوت عال، كأنه يخرج من القلب، حلقت الطيور عاليا، بعيدا، بعيدا نحو الطائرة المتجهة إلى الشمس…
______________________________
كاتب من العراق
الصورة من أعمال السينمائي والفنان التشكيلي السوري رائد زينو
*****
خاص بأوكسجين