السجّان
العدد 234 | 01 آب 2018
منى السويلم


كعادته أنبعث جالسا على رنين ساعته ( الخراش ) قبل أن يفيق تماما من نومه أخرسها بحركة أتوماتيكيه، عرك عينيه، كح وضرط،ثم بسمل وحوقل، أنزل قدميه ودسهام في نعليه وهو ما يزال يحافظ على شق عينيه مخيطا بإحكام. تذكر أن اليوم هو آخر يوم يذهب فيه إلى عمله فأنطفأت همته، و سقطت منه يديه على فخذيه قبل أن يعود ليتمدد في مرقده، لا شيء سيحدث حتى لو لم أذهب إلا بعد الظهيرة ؟ قال لنفسه. هذه السعة أزعجته بدلا من أن تبهجة “اليوم قد أذهب بعد الظهر لكن ماذا سأفعل في أيامي القادمة؟” انقلب على جنبه وجر لحافه فوقه، أبو فهد الذي سيستلم منه النوبة ينتظرة ليجيء الفول والتميس ليفطرا ويشربا الشاي سوية قبل أن يعود لبيته بعد تسليم المناوبة له، هذه الفكرة كانت كفيلة بأن تجعله يقفز ليرتدي حلة العمل ويغادر مسرعاً لولا أن اليوم هو اليوم.

أنقلب على جنبه الآخر حيث امرأته تغط في نوم عميق، شفتاها منفرجتان قليلا، تشخر، نبر بإنزعاج “وجع!” أرتكضت من لكزته ورمقته بحقد ممزوج بخوف، غادرت المرقد وهي تتمتم بتعاويذ وتحوقل، فوعدها بالويل والثبور إن لم تخرس، طلب لروحها العذاب من رب العباد قبل أن يأمرها بأن تغرب عن وجهه لكي لا تفسد صباحة بفحيحها.  غضبه لم ينفثئ إلا بعد أن لعنها في قلبه ولعن جنسها النجس الذي لم يذقه طوال عمره إلا الهم و الغم.

مثل ديك في مشواة تقلب في مرقده الذي أبى أن يغادره حتى أغتاله النوم أخيرا، حلم بنفسه في الدهليز يمشي بمشقة، ثم توقف فجأة لأن قدمية تمردتا ضد رغبته، وساقاه تراختا و عجزتا عن إزاحة بسطاره الثقيل قيد أنملة، كان يريد الوصول لآخر الدهليز ليطل على الزنانة رقم ١١ الموجودة في آخر القبو، قدماه أبتا أن تنزاحا رغم مجهوداته الجبارة، بدأ عرقه ينز من جبينه ويسيل على عينيه غزيرا وكأنه دمع، تشوشت أفكاره كحال رؤيته التي غبتشها ملوحة عرقه العزيز. قدماه باردتان وكأنهما قطعتا حديد، أنفلتت إحدى قدميه فجأة من الحذاء فأستشعر خفة أدهشته، وجعلته يخلع حذائه الآخر بيده. سار بحذر حتى وصل أخيرا للزنزانة الهدف، كان يساوره بعض القلق من أن يلحظ السجين بأنه حافٍ فينتقصه، إلا أنه لابد مما ليس منه بد، نظر فوجد نفسه في الداخل، مقرفصا بملابسه الداخليه في الزاوية يحتضن ركبتيه بكلتا يديه، لم يرَ وجهه لكنه كان عارفا بأنه هو الذي كان قابعا هناك في الداخل.

  انطلق صوته واهنا يمشي في المسافة الفاصلة بينه وبينه : “هيه أنت !” لكن هلعه من أن يرى نفسه يلتفت إليه و من أن تنظر عيناه في عينيه أيقظه من نومه. مسح جبينه الندي بكلتا يديه و فتح عينيه لينحي بعيدا المشهد الذي أفزعه وهو يقلل من أهميته، خير! خير! اللهم اجعله خير!

كان يكذب على نفسه، ولسانه رغم إرادة منه راح يلهج بالحمد لأنه كان في عالم الحلم لا العلم.

إلتفت إلى الساعة المعلقة على الحائط فوجد عقربيها متعانقين في المسافة الواقعة بين الثامنه والتاسعة، فزفر بملل، رمى عنه لحافه وغادر فراشه ثم حجرته، سار حتى أوقفه الدرج. من هناك نادى “يا هيش!” ولما لم يسمع رداً سريعاً، صرخ من أعماق بطنه بغضب : “أنت يا هيش!” ردت بنفاد صبر مطلقة في وجهة بصوتها الحاد المستفز، صوتها الكريه الذي كل ما أنتثر في فضائه أوشك أن يشق طبلتي أذنيه “ويش؟”. الفطور !  قال آمراً وقفل عائداً.

 توضأ وصلى ركعتين ثم التفت من جديد للساعة، مرت ثماني أو تسع دقائق.

أووووووف ! زفر بإنزعاج.

التقط هاتفه والريموت كنترول قبل أن يتربع أمام التلفاز ويشعله، فكر وهو يلتفت لشاشة هاتفه النقال كذبا أسألوا ؟ قولوا سلامات !

 تنهد وفكر وأنت هل سألت عن أولئك الذين تساقطوا  قبلك ! أو دخلت لهم مجلساً إلا وكان مجلس للعزاء  ؟

جاءه مهرولا إفطارة الذي أكتفى منه بلقيمات، صب لنفسه بعد أن أزدرد آخر لقمة كوبا من الشاي، أشعل سيجارته، وأتكى يقلب صحائف هواجسه على مهل.

 آه لو أنهم يعرفون كم نفعتهم وكيف خدمت بكل إخلاص مداس ما ينتعلون !

والله كانوا سيتوسلون كي لا أفارق !

 من مثلي عالج لهم العاهات التي كانوا لسجني يوردون ؟!

انا الذي أستأنس لهم الكلاب الضالة وقلّم أظفارها وخلصها من أنيابها وقطع لها لسانها، وأستأصل عنفوانها و عنفها وقلم كبريائها  !

معلم المشي على الصراط المستقيم أنا.

 ألم أكن لهم عصاهم التي لا تعصاهم ؟!.

  تذكر بحسرة  كيف أن مجرد ذكر أسمه للمحكوم يحل منه بطنه وتسيب بسببه ركبتيه !

 الان بعد كل ذاك سيهبونني درع ( ما قصرت مشكور وأقعد في بيتكم أرتاح !)

 لو أني عملت لهم قدر ما يستحقون ماصار حالهم حالهم ! لا ولا هذا صار حالي.

مسجونا كالمساجين على الضفة الثانية من القضبان.

المفاتيح التي كانت معي ما فتحت بها لي.

حرصي على حبسهم حبسني.

أعتى كوابيسي هو أن أرى في منامي زنزانة بباب مشرع.

 نظر الي كفيه بعروقها البارزة وهو يفكر من شغل هاتين في المربوط أرتدع المنفلت !

حنى رأسه ونظر للمنفرج بين ساقيه والله حتى انت ما قصرت معهم! كم واحداً ذللت، وكم واحداً شرخت قشرة كبريائه، حتى أنت كلبا كنت من كلابهم مثل صاحبك يا كلب، ( تفووووو ) بصق ! 

كنت ومازلت مستعدا أشتغل عندهم ممسحة. وليتهم عني رضوا ! 

النظام قرر أن يغتسل بي،وأن يبدلني بممسحة نظيفة ، نسبوا لي كل ما كانوا يملونه علي وتنصلوا من فعالهم. 

شعر برغبة في أن يصرخ بأعلى صوت ويصدم الغوغاء بأن لا شيء سيتغير، كل ما هناك أن أسماء جديدة بوجوه جديدة بلا تاريخ ستقوم بالفعل القذر ذاته.

لن يتغير شيء إلا حياتي !

لعنة الله على حياتهم وكل الحيوات الوسخة بما فيها حياتي.

بدأ صدره يضيق، ويداه ترتجفان من شدة الانفعال، شعر بإرتباك شديد. وقف فداهمه دوار مفاجئ كاد يطيح به لولا أنه تمسك بقطع الأثاث حتى أرتمى من جديد على فراشه. أستمات ليدخل مقدار ملعقة صغيرة من الهواء لرئتيه المنقبضة، شد لحافه بيسراه بينما يمناه تضغط بشده على نهاية قفصه الصدري وأغمض عينيه وزم شفتيه.

أستعمرته رجفة يصعب السيطرة عليها وراحت تركض في شرايينه. عض على لسانه بشدة ليسكت استغاثة تكاد تنطلق هاربة من حلقومه. فهو كائن لا يليق به الخوف.

حملق بشدة بحثا عن نقطة من ضوء، حملق حتى جحظت عيناه لكنه لم يعد يرى .

عادت زوجته لترفع مائدة إفطاره من دون تلقي نظرة عليه تجنيا لتجهمه وتهجمه، يتردد في داخلها توسل يتصاعد مع انفاسها صاعداً للسماء مباشرة “نمت ما قمت ! نمت ما قمت ! نمت ما قمت إن شاء الله”. 

لم تكتشف أنها أمنية محققة، وأن سجانها فارق الحياة إلا بعد أن جفت عينيه وبردت جثته.

 لم يصلِ عليه أو يصله بصلة أحد من أسياده، ووري الثرى كالمغضوب عليهم والضالين.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من السعودية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: