الساحرة
العدد 275 | 28 كانون الثاني 2023
شيرلي جاكسون | ترجمة: زياد عبدالله


كانت العربة شبه فارغة وهكذا شغل الصبيّ الصغير مقعداً بمفرده، بينما جلست أمه على المقعد الموازي للممر بجوار أخت الصبي، الطفلة التي تحمل قطعة “توست” بيد وخشخيشة بالأخرى، وقد رُبطت بحزام في مقعدها بحيث تبقى جالسة باستقامة تراقب ما حولها، وحين تنسل ببطء يمسكها الحزام وهي في منتصف المسافة وما أن تنتبه إليها أمها حتى تعيدها إلى وضعية جلوسها السابقة. ينظر الصبي عبر النافذة ويأكل بسكويتة، والأم تقرأ بهدوء، مجيبة على أسئلة الصبي من دون أن ترفع ناظريها.

“نحن فوق النهر”، قال الصبي. “هذا هو النهر ونحن فوقه.”

“حسناً.” قالت الأم.

“نحن على الجسر فوق النهر،” خاطب الصبي نفسه.

من على متن العربة الجالسون في الجهة الأخرى، إن عبروا الممر لسبب ما، فإن الصبي سيلتفت ويقول “مرحباً”، وغالباً ما يجيبونه بـ “مرحباً”، وليسأله بعضهم ما إذا كان مستمتعاً بركوبه القطار، أو يخبرونه شيئاً من قبيل أنه شاب جميل يُعتمد عليه، ولتشكّل تلك التعليقات مصدر إزعاج للصبي فيشيح بوجهه مجدداً باتجاه النافذة.

“أرى بقرة،” يقول ثم يتنهد ويردف، “كم من الوقت لنصل؟”

وفي كل مرة تجيبه أمه، “ليس كثيراً.”

الطفلة الهادئة والمشغولة بالخشخيشة وقطعة “التوست” التي تحرص الأم على تجديدها، مالت وانزلقت كثيراً فارتطم رأسها، وشرعت بالبكاء، وعمّت الحركة عند مقعد الأم، ونزل الصبي عن مقعده ومضى عبر الممر ليداعب رجلي أخته ويرجوها التوقف عن البكاء، ولتتحول الطفلة إلى الضحك وتعود إلى قطعة “التوست”، وليتلقى الصبي مصاصة من أمه ويعود إلى النافذة.

“رأيت ساحرة، هناك ساحرة شمطاء بشعة كبيرة عجوز شريرة في الخارج.” قال الصبي لأمه.

“حسناً.”

“ساحرة شمطاء كبيرة بشعة قلت لها اذهبي فذهبت،” واصل الصبي حديثه، وهو يسرد لنفسه، “جاءت وقالت سآكلك وقلت لها لا لن تفعلي، وطارت الساحرة الشريرة الشمطاء الحقيرة.”

توقف عن الكلام ونظر إلى باب العربة وقد فتحه رجل وخطا إلى داخلها. رجل عجوز، بوجه ودود وشعر أشيب، وبدلة زرقاء مجعدة قليلاً جراء رحلة القطار الطويلة. كان يحمل سيجاراً، وحين قال له الصبي “مرحباً،” رفع يده التي يحمل بها السيجار وقال، “أهلا بك يا بني.” وقف قرب مقعد الصبي، واتكأ إلى مسنده، ناظراً نحو الأسفل حيث الصبي الذي رفع بدوره عنقه لينظر إلى الأعلى. “ما الذي تبحث عنه خارج هذه النافذة؟” سأل الرجل.

“ساحرات، ساحرات شريرات شمطاوات حقيرات.” أجابه الصبي في الحال.

“هل وجدت العديد منهن؟”

“أبي يدخن السيجار،” قال الصبي.

“كل الرجال يدخنون السيجار، وأنت يوماً ستدخنه أيضاً.”

“أنا رجل الآن.”

“وكم عمرك؟”

نظر الصبي بريبة إلى الرجل، وهو يواجه هذا السؤال الأبدي، ثم قال”ست وعشرون. ثمان مئة وتسع وأربعون.”

رفعت أمه رأسها عن الكتاب. وقالت مبتسمة ابتسامة حنونة للصبي، “أربع.”

“هل هو كذلك؟” قال الرجل بتهذيب للصبي. “إنه في السادسة والعشرين.” أحنى رأسه للأم. “هل هي والدتك؟”

أحنى الصبي جسمه إلى الأمام ناظراً وقال، “نعم هذه هي.”

“ما اسمك؟” سأل الرجل.

بدا الصبي مرتاباً مجدداً. “السيد يسوع،” قال.

“جوني،” قالت أم الصبي، وقد التقت عيناها بعينيه فقطبت حاجبيها وعبست.

“هذه أختي، عمرها اثنا عشر شهراً ونصف.” قال الصبي للرجل.

سأله الرجل، و”هل تحبها؟” ثم التف الرجل إلى جانب المقعد وجلس إلى جانب الصبي.

“اسمع. هل أخبرك عن أختي الصغيرة؟” قال الرجل.

الأم التي بدا عليها القلق لدى جلوس الرجل بجانب الصبي، عادت مستكينة إلى كتابها.

“خبّرني عن أختك، هل كانت ساحرة؟” قال الصبي.

“ربما.”

ضحك الصبي متحمساً، وأسند الرجل ظهره ونفث دخان سيجاره، وأنشأ قائلاً “كان يا مكان، كان لدي أخت صغيرة، مثل أختك.” رفع الصبي ناظريه نحو الرجل، وراح يهز رأسه مع كل كلمة. وواصل الرجل، “وكانت أختي الصغيرة جميلة ولطيفة جداً وأحببتها أكثر من أي شيء في هذا العالم. هل أخبرك بالذي فعلته؟”

هزّ الصبي رأسه هزَّات متوالية، ورفعت الأم عينيها عن كتابها وابتسمت وأنصتت.

“اشتريت لها حصاناً هزّازاً ودمية ومليون مصاصة، ومن ثم أخذتها ووضعت يدي حول عنقها وبقيت أضغط عليها وأضغط عليها إلى أن ماتت.”

تسارعت أنفاس الصبي، وانسحبت البسمة من وجه الأم وباتت تتلفت حولها، وواصل الرجل، “ثم قمت بفصل رأسها عن جسمها-“

“هل قطّعته قطعاً؟” سأل الصبي ونفسه يكاد ينقطع.

“قطعت رأسها ويديها ورجليها ونزعت شعرها وجدعت أنفها، وضربتها بالعصا وقتلتها.”

“توقف،” قالت الأم، إلا أن الطفلة وقعت، وبينما كانت تعيدها إلى مكانها واصل الرجل.

“وأخذت رأسها ونزعت شعرها و-“

“فعلت هذا لأختك الصغيرة؟” هتف الصبي متلهفاً.

“نعم لأختي الصغيرة، ووضعت رأسها في قفص مع دبّ فالتهمه.”

“أكل رأسها؟” سأل الصبي.

وضعت الأم كتابها جانباً، وجاءت ووقفت بقرب الرجل قائلة “ما الذي تفعله؟” فنظر نحوها بنظرة لا تخلو من الاحترام وأردفت، “اذهب من هنا.”

“هل أخفتك؟” خاطب الرجل الصبي، ولكزه بكوعه فضحك الصبي.

“هذا الرجل قطّع أخته الصغيرة،” قال الصبي لأمه.

“أستطيع بمنتهى السهولة أن أطلب مدير الرحلة،” قال الأم مخاطبة الرجل.

“سيلتهم المدير أمي، سننزع رأسها.” قال الصبي.

“ورأس الأخت الصغيرة أيضاً،” قال الرجل وهو يقف، بينما الأم تفسح له المجال ليترك مقعده.

 “لا تفكر بالعودة إلى هذه العربة أبداً،” قالت.

“ستأكلك أمي،” قال الصبي.

ضحك الرجل والصبي. ومن ثم قال الرجل إلى الأم، “لو سمحت،” وليمر من أمامها ويخرج من العربة. حين أغلق الرجل الباب خلفه قال الصبي، “كم بقي من الوقت لنصل؟”

“ليس كثيراً،” قالت الأم. أرادت أن تقول شيئاً للصبي وهي تقف تنظر إليه، إلا أنها قالت في النهاية، “اجلس في مكانك وكن مهذباً، وستحصل على مصاصة أخرى.”

نزل الصبي عن مقعده ولحق أمه إلى مقعدها. أخرجت مصاصة من حقيبتها وأعطته إياها. “ماذا علينا أن نقول؟”

“شكراً.” ثم سألها، “هل حقاً قطّع أخته إلى قطع؟”

“إنه يمزح فقط،” ثم كررت بإصرار، “يمزح فقط.”

“ربما،” قال الصبي، وعاد بمصاصته إلى مقعده، وجلس ينظر من النافذة مجدداً. “ربما كان ساحرة.”

——————————

*من مجموعة قصصية بعنوان “اليانصيب وقصص أخرى” صدرت أخيراً عن دار المدى في بغداد.

*****

خاص بأوكسجين


إنها شيرلي جاكسون (1916 – 1965) الكاتبة وربة البيت والساحرة. إنها الأم الطيبة التي تنكبّ ليلاً على دراسة الشرّ . لقد ألّفت أكثر من مئتي قصة قصيرة، وست روايات، وكتبت مئات الرسائل لأمها، وتزوجت الناقد الأدبي ستانلي هيمن، وأنجبت منه أربعة أولاد، أحبتهم جميعاً، وأحبت القطط والكلاب، وشربت ما لا يحصى من قناني الويسكي والبوربون، ودخنت عدداً لا متناهياً من السجائر، وتناولت طيفاً واسعاً من المسكّنات والمهدئات، وماتت وهي نائمة بنوبة قلبية ولم تتجاوز الخامسة والأربعين من عمرها. (من مقدمة كتاب اليانصيب وقصص أخرى).