الذات المجعلكة – الذات الخاوية
العدد 148 | 24 آذار 2014
زياد عبدالله


أفضت المراجعات المكثفة التي قام بها في الفترة الأخيرة إلى لاشيء، وخرج خالي الوفاض من ذاته، التي أصيبت بعطب بالغ من جراء الجلوس الطويل فوق ذاته التي كانت مجعلكة تماماً، وقد تبادر إلى ذهنه بأن جلوسه عليها سيؤدي إلى أن تخرج من تحته مكوية وجديدة، وعاش على هذا الأمل، وبما أنها خاوية تماماً، فقد كان جلوساً لا مضاعفات له، فهو لم يصب بحكة من جراء تسرب شيء منها، كما لم تداهمه نوبات أو أمراض مستعصية مثل تلك التي تنتمي للحنين أو الهلع.

ومع تدافع الأحداث الكبرى التي أوحت بمنعطفات تاريخية، نهض عن كرسيه وألقى نظرة على ذاته فشبّه له أنها مكوية تماماً، وأصبحت تداهمه تهويمات مرتبطة بلحظة نهوضه المترافقه مع فرقعات في مفاصله، سجّلها على مسجّل بوصفها الموسيقا التصويرية للحظة نهوضه العظيمة، التي ترافقت مع تنامي الثقافة القمقمية، وخروج المارد الذي لم يكن محقق أماني في المرة الأولى التي أخرجه الصياد فيها من القمقم، بل كان أول ما سيقوم به هو أن يقتل الصياد، لو لم يعده إليه، ويخرجه منه مرة ثانية بعد ندم المارد.

لاداعي لخوض أي سجال لحظة حضور المعجزة وتناميها. “هذا سخف” قال. “أنا الآن صياد السمكات الأربعة الملونة، ولن أعود أبداً إلى شباكي التي مزّقها الحمار”. هذه بصيرة ثاقبة، حطمت الادعاء المزيف بأن ذاته خاوية، وقد انتشر الإيمان بأن المعجزة قد تحققت، وبدأت ذاته تمتلئ من جراء الحركة، وهذا منطقي ورصين جداً وفق قوانين الفيزياء والتدفق والمولدات الضخمة، يضاف إليها علوم الأحياء كون الجلوس لا يحمل سمات الكائنات الحية. 

لا حاجة للمعجزة لأي شيء، فهي تقع فجأة، ومتى تحققت فقد تحققت، وهي تدفع للاحتفاء بها فقط مهما كانت نتائجها، فمتى ما حمل حدث صفة الاعجاز فهذا يدفع لخيارين لا ثالث لهما هما إما الإيمان أو الكفر. وفي هذه الأثناء تسربت إلى أعماقه التي هي أهم شيء في ذاته آيات من الذكر الحكيم، وهناك من ألقى نظرة على أعماقه فوجدها مغموره بآيات مكتوبة بخط الثلث، وخطوط تعذّر التعرف عليه من جراء حركة أمعائه المترافقة مع خفقان قلبه الصاخب المليء بالنبوءة.

كل ذلك وثّق باسهاب كبير وصل حد التفاني، وقد جيّشت جيوش من النبّاحين والمدّاحين، وقد قيل عنهم أنهم هم وهم فقط من أنهضوه عن كرسيه، وصاروا يحملون هذا الكرسي أينما ذهبوا، كراية، كآية عظمى، كمظلة خالدة، وسرعان ما جلسوا عليه جميعاً دفعة واحدة وراحوا يتزاحمون عليه، وبقي هو الواقف وحيداً يصارع ويصارع، ومن ثم أصبح الواقف وحيداً أبداً وقد تهشّم الكرسي، وقد انفضوا من حوله وأصبحوا كما هم أصلاً من النبّاحين عن بعد، وأعيدت له  ذاته المجعلكة من جديد، وهكذا بقي واقفاً، لا أمل له حتى بالجلوس مع ذاته أو حتى عليها.

 

______________________

شاعر وروائي وناقد من سورية

 

الصورة للمخرج المصري عمرو بيومي

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.