\”الجمال العظيم\”.. مفاتيح لأبواب روما المشرعة
العدد 161 | 09 تشرين الثاني 2014
زياد عبدالله


ما الذي سنكون عليه أمام من يقول لنا سأضع أمامك على الشاشة جمالاً عظيماً؟ ألا يستدعي الأمر شيئاً من الحيطة والحذر، وربما في توصيف آخر تحضر كلمة مثل الورع! هذا تتبع لعنوان فيلم المخرج الإيطالي باولو سرنتينو “الجمال العظيم The Great Beauty” حاصد الجوائز في “البافتا” و”غولدن غلوب” وصولاً إلى نيله أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانكليزية.

إن كانت البداية مع العنوان فإنه لن يفارقنا أيضاً ونحن نشاهد الفيلم، بمعنى أننا بحق سنكون حيال جمال عظيم، أو “رحلة في آخر الليل” ما دام سرنتينو يستشهد بداية بمقطع من رواية فردينان سيلين هذه “الارتحال مفيد جداً، يحرك الخيال، وما عدا ذلك مدعاة للاحباط  والتعب، رحلتنا خيالية وتلك قوتها، تمضي من الحياة إلى الموت، البشر والحيوانات والمدن والأشياء، وكله من نسج المخيلة..ثم إن في مقدور الجميع أن يأتوا بمثلها: يكفي إغماض العينين..” 

هذا المقطع هام جداً في فهم المنطق الذي يتبعه سرنتينو في الفيلم، ونحن لا نتحدث عن سرد أفقي للأحداث ، بل تنقلات تحكمها عوالم الشخصية الرئيسة في الفيلم، كما أن رواية سيلين التي ما زالت إلى اليوم مساحة لقراءات متعددة لم يمض وقت كثير على مقاربتها بوصفها عملاً أدبياً تتساوى فيها المعاناة مع المتعة.

كل ما تقدم قصف تمهيدي لجماليات “الجمال العظيم” والفيلم يبدأ بطلقة مدفع ومن ثم تمضي الكاميرا ونحن ندخل ملكوت جمال روما، وهناك مجموعة من السياح الآسيويين، ومن النوافذ الرومانية يأتينا غناء أوبرالي، كل العناصر تتناغم وحركة الكاميرا الأشبه بحركة الكاميرا لدى تيرانس مالك، التماثيل والبرك والنوافير والكنائس والجو المشمس، وصولاً إلى وقوع أحد السياح صريعاً، ومن ثم الانتقال إلى حفلة صاخبة، وليست هذه الحفلة إلا احتفالاً بعيد ميلاد “جب” _دور رائع آخر لتوني سيرفيلو بعد أن جسد مع سرنتينو شخصية رئيس الوزراء الإيطالي اندريوتي في فيلم “ايل ديفو”_ شخصية الفيلم الرئيسة التي يتمحور حولها كل ما سنشاهده، وها هو يظهر أمامنا وفي فمه سيجارة ويمضي في الرقص.

جب هو كاتب وصحافي ألّف رواية واحدة في حياته، وهو أصلاً ليس من روما لكنه عاش فيها أربعة عقود وما زال مواصلاً حياته فيها وهو يكتشفها يومياً، عبر ترف حياته، كما لو أنه أيضاً مارشيلو في رائعة فيلليني “لا دولتشي فيتا”، ولعل هذه الإحالة لا تأتي إلا من شعور داهم أثناء مشاهدة الفيلم بأن طيف فيلليني يحوم بأرجائه، طيف ولا أكثر، إذ يمكن لروما أيضاً أن تتقاسم بطولة الفيلم مع توني سيرفيلو، روما التي لا تتوقف الكاميرا عن نبشها وبشرها، عوالمها وجمالها، لا بل إننا سنقع على من يمتلك مفاتيح روما، ونمضي في رحلة سحرية في التماثيل والقصور، ومالك تلك المفاتيح يقول بأنه حصل عليها من خلال ثقة عائلات روما به، فهنا لن يختفي الجمال الروماني كما يحدث في “روما” فيلليني حين نقع على جداريات وتماثيل تحت الأرض أثناء حفر مترو روما، ولتختفي لأن الهواء دخل إليها، وما يحمله ذلك من رمزية عابرة للأزمنة، بل سيكون الجمال راسخاً، و جب لم يتمكن من كتابة رواية ثانية لأنه كان يمضي وقته في تعقب ذلك الجمال، كما سيقول للراهبة صاحبة المعجزات التي لا تأكل إلا جذور الأرض، وهذا أيضاً معبر جمالي آخر، لا يقاربه سرنتينو بحس ساخر كما يفعل فلليني في ظهور مريم العذراء في “لا دولتشي فيتا” أو تناوله البابا وعرض الأزياء الذي نقع عليه في “روما”، فتلك الراهبة ستأتي إليها البجعات والتي تدفعها إلى الطيران بنفخة منها.  

بالعودة إلى ما اعتبرته قصفاً تمهيدياً، فإن ما سنقع عليه هو جمال الحياة العظيم، وبالتالي فإن حركية الفيلم ستكون وفق المنطق الداخلي لجب، إذ يكفي “إغماض العينين” كما الاقتباس من سيلين، لنكون حيال جموع البشر المتواجدين في الفيلم، وأيضاً سيكون الحب والموت صنوان، كما المتعة والمعاناة، كما الشباب وخريف العمر وجب يستعيد حب حياته الأول إذ يكفي أن يغطس في مياه البحر تجنباً للقارب القادم نحوه ليعود إلى سطح الماء شاباً، مروراً بالحسي والروحي، الجسد والجنس، وروامونا الخمسينية الفاتنة التي يخطفها الموت فجأة، وصولاً إلى الزمن الذي ما عاد وارداً بالنسبة لجب أن يضيعه بأي شيء خارج متعته، كما هو العجز عن فهم المدينة التي تعيش فيها كل عمرك ومن ثم تكتشف أنك لم تفهمها يوماً كما هو صديق جب الذي يعود إلى قريته بينما الساحر يقوم بإخفاء زرافة.

إنه فيلم لا يمنحنا فرصة سرده، بل توصيفه، ولكل مشهد من مشاهده أن يكون آسراً، مصاغاً وفق مفردات بصرية تأخذنا بجمالها أولاً لتولد المعاني والمقولات من هذا الجمال أولاً وأخيراً.

 _________________________________

الصورة من فيلم “الجمال العظيم” للمخرج الإيطالي باولو سرنتينو. 

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.