هذا أنا
صوتي يأتي من بعيد، من جوف احتضاري، أذكر هذا ولا أستطيع الفكاك منه.
منذ خمسين عاما ولدت وفي يدي اليسرى ستة أصابع كنت أمشي عليها، بدلا من أقدامي المبتورة، أسير ورأسي إلى أسفل. خمسون عاما من الرغبات المتشرنقة في المخاوف، فقط المخاوف وها أنا أمضي نحو نهاية هذا الشارع لأصل إلى منزلي في الحي الذي تحتشد فيه جحافل تفاهاتي، لو نظرت إلى أعلى عند مدخل الشارع ستجد يافطة مكتوب عليها غير مسموح بالدخول إلا للظلال، الظلال فقط مسموح لها أن تعبر من هنا
هذا أنا، مجرد فأر أعورأخاف من الهواء.
منذ ثلاثة وأربعين عاما ألم يطردونني من المدرسة التي أدخلوني إليها قسرا ؟ طردونني لأنني عجزت عن حفظ طلاسمهم عن ظهر قلب، أو من المحتمل أنهم طردونني لأنني صفعت مؤخرة مدرسة اللغة العربية وأدعيت أنني كنت أطارد ذبابة شاردة حطت عليها؟
بعد طردي تفرغت للعب هنا في شوارع الحي التافه، حيث عجزت أيضا أن أسمي فيه الأشياء بأسمائها
آمنت بأن ثقب إطارات السيارات النائمة هو فعل جميل وآمنت أيضا بأن إطلاق الأحجار نحو مصابيح الشوارع ليتساقط زجاجها كالدموع، هو فعل جميل. وأن قتل الآباء هو الميلاد الوحيد،
كنت طفلا نحيلا كعود ثقاب وحيد في علبته، يحب المطر الذي يذيب ملصقات الهزيمة من على جدران بيوت هشة محنية الظهر.
لم أولد في هذا الحي التافه لأزاحم أبناء الموظفين والأطباء والمهندسين والشحاذين والتجار والضباط والعاهرات والشيوخ والقساوسة وباعة الأشياء والأجساد.
بل عجزت عن مزاحمتهم في ادعاءاتهم التافهة بأنهم يسمون الأشياء بأسمائها.
في طفولتي أحببت قتل قطط الشوارع
في طفولتي أحببت انتزاع الزهور وأكلها من العنق
كموت يأكل موتا
كنت آكلني
مرت سنوات نحيلة تقترب في نحالتها من معصمي الهش.
أبي التافه يحتضر
أمي التافهة تحتضر
سيذهبون بعد أن قالوا لي
تعايش مع تفاهاتك العزيزة
ولا تكون أنت.
تعلّم أن تحلم كدجاجة
وتأكل كخنزير
في الواقع سوف تؤكل دائما وأبدا
تعلم أن تتعايش مع كونك وجبة
وإياك أن تمر وتترك أي أثر
كن عنقا جاهزة دائما للنحر
ذهبوا،
التهمتهم رغباتهم المتشرنقة في المخاوف.
رحلوا إلي وجهتهم التافهة، وبقيت هنا وحدي مع أثاثهما المصطبغ برائحة الدوائر والمتاهات العاقرة ،
في النهاية وهبت ذلك الأثاث إلى بائع الروبابيكيا وبقي البيت فارغا، فتفريغ البيوت من الموجودات في جوفها كتفريغ اللغة من كل الأصفاد المنطقية التي تكبلها، تغوطت في كل أركان البيت . كنت أدس الفرشاة في الغائط وأكتب بها على الحوائط فقه الهيستيريا القاتمة ، تكدست الجدران بكلماتي وغائطي، فأكثر الاماكن قذارة هي أكثرها حرية ! نعم
كنت أقضي نهاراتي بين الأزقة أصرخ على النوافذ ومن ورائها الستائر المنسدلة ولا أحد يجيب.
فقط حجارة تتقاذف نحوي، أطفال يقذفونها مثلما كنت أفعل بمصابيح الشوارع، فأتكسر وتتساقط زخات جسدي كالدموع،
أخاف الأطفال،
تقيحت جروح الأحجار التي أصابني بها الأطفال في صدري
أمضيت سنوات طويلة أبحث عن أكثر وأقصر طرق الموت ألما، الموت تافه ومن الصعب أن تجد الألم في التفاهة
قالوا لي أنت فأر مصاب بالجرب ، أبحث عن سم جيد للفئران، وابتسم بينما السم يحرق أمعاءك.
فعلت ذلك ولم يكن الموت مؤلما
فعدت ابحث عن طريقة أخرى أكثر ألما
جربت أن أرسم كل شئ أراه وجربت أن أنحت الشعر
ولم أمت ألما
بل مت هذه المرة بانفجار في رأسي، تطاير لحم رأسي على الجدران فلطخ الكلمات والغائط،
فعدت ورحت أبحث هذه المرة عن أكثر الطرق للموت ألما لكن بلا رأس.
قال لي صرصوراكان يرافقني في المنزل أن أقصر الطرق للموت ألما هي تقطيع أصابع يدك الستة، واكلها
قتلته دهسا عقابا له لأنه أخرق بلا ذاكرة و لم يتذكر أن رأسي قد أنفجرت وأنني الآن بلا رأس
كي آكل بها أصابعي وأبحث بها حتى عن أكثر الطرق للموت ألما.
خدعوني وقالوا أن هناك متجرا لبيع الرؤوس، فقط عليك أن تتحسس هذا الجدار وتتبعه إلى النهاية
هناك ستجد المتجر. لكن تذكر إياك وأن تفارق الحائط.
كيف سأتذكر وأنا بلا رأس ؟
أزحف إلى هناك
مرورا بمنتصف عمرك
ها أنت تقترب من نهاية الجدار.
تجاوز معاناتك الحمقاء
وجد لك وجها فارغا كي تأكل به أصابعك.
وبعد سنوات عليلة، تصل إلى هناك
*************
(مرحبا بك في متجر الرؤوس الفارغة، هنا سنجد لك طريقة جيدة للموت ألما
من فضلك تفضل بالدخول إلى هذا الغرفة ، هنا سيتم تركيب وجهك الجديد لتأكل به أصابعك الستة )
************************************
أنقضوا على جسدي وقيدوه
بأذرع سمينة تم اعتصاري،
أتذكر
حقنة في ظهر كفي:
هنا مصح عقلي.
أنت نزيلنا العليل
أنت هنا إلى الأبد
بين السقف والأرض البعيدة،
أدخل إلى غرفة تركيب الرؤوس أولا
أهلا بك
انظر واختر
هنا كل الرؤوس من الجبس وعليك أن تختار واحداً من تشكيلتنا المتميزة
1_هذه رأس بقشور واقية من الصحو
2_ هذه رأس بريش من الذهب
3_ هذه رأس بصنبور تنزل منه الصور القاتمة _الزائلة _الهائجة
سأدخل إلى الجحر دمن ون رأس،سأكون قملة في رأس أحدهم
الليلة الأولى :
يرقد ما تبقى من جسدي في سرير مبتل ………………
الليلة الثالثة بعد المائة :
أبحلق في السقف فيطير بعيدا
أنا قملة في رأس بلا جسد ،
لا شئ يسبح فوقي سوى بضع أفاعٍ من نيران وموتاي التافهين،
أنا رؤوس كل الأموات والغائبين
اريد لسان، لألعق به هذه الجدران فتسقط من اللذة كل الشقوق التي تركها التافهون خلفهم،
يا كل الذباب الذي يأتي ليسكنني
امكث هنا على كتفي، فأنا وحيد، وحيد جدا بلا رأس
لم يعد لي أصابع أو ظلال، لآكلها،
ولم يعد لي كف لأحفر به نفقاً خارج الجحر القاحل
سأقذف خصيتي نحو السقف ليسقط وأطير.
أطير فوق مدينة الغيلان والأطفال قاذفي الحجارة.
الليلة الأولى من السنة الثانية:
أنا طحلب يغطي الجدار
تسكنني جحافل من أعقاب السجائر والخربشات والخطوط المدونة على جسدي الرخوي،
أنا فقط عطانة خضراء
(صوت تهشم زجاجٍ يصم كل آذان القراء، يليه صوت غليظ ) : أخرج إلى الشارع الآن بلا رأس وأبحث في الأزقة عن رأس )
وها أنا أخرج محنيا من باب قصير
بعد نعاس طويل
بورك الموت ألما
دعوني أعود إلى صفعات الأطفال
أعود إلى تفاهاتي
لا أريد العيش وأنا أحمل على كتفاي رأسا، ولست في حاجة إلى قدمين يأخذونني إلى أسفل،
كتفاي من القش
أريد يدا بعشرين إصبعا
وأن أشرب دمي بلا توقف
وأن أكون نردا بنقاط لا تمحوها الأصابع
وداعا سأكون نارا زرقاء أطفو فوق الزمن.. الزمن الذي لا رأس له.
*****
خاص بأوكسجين