الأرجنتينيّ الذي أحبّه الجميع
العدد 222 | 15 تشرين الثاني 2017
غابرييل غارسيا ماركيز | ترجمة: أمل فارس


آخر زيارة لي إلى براغ كانت منذ خمسة عشر عامًا، برفقة كارلوس فوينتيس وخوليو كورتاثار، حيث استقلّينا القطار من باريس، وذلك بسبب خوفنا المشترك من ركوب الطائرة. تحدّثنا عن كلّ شيء بينما كنّا نعبر ليل ألمانيا، مجتازين محيطاتها التي بلون ثمار الشّمندر ومصانعها الضّخمة لتصنيع كلّ شيء، وتلك الآثار التي ما تزال شاهدة على فظائع الحرب التي خاضتها، وقصص حبّها الوحشيّة.

وعندما أنفت ساعة النوم، خطر لـِ فوينتيس أن يسأل كورتاثار كيف ومتى ومن أدخل آلة البيانو على أوركيسترا الجاز! كان سؤاله عاديّا وجلّ ما كان يطمح لمعرفته هو اسمٌ وتاريخ، لكنّ إجابة كورتاثار جاءت محترفةً ومبهرة وامتدّت حتى مطلع الفجر برفقة كؤوسٍ كبيرةٍ من البيرة والنقانق اللذيذة وبقايا بطاطا مقليّة باردة.

كووتاثار الذي كان يُتقن فنّ انتقاء الكلمات، اقترح علينا اقتراحًا تاريخيًّا غايةً في الروعة عبّر عنه برؤية خاصّة وببساطة لا تصدّق، تُوّجت بالخيوط الأولى للشمس في مرافعةٍ هيرموسيّة ملحميّة عن الموسيقار “ثالونيوس منّك”. لم يكن يتحدّث بذلك الصّوت الرخيم الذي يخرج من ذلك الجسد القويّ فحسب، بل كان أيضًا يستعمل يديه ذات العظام الكبيرة البارزة، والتي لم أرَ مثيلا لها في قدرتها على التعبير. لن ننسى، كارلوس وأنا، تلك الليلة التي لا يمكن أن تتكرر.

بعد مضيّ 12عامًا، يواجه كورتاثار حشدًا كبيرًا في احدى حدائق “ماناغوا” عاصمة نيكاراغوا، دون أيّ سلاحٍ سوى ذلك الصّوت الرائع وقصّة من أجمل ما كتبه وهي “ليلة مانتيكيجا” وتروي قصة ملاكم تلاحقه لعنةٌ مستمرّة، يسردها بلسانه بلغةٍ عاميّة، تلك اللّغة المحبّبة لدى الطّبقة الأكثر فقرًا في بوينوس آيريس، وكانت من القصص التي يتطلب فهمها صعوبةً كبيرة من قِبَلنا لو أنّنا لم نستمع مرارًا لأغنية “تانغو ماليغو” الشّهيرة. ومع ذلك وقع اختيار كورتاثار عليها ليقرأها على منصةٍ صغيرةٍ أمام ذلك الحشد الممتدّ على بقعة خضراء تحت أضواء الحديقة. وكان من بين الجمهور المجتمع أناسٌ من جميع الفئات ابتداءً من الشعراء المخضرمين حتى المهندسين وموظفي الدّولة، وصولاً إلى قادة الثّورة ومعارضيهم.

كانت تجربةَ مبهرةً أخرى، مع أنّه، ولأكون صريحًا، كان من الصّعب تتبّع روح القصّة وأحداثها حتى بالنّسبة لأولئك الأكثر اندماجًا من طامة المثقفين الأرجنتينين المعروفة بـِ اللونفاردو. كان يمكن للمرء أن يشعر بالألم جرّاء تلك الضّربات التي كان يتلقاها “مانتيكيجا بابوليس” في تلك الحلبة المربّعة، وأن يشعر برغبةٍ في البكاء بسبب تهيؤاته وشدّة بؤسه. وقد تمكّن كورتاثار من بلوغ حالة من التّواصل الحميم مع الحضور لدرجة أنّ أحدًا منهم لم يعد مهتمًا بالكلام الذي يقوله، بل كان الجميع ضمن ذلك الحشد الجالس فوق العشب الأخضر يحلّقون في حالةٍ من السّعادة مسحورين بصوتٍ بدى كما لو أنّه آتٍ من عالمٍ آخر.

تلخص هاتين الحادثتين ذكرياتي مع كورتاثار، وقد تركتا بالغ الأثر عندي، وأعتقد بأنّهما يصفانه أدقّ الوصف، اذ أنّهما تكشفان شخصيته بوجهيها، الخاص، في قطار براغ حيث تمكّن من شدّنا ببلاغة حديثه وموسوعيته المعرفيّة الحيّة، وذاكرته الدّقيقة ومرحه الحذق، كلّ ذلك بلا شك قد جعل منه مثقفًا من أعظم المثقفين الذين وُجدوا في هذا العالم. والوجه العام لشخصيّته، إذ أنّه، وعلى الرّغم من تحفّظه الدّائم خوفًا من أن يتحوّل إلى عرض ملفتٍ للجمهور، كان يسحر جمهوره بحضوره الآسر الذي يكتنف شيئًا ما غير عادي، وفي الوقت نفسه فيه الكثير من البراءة والغرابة. لكنّه، وفي كلا الوجهين كان حقًا الإنسان الأكثر أهميّة ممن حالفني الحظّ بالتّعرف إليهم طوال حياتي.

منذ اللحظة الأولى، في أواخر خريفٍ حزين من عام 1956، في أحد مقاهي باريس، الذي حمل إسمًا انكليزيًّا تردّد إليه عادةً ليكتب على إحدى الطّاولات المتموضعة في إحدى زواياه، تمامًا كما كان يفعل جون بول سارتر على بعد ثلاثمئة من الأمتار من ذلك المقهى، خاطًا كلماته على أحد الكرّاسات بواسطة ريشةٍ ذات حبرٍ أصليّ يترك آثاره على الأصابع. في ذلك الوقت كنت قد قرأت أوّل كتبه “بيستياريو” وهو أوّل عمل قصصيّ له، أثناء إقامتي في أحد فنادق لانسيز في بارانكيجا، مقابل بيزو واحد وخمسين سنتافو للليلة الواحدة، والذي كان يعجّ بالعاطلين عن العمل من أصحاب السّمعة السّيئة والعاهرات السّعيدات. وبمجرد قرائتي لأوّل صفحة فيه أدركتُ بأنّ كورتاثار لم يكن كاتبًا من أولئك الذين تمنوا يومًا أن يصبحوا كتابا عندما يكبرون. أخبرني أحدهم، أثناء إقامتي في باريس، بأنّه يتردد على مقهى يدعى (أولد نافي) OLD NAVI الكائن في شارع سانت جرمان، وهناك انتظرته لعدّة أسابيع حتى رأيته يدخل ذات يومٍ يحمل وجهًا كوجه طفل مشاكس داخل معطف أسودٍ لا نهاية له، أشبه بهيئة الأرمل، كانت عيناه متباعدتين بشكلٍ كبيرٍ كعيني ذئب، منحنيتين وصافيتين، كان يمكن أن تكونا عينا شيطان لو أنّهما لم تكونا خاضعتين لأمر قلبه الطّيب.

مع مرور السنوات، وبعد أن أصبحنا أصدقاء قدامى، تراآى لي بأنّني تخيلته مجددًا على نفس الحالة التي رأيته فيها للمرة الأولى، وأظن بأنه استطاع خلق نفسه مجدّدًا في أحد قصصه الأكثر اتقانًا، وهي “السماء الأخرى”، كان بطل القصّة شابٌ لاتينيّ لا اسم له يدفعه فضوله لمشاهدة الإعدامات التي تُنفّذ بواسطة المقصلة، كما لو كان جالسًا أمام المرآة، يصفه كورتاثار كالتالي: “كانت تقاسيم وجهه مختلفة وثابتة في الوقت نفسه، بشكلٍ يثير الفضول، كأنّها تيبست في لحظة ما أثناء نومه، ورفض أن يخطو الخطوة الأخيرة التي بإمكانها إعادته إلى اليقظة”. وكان بطل هذه القصة يتتقل طوال الوقت ملتفًا بمعطف طويل أسود، تمامًا كالمعطف الذي كان يرتديه كورتاثار في اليوم الذي التقيته فيه، ولم يجرؤ راوي القصة على الاقتراب من ذلك الشاب وسؤاله عن جنسيته خوفًا من إزعاجه، مع أنه هو نفسه كان يعتبره سؤالا اعتياديًا. لكن الغريب في الأمر هو أنني لم أجرؤ على الاقتراب من كورتاثار تلك الظهيرة في المقهى ولنفس السبب، اكتفيت بمراقبته فقط بينما كان غارقًا في الكتابة لمدة ساعة متواصلة من دون أي توقف حتى للتفكير، ومن دون أن يفعل أي شيء آخر سوى شرب نصف كوب من الماء. واستمر على هذه الحال حتى لفت العتمة الشوارع في الخارج، فدس قلمه في جيبه وخرج متأبطًا دفتره، كان أطول طالب مدرسة رأيته في حياتي.

في المناسبات العديدة التي جمعتنا لاحقًا، الشيء الوحيد الذي تغير فيه هو لحيته الغزيرة الدّاكنة، ومنذ سنتين اثنتين فقط كانت الأسطورة القائلة بأنّه رجلٌ لا يموت، حقيقيّة، لكونه لم يتوقف عن النمو والنضج يومًا، وحافظ دومًا على عمره تمامًا في السّن التي ولد بها. لم أجرؤ قط على سؤاله عن صحة ذلك، كما أنّني لم أخبره بأنني رأيته ذلك الخريف الحزين عام 1956، ولم أجرؤ على التّحدث إليه ولو بكلمة، بينما كان منغمسًا في كتاباته في ذلك الركن من المقهى الباريسيّ. أعلم بأنّه الآن، وأينما وجد، يلعن أمّي بسبب خجلي ذاك.

الرموز والشّخصيات العظيمة تفرض احترامها وتثير إعجاب الآخرين وتحظى بمحبّتهم، وأيضًا فهم محطّ حسدٍ كبير، كان كورتاثار مثالا لمثل لتلك الشخصيات، لكنّه أيضًا كان مثالا لما هو أقل شيوعًا، وهو القدرة على الفصل، فقد كان، وربما عن غير قصد، مثالا للأرجنتينيّ الذي أحبه الجميع.

وعلى الرّغم من ذلك أتجرأ على الاعتقاد بأنّه، إذا كان الأموات يموتون حقًا، فإن كورتاثار سيموت مرةً أخرى من الخجل بسبب الحزن الذي تسبّب به موته، عالميًّا.  لم يكن أحد يخشى، كما كان يخشى، سواء في الحياة الواقعيّة أم في الرّوايات، تلك التّشريفات اليتيمة التي كانت تُمنح للمبدعين بعد وفاتهم. وتلك الجنازات الأسطوريّة، بل أبعد من ذلك، إذ أنني لطالما اعتقدت بأنه ينظر إلى الموت بحد ذاته باحتقار.

في جزءٍ ما في كتابه “حول العالم في ثمانين يوماً” يروي قصة مجموعة من الأصدقاء لم يستطيعوا التوقف عن الضحك، بسبب ارتكاب أحد اصدقائهم المشتركين حماقة الموت. لذلك ولأنني عرفته جيدًا، وأحببته حبًّا كبيرًا، أقاوم بشدّة المشاركة في مشاعر الأسف لموت كورتاثار، وأقاوم تأليهه ايضاً. وأفضّل مواصلة التفكير به، وكلّي ثقة بأنّه أرادني أن أفعل ذلك، بابتهاجٍ عارم لفكرة أنه قد كان يوما ما يعيش بيننا هنا، وبالفرح المتواصل لأنني قد تعرّفت إليه. ممتنين لأنه قد ترك لنا وللعالم أجمع أعماله التي ربما تكون غير مكتملة لكنها رائعة وخالدة.

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: