اكتشاف المال ضربنا كقنبلة نووية
العدد 233 | 14 تموز 2018
سيفتلانا اليكسفيتش


ما الذي تعلمته؟ تعلمت أن أبطال مرحلة ما لن يكونوا غالباً أبطال التالية. ما عدا ايفانوشكا الأحمق و إيمليا. البطلان المحبوبان من الفلكلور الروسي. قصصنا كلها تحكي عن ثروة جيدة و ضربات حظ؛ تدخل غيبي يجعل كل شي يسقط في أحضاننا. تحوزها كلها دون حاجة لتنهض من سريرك فوق الموقد1. الموقد سوف يعد “البان كيك” والسمكة الذهبية ستحقق لك كل أمنياتك. أريد هذا و ذاك.. أريد ابنة القيصر الجميلة، أريد العيش في مملكة أخرى انهارها من حليب و هضابها من عسل… نحن حالمون بالتأكيد. أرواحنا تكدح و تعاني وليس هناك الكثير ليحدث. لا قوة تبقى بعد كل ذاك الكدح ولا شيء أُنجز أبداً.

 

الروح الروسية الغامضة التي يريد الكل فهمها، لذا يقرأون دوستويفسكي: ما الذي خلف روحههم؟ حسنا خلف روحنا هناك المزيد. نحب ان نفتح حديثاً في المطبخ، نقرأ كتاباً. “قارىء” هي مهنتنا الدائمة، “مراقب” منذ حين، نعتبر أنفسنا خاصين واستثنائيين رغم أن لا أرضية تدعم ذلك غير نفطنا وغازنا الطبيعيين. من جهة هذا ما يقف في وجه التقدم ومن جهة أخرى فإنه يقدم شيئاً يشبه المعنى. روسيا دائما على حافة إعلاء شي هام، توضيح شي غير مسبوق للعالم، البشر المختارون، الطريق الروسي الخاص، بلادنا مليئة بأشخاص مثل  أبلوموفس2 يستلقون على أرائكهم وينتظرون المعجزات، ما من ستولتز هنا. احتقر هذا الصناعي الذكي لقطعه أخشاب شجرة البتولا المحبوبة وهم يبنون مصانعهم يجنون المال… لذا هم غريبون عنا…

 

المطبخ الروسي… مطبخ خروشوفكا 3 البائسة، منزل تسعة إلى اثني عشر مترا (إذا كنت محظوظا) المطبخ يفصله عن الحمام جدار رقيق مهلهل، المخطط السوفيتي التقليدي،حيث  البصل يتبرعم في علب المايونيز الزجاجية القديمة على حافة النافذة، المطبخ بالنسبة لنا ليس فقط حيث تطبخ، هو غرفة الطعام، غرفة الضيوف، مكتب، منصة خطابة، مساحة لجلسات العلاج، كل الأدب الروسي في القرن التاسع عشر تركّز في عقارات الأرستقراطيين في القرن العشرين عاش في مطابخنا حيث البيريسترويكا الحقيقة حدثت، حياة الانشقاق في السيتينات حياة المطبخ. شكرا خروشوف! هو من أخذنا من السكن المشترك، تحت حكمه حصلنا على مطابخنا الخاصة حيث استطعنا انتقاد الحكومة و الأكثر أهمية أنك لم تكن خائفا في المطبخ وأنت محاط بالأصدقاء، حيث الأفكار تبدأ من الصفر والمشاريع الرائعة تحضر. ألفنا نكات، وقد كان عصرا ذهبيا للنكات! “الشيوعي هو شخص قرأ ماركس و المعادي للشيوعية هو شخص فهم ماركس” لقد كبرنا في المطبخ و كذلك فعل أطفالنا أيضا؛ سمعوا معنا لغاليج وأوكجافا  و عزفنا لـ فيسوتسكي 4 وأدرنا المؤشر نحو إذاعة لندن غير الشرعية. لقد تحدثنا عن كل شي، عن كم كانت الأشياء خرائية، عن معنى الحياة، عن إذا كان ممكنا على الأطلاق أن تكون سعيدا. أتذكر قصة طريفة كنا مازلنا مستيقظين حتى ما بعد منتصف الليل وابنتنا كانت في الثاني عشر وقد نامت على أريكة المطبخ فيما كنا مستغرقين في مناقشة حامية وفجأة بدأت بالصراخ علينا و هي نائمة: “يكفي سياسة، من جديد ساكاروف، سولجينيتسن، ستالين”.

 

شرب مستمر للشاي و القهوة و الفودكا. في السبعينات جاءنا الروم الكوبي، الكل أحب فيديل! و الثورة الكوبية وتشي مرتديا قبعة “البيريه” كنجم هوليودي! تحدثنا دون توقف خائفين من أنهم يتنصتون علينا، معتقدين أنهم لابد يفعلون ذلك. شخص ما سوف يتوقف وسط الحديث ليشير إلى مصباح السقف أو مقبس الكهرباء مع ابتسامة مخادعة صغيرة ليقول: “هل سمعت ذلك يارفيق؟” بدا  كل ذلك شيئاً خطرا قليلا و شيئاً يشبه اللعب. تملكنا مايشبه الرضا ونحن نعيش هذه الحياة المزدوجة. عدد قليل من الأشخاص قاوموا علانية لكن العديد منا كانوا من “معارضي مطابخ” نمضي إلى حياتنا اليومية فيما أصابعنا ترسم شارة النصر خلف ظهورنا.

اليوم من المخجل أن تكون فقيرا و فاقدا للمؤهلات هذا إشارة  إلى أنك لم تنجُ. جئتُ من جيل من البوابين والحراس الشخصيين “البودي غارد”. الحصول على وظيفة كهذه هو شكل من الهجرة الداخلية، عشت حياتك دون اهتمام بما يدور حولك، كما لو أنه مشهد تراه من نافذة.

 

زوجتي وأنا تخرجنا من كلية الفلسفة في جامعة سان بطرسبورغ (حينها كانت تدعى لينينغراد) الحكومية، بعدها حصلتْ هي على وظيفة كبواب وأنا كوقّاد في معمل حراري، حيث أعمل في وردية ل 24 ساعة وبعدها استراحة ليومين. كان المهندس في تلك الأيام يتقاضى 130 روبل شهريا فيما كنت اتقاضى 90، أستطيع القول إذا كنت تستطيع التخلي عن 40 روبل شهريا فإنك تستطيع شراء حرية مطلقة لنفسك. كنا نقرأ، لقد مررنا على أطنان من الكتب وتحدثنا وأعتقدنا أننا جئنا بأفكار جديدة حلمنا بالثورة وكنا مرعوبين من فكرة أننا لن نعيش لنراها، في الحقيقة لقد كنا معزولين بالكامل لا نعرف شيئا عمّا يدور في العالم، كنا كنباتات منزلية. فكرنا في كل شي لنكتشف أنّ كل ما حسبنا أننا نعرفه كان أوهاما قادمة من مخيلتنا: الغرب، الرأسمالية، الشعب الروسي. عشنا في عالم أشباح، وروسيا القادمة من كتبنا ومطبخنا لم تكن موجودة اطلاقا، كله كان في رؤوسنا فقط.

 

مع  البيريسترويكا تحطم كل شيء، الرأسمالية جعلت 90 ألف روبل تساوي 10 دولارات، و لم تعد كافية للعيش. خرجنا من مطابخنا نحو الشوارع لنكتشف أننا لا نملك أدنى فكرة عن ما يحصل، كنا نتحدث فقط. ظهر أناس جدد بالكامل، شباب بخواتم ذهبية وسترات رياضية مزركشة. ظهرت قواعد جديدة: إذا ملكت المال تؤخذ بالحسبان، إذا لم تملك أنت لا شيء. من يهتم على الإطلاق إذا كنت ممن قرأ الأعمال الكاملة لهيجل؟ “الانسانيات” بدت مرضا معديا. “ما تقدرون عليه هو حمل كتاب لـماندلستام و التجول به”، آفاق غير مطروقة شُرِّعت أمامنا، والنخبة اتجهت بفجائعية نحو الفقر. في العطل الأسبوعية في الحديقة العامة المجاورة لمنزلنا منظمة  “هير كريشناس”  كانت تجهز مطبخ متنقل لتقدم الحساء مع شيء بسيط آخر حيث طابور طويل من كبار السن الوقورين ينتظرون، بعضهم يخفي وجهه بطرف يده، ومجرد التفكير بهذا يعطيك ثقل في حنجرتك. في ذلك الوقت كان لدينا طفلين وكُنَّا حرفيا نتضور جوعا، زوجتي و أنا تحولنا إلى بائعين متجولين سنأخذ أربعة إلى ستة أكياس من الآيس كريم من المعمل و نتجه نحو السوق إلى النقطة الأكثر ازدحاما، لم نملك ثلاجة لذا بعد عدة ساعات ستكون الآيس كريم  قد ذابت إذا لم نبعها وعندها  سنمنحها للأطفال الجوعى، سيفرحون بها بشدة! زوجتي تبيع و أنا علي التسليم، كنت مستعدا لفعل أي شي لأجل أن نبيع. كان شعورا غير مريح لوقت طويل.

في ذلك الزمان كنت استغرق في استعادة ذكريات أيام المطبخ… كان هناك الكثير من الحب! أوه على النساء! كان هناك نساء يكرهون الغنى! لم تكن قادرا على شرائهم. اليوم لا وقت للمشاعر الكل في الخارج لكسب المال. اكتشاف المال ضربنا كقنبلة نووية.

_________________________________________________________________________________________

1 –     الموقد جزء مركزي في المنزل الروسي الريفي، لا يستخدم فقط في الطبخ والتدفئة وهو كبير ليسمح بالنوم في أماكن مخصصة فوقه تكون عادة المكان الأكثر دفئاً.

2-      بطل رواية من عام 1859 تحكي عن ارستوقراطي كسول جدا بينما صديقه ستولتز شاب نشيط و ملئ بالطاقة.

3- منازل مسبقة الصنع بدأ بناؤها في الخمسينات في عهد نيكيتا خروشوف وكانت لكثير من السوفيت أول منزل خاص يحصلون عليه.

4- مغنون وكتاب أغاني كانوا محبوبين من النخبة السوفيتية في السيتينات. كانت أغانيهم معروفة  بوصفها معادية للسوفيت.

_________________________________

من كتاب “حياة مستعملة – ما تبقى من السوفيت – تاريخ شفهي”

*****

خاص بأوكسجين