فيما يلي مقدمة مجنونة للشاعر والكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي لرواية الكاتب الأميركي جون فانت “اسأل الغبار”، وعلى يسارها وفي مادة منفصلة الفصل الأول من هذه الرواية التي دوّخت بوكوفسكي، وكلاهما أي المقدمة والفصل الأول من ترجمة المترجم السوري أسامة منزلجي معبرنا الدائم ومنذ العدد الأول من أوكسجين إلى آداب العالم من حولنا:
كنتُ شاباً، جائعاً، أدمن الخمر وأحاول أنْ أُصبح كاتباً ؛ أقرأ غالباً في المكتبة العامة، في قلب لوس أنجليس، ولا شيء مما قرأتُ كان ينتمي إليّ أو إلى ما يجري في الشوارع أو إلى الناس من حولي. بدا كأنَّ الجميع يُمارسون لعبة الخِدَع الكلاميّة ، وأنَّ الذين يكادون لا يقولون أي شيء على الإطلاق يُعتَبَرون هم الكُتّاب الممتازون. كانت كتاباتهم مزيجاً من الرهافة، والحِرفيّة والشكل، وكانت تُقرأ وتُدرَّس وتُهضَم وتُتداول. كانت خدعة مُريحة، ثقافة كلام مُتقنة وبارعة جداً. كان على المرء أنْ يعود إلى كُتّاب ما قبل الثورة في روسيا ليعثر على أية مُقامرة، على أي شغف. وكانت هناك استثناءات لكنها قليلة جداً بحيث أنَّ قراءتها يزول أثرها سريعاً، وتجلس مُحدِّقاً إلى صفوف وصفوف من الكتب المملّة باطّراد. ومع توفّر قرون عديدة تنتظر أنْ تعود إليها، بكل مزاياها، فإنَّ الكتب الحديثة خالية من أي شيء جيد.
ورحت أتناول كتاباً بعد آخر عن الأرفف. لمَ لا يقول أحد أي شيء؟ لِمَ لا يصرخ أحد؟
حاولت في غرفٍ أخرى من المكتبة. كان قسم الكتابات الدينية شاسعاً – بالنسبة إليّ. وانتقلت إلى الفلسفة، فعثرت على اثنين من الألمان تسليت معهما قليلاً، ثم انتهى كل شيء. وجرّبت قسم الرياضيات لكنَّ الرياضيات العليا كانت مثل قسم الدين: نفر مني على الفور. أما ما كنتُ أنا في حاجة إليه فبدا أنَّ لا وجود له في أي مكان.
جرّبتُ قسم الجيولوجيا فوجدته مُثيراً للاهتمام ولكنه، في الختام، لم يصمد.
في قسم الجراحة عثرتُ على بعض الكتب وأعجبتني: كانت الكلمات جديدة والرسوم التوضيحية رائعة. أعجبتني على وجه الخصوص العملية الجراحية على القولون الأوسط وحفظتها غيباً.
ثم خرجت من قسم الجراحة ورجعت إلى الغرفة الكبرى التي تحتوي الروائيين وكتّاب القصص القصيرة. (عندما يتوفر لي أنْ أشرب نبيذاً رخيصاً بالقدر الكافي لا أرغب أبداً في ارتياد قسم الأدب. إنَّ المكتبة مكان جيد للتردد عليه عندما لا يكون لديك ما تشرب أو تأكل، وصاحبة المنزل تبحث عنك وعن نقود الإيجار المتأخر. في المكتبة تستطيع أنْ تستخدم المرحاض على الأقلّ) هناك وجدتُ عدداً لا بأس به من المُشردين الآخرين، غالبيتهم نائمون فوق كتبهم.
بقيتُ أتمشى في أرجاء الغرفة الكبيرة، أتناول الكتب عن الأرفف، وأقرأ بضعة أسطر، بضع صفحات، ثم أُعيدها.
وذات يوم تناولتُ كتاباً وفتحته، وإذا به هو. وقفتُ برهة، أقرأ. وكمَنْ عثر على كنز في قمامة المدينة، حملتُ الكتاب إلى الطاولة. تدحرجت الأسطر بسهولة عبر الصفحة، بل تدفقت. كان لكل سطر طاقته الخاصة يتبعه آخر مثله. كانت مادة كل سطر نفسها تُضفي على الصفحة شكلاً، إحساساً بأنَّ شيئاً محفوراً فيها. وهنا، أخيراً، كان رجل لا يخشى المشاعر. كانت الفكاهة والألم متداخلان ببساطة ممتازة. بداية ذلك الكتاب كانت بالنسبة إليّ معجزة جامحة وهائلة.
حصلت على بطاقة من المكتبة. واكتتبتُ لأُخرِج الكتاب، وأخذته إلى غرفتي، وارتقيتُ سريري وباشرتُ في قراءته، وقبل أنْ أصل إلى النهاية بوقت طويل علِمتُ بأنَّ هنا رجل طوّرَ أسلوباً متميِّزاً في الكتابة. عنوان الكتاب ” اسأل الغبار ” والمؤلف هو جون فانت. وكان سيُؤثّر على أسلوبي في الكتابة طوال حياتي. انتهيت من قراءة ” اسأل الغبار ” ورحت أبحث عن كتبٍ أخرى لفانت في المكتبة. فعثرت على اثنين ” أحمر داغو ” و ” انتظر حتى الربيع، يا بانديني “. وكانا من النوعية نفسها، مكتوبين عن الأحشاء والقلب ومنهما.
نعم، كان لفانت تأثير هائل عليّ. وفور انتهائي من قراءة هذين بدأتُ أعاشر امرأة. كانت سكّيرة أسوأ مني ونشبت بيننا شجارات عنيفة، وغالباً ما كنتُ أصرخ في وجهها ” إياك أنْ تناديني بابن القحبة! أنا بانديني، آرتورو بانديني! “
كان فانت هو إلهي وكنتُ أعلم أنَّ الآلهة يجب أنْ يُتركوا وحدهم، ولا ينبغي أنْ تطرق أبوابهم. ومع ذلك أحببتُ أنْ أُخمِّن المكان الذي يعيش فيه في إينجلز فلايت ورأيتُ أنَّ من الممكن أنْه لا يزال موجوداً هناك. وفي كل يوم تقريباً كنتُ أتمشى هناك وأتساءل، تُرى أهذه هي النافذة التي دخلت منها كاميلا زحفاً؟ وأيضاً، أهذا هو باب الفندق؟ أهذا هو البهو؟ ولم أعرف أبداً.
بعد ذلك بثلاثة وثلاثين عاماً أعدتُ قراءة ” اسأل الغبار “. أي، أعدتُ قراءته في هذا العام ولا زال صامداً، كشأن أعمال فانت الأخرى، ولكن هذا هو كتابي المُفضّل لأنه كان اكتشافي الأول للسِحر. وهناك كتبٌ أخرى غير ” أحمر داغو ” و ” انتظر حتى الربيع، يا بانديني “. وهي ” مُفعمٌ بالحياة ” و ” أخويّة العنب “. وفي الوقت الراهن، فانت بصدد تأليف رواية، عنوانها ” حلم بنكر هيل “
بفضل ظروف أخرى، قابلت أخيراً المؤلف في هذا العام [1979]. وقصة حياة جون فانت زاخرة. إنها قصة حظ فظيع ومصير أشدّ فظاعة وشجاعة نادرة وفطرية. وسوف تُحكى ذات يوم ولكنني أشعر بأنه لا يريد مني أنْ أرويها هنا. ولكن دعني أقول إنَّ أسلوبه في الكتابة وأسلوبه في الحياة متشابهان: قويّ وجيد ودافئ.
يكفي هذا. والآن هذا الكتاب مُلكك.
_____________________________
الصورة من أعمال المصور الفوتوغرافي المصري مراد السيد
*****
خاص بأوكسجين