إستاد الجنة – نادي الجحيم
العدد 270 | 03 حزيران 2022
سلطان محمد


 

الجنة، على الأغلب، عبارة عن حديقة خلفية للجحيم. لذا فقد طُردا منها إذ لم تتسع لوجود الثلاثة.

*

لم يفرق معه كثيرًا منظر الفجر وهو ينهض بكسل من آخر المدى على مساحات المخطط الشاسعة من وراء حجاب. كان ينتظر المطر. الغيوم تتلبد وتتفرق منذ أربع ساعات دون مطرة واحدة. يشرب قهوته، ويحلم أحلام يقظة بينما يمز سيجارته. حلم بنفسه نوحاً وبزوجته فُلكاً، حلم بجماعته وأقاربه وجيرانه يتمسحون به ويرجونه أن يسمح لهم بمرافقته على الفلك من أجل النجاة. أخذ ساعة، أو ما يقارب، وهو يحلم بكل واحد منهم يتذلل ويبذل نفسه ويحاول؛ كلٌّ على حدة وكل بحسب طريقته؛ بداية بأم أربعة وأربعين ونهاية بالفيل والكركدن. ثم قام يروّح إليتيه ويفك عن خصيتيه، مشى ذهاباً وإياباً داخل الغرفة لدقائق حتى وصل عند النافذة الكبيرة. يحب هذه النافذة، ودائماً ما يحب تذكر موقفه مع صاحب البيت عندما اعترض عليه بخصوص حجم النافذة المبالغ فيه “فاهم إن الشمس ضروري تطل داخل البيت بس مو كذا يابو نايف، بالغت!” رد عليه “مين قال عشان تطل الشمس علي؟ لا، عشان أطل أنا ع الدنيا”. أخذ طلة طويلة على المشهد القفر، أرض أغلبها خواء وتخطيطات على الأرض إما بالبوية أو الطوب الأحمر. أساسات بناية لم تكتمل بعد على الجهة اليمنى. فكر إما أن صاحبها سُجن بسبب القروض أو أن المقاول نصب عليه واختفى. في المقابل برميل قمامة كبير ومحروق. رأى قطاً يهرب قفزاً وصبي يرميه بالحجارة، رأى الصبي يتلفت حوله يبحث عن حجر مناسب للقط لكن لا يوجد حوله إلا الطوب الكبير. اقترب الصبي من البرميل وأنزل سرواله وأخذ يشخ. كان الإشراق الكسول من آخر المدى يلمّع بول الصبي على سواد البرميل. رفع الصبي سرواله الأخضر وأخذ يركل علبة مشروب غازي بتململ، وانتبه في رفعة رأسه إلى أن رجلاً هناك في الأعلى يشاهده. لم تكن المسافة هينةً غير أن الهيئتين مدركتان لكليهما. صاح الصبي جهة الرجل في النافذة “هااا، شفت زبي يا دُب؟” وركض إلى الجهة الشمالية من المخطط حيث توجد بعض البيوت. رد عبيد على الصبي بصوت خفيض وهو يضحك ببلادة “ومين يقدر يشوف راس النملة من بُعد كيلو؟”

 

  

كانت تتبنّى رأياً يقول بأن حواء لم تأكل من الثمرة المحرمة اعتباطاً، بل بناءً على غمزة رأتها في طرف عينه وهو يأمرهما بعدم الاقتراب منها.

*

لم تبال كثيراً بحمرة الغروب وهي تنعكس على جدار غرفتها، نعم فنافذة غرفتها كذلك كبيرة. كل النوافذ كبيرة كما صممها زوجها عبيد في بيته الخاص -وإن كان بالإيجار. هي حلت ضيفة، أو أشبه بذلك. لكنها لا تنكر أن سنوات زواجهما الأولى كانت ساخنة، لا تجحد بأنها عشقته. لم تشعر بالغربة إلا مؤخراً، أي خمسة-ستة عشر سنة، منذ كثرت الخلفة وصارت الهموم كلها تتعلق بحفاظة وبودرة جونسون. لم تبال إذ تتلاشى الحمرة ليحل سواد لطيف على الجدار أمامها، وانقلبت على جانبها الأيمن. أخذت تفكر بأنها غريبة عن هذا العالم، تتساءل عن جدوى أن تكون هنا، وعن معنى أن ينكسر الضلع؛ تنكر أن الأمر كان نباتاً بالفعل، كان انكساراً -فكرَتْ وهي تستعيد مشهد زوجها في الظهيرة إذ يكسر ضلع الذبيحة على الغداء ثم يرفعه إلى فمه ويعرمش فيه – قالت “كلبْ بشري” ثم نهضت إلى طرف السرير لكي تجلس. كم كانت دخيلة على عائلته؟ كم حارب وحارب من أجل هذا؟ كم هجروه وهجرهم من أجلها؟ كل هذه بعض أفكار تجول في خاطرها وتُدخلها في كنف الحسرة. كانت لا تدري إن كانت الغربة هي التي تكسر ضلوعها أم أنها الحسرة! أخذت تتنهد وهي تقوم وتلتف نحو النافذة. كان الظلام قد حل لساعته الأولى. تنظر، ورغم السواد المقيم خارجاً، إلا أنها تستطيع رؤية شجرة التفاح في مزرعة نامي النظيف. جارهم وكبير حارتهم. ترى ظلال الشجرة، حدودَها، تمايُلَ أغصانها مع النسمة. تحب هذه الشجرة مع أنها لم تذق منها ولا ثمرة واحدة. بالطبع، تعرف التفاح ومذاقه، بيد أن هذه الشجرة تحديداً، لا. وضعت مرفقيها على النافذة وذقنها بين كفيها وراحت تتأمل. لاشيء غير النسيم الذي يمر، فتهتز أغصانها؛ مثل غمزة. راحت تتخيل أن النسيم والشجرة مراهقان. ابتسمت لهذا الخيال، خفف عنها صداع خصامها الأخير معه، قبل يومين، بخصوص العيال والكورة. نوّر وجهها قليلاً وهي تتأمل في سكون المزرعة حتى انقض، أمام عينيها، قط أسودُ وهو يموء بعنف على غراب أسودَ هو بدوره ينعق في وجه القط وينقره. مواء ونعيق صكّا سمعها في خطفة اضطرت معها لتصفق زجاج النافذة بكل قوتها، وتسقط على الأرض مثل جرة انكسرت إذ رقعت بصوتها لاإراديّاً “يالطييييييف!” 

 

 

الزواج هو حارس مرمى منتخب الدولة المهزوم 8-0. الحب هو روبيرتو باجيو. وفي حين كان الأخير يضيّع “البلنتيات” الحاسمة فالأول لا يصد رأسيات الاغتراب.

*

“بلنتيييي!” صاح نايف فرِحاً، فاتخذ نواف موقعه في حراسة المرمى. وهو ببساطة نافذة كبيرة في “مجلس الحريم” الداخلي يتعامل معه الصبيّان بوصفه مرمى. وقف الحارس الصغير فارداً ذراعيه بينما أخوه الأكبر يثبّت الكورة لكي يسدد ضربة الجزاء. ساعة الحائط مشطوبة، المزهرية مكسورة من أعلاها، وثمت بقع دائرية واضحة على زجاج النافذة من أثر التسديدات. المجلس عيث فيه فساداً، وبسبب عدم وجود صديقات لـجرة، ونساء العائلة لا يزرنها اللهم في الأعياد ومن باب المجاملة أو مرافقة لأزواجهن الآتين للسلام على عبيد حفاظاً على المظاهر، فقد تحول إلى إستاد صغير من أجل الأخوين. الأم تحرّم عليهما الخروج من البيت واللعب في الشارع، وإن كان الشقي نايف لا يني يختلس الفرصة بعد الفرصة ويذهب للقاء صديقه سلطان. في تلك اللحظة، ولم يسدد الهدّاف البلنتي بعدُ، قُرع جرس البيت قرعاً مزعجاً. ضُرب وضُرب فهُرع الأب نحو الباب وخرجت الأم من المطبخ ملهوجة بقفازات غسيل المواعين تنظر من بعيد إلى ناحية الباب وتتسمّع. “وراعينك صدعوني بالكورة، الله لا يبارك لا فيك ولا فيهم، فجروا راسي!”. كان جار العائلة السيد أبو محمد يرطن في وجه جاره السيد عبيد الساكن في الطابق الثاني، أعلاه. رطن وخبط كفاً بكف، ثم نزل يأخذ الدرج إلى شقته. ولمجرد ما أغلق عبيد الباب، التفتَ وصاح في زوجته “كم وكم مرة قايلك خليهم يلعبون برا؟”. جرة، والتي ترتجف في البداية وتتصافق ركبتاها، ليست خَضوعةً. تصيح فيه بدورها ولا تسكت عن حقها كأم في أن تحتفظ بعيالها داخل البيت، قريباً منها، وبعيداً عن الشارع ودشيره. ثم يأخذ الكلام مساره الطبيعي، في شد وجذب ثم يرتخي قليلاً قليلاً، حتى يتحول إلى خضوع أحد الطرفين للآخر فيبدأ الاستجداء؛ كأن يقول عبيد “يا مرة، ترا الرجال بيطردنا من البيت، وانا متكلّف عليه!”. وكأن جرة تنتقم من تصافق ركبتيها قبل قليل فترد عليه “ووش لاقين من هالبيت إلا الطِيَق!”. إلا أن الرجل انفجر بعد خنوعه وثار: أخرج الصبيين، وهو يسحب كل واحد منهما بقفاه، من الشقة، ورمى خلفهما الكورة، ثم صفق الباب بكل قوته، ودخل إلى غرفته الخاصة. أما جرة فلم تمتلك غير أن تقف مبهوتة في وسط الصالة. كان هذا منذ ثلاثة أيام وحالة البهتان والحرقة لم تبارحها.

 

  

للراعي الماشية أو حليبها، للمزارع الأرض أو ثمارها، والقناعة كنز خرافي من محتوياته الناي والخُضرة.

*

استيقظ نايف هذا اليوم على رغبة ملحة في لعب الكورة. فكر قليلاً في حلمه بينما يفرش أسنانه؛ كان قد حلم بروبوتين يتسافدان. كأنه يفهم ولا يفهم. دخل غرفته وارتدى تي-شيرت ناديه المفضل، الهلال، وطلع ينادي على أخيه أن هيا نخرج ونلعب؛ قال له بالحرف الواحد “يلا نواف امشي أكسّر راسك” كتعبير مجازي على التحدي. نواف لم يكن في مزاج اللعب لكن حرية الخروج من البيت لا تفوّت. التقيا في الصالة فطلعت الأم عليهما وخاصمتهما “لازم تاكلون أول وبعدين العبوا”. قال الصغير “أكلت صامولي جبن مربى أوليّة”، والكبير أفاد بأنه لا يشتهي طعاماً، ثم مضيا ناحية باب الشقة واحد يتأبط الكورة والآخر يتأبط قارورتي ماء. “سويّت كيكة فراولة” قالت الأم. لم يكن يهمها في الحقيقة إن أكلا أم لا، كانت تريد تأخير خروجهما قليلاً بحيث يمر الوقت وتنتهي العصرية؛ إذ أنه من الممنوع اللعب خارجاً بعد غروب الشمس. الولدان يفهمان هذا بفطرة التحرر لذا قالا معاً “لما نرجع ناكلها، باي ماما!”. “انتبهوا لبعضكم!” أوصتهما بلا رد منهما إذ قد غادرا بالفعل، داعيةً بأن يحفظهما الله من عيال الحرام. نزلا الدرج، وقعت عين نواف على أكثر ما يثير قرفه: بزقة شمّة؛ وهي لطخة مبصوقة أقرب ما تكون لسلح الدجاج. “يع!” قال نايف، وأكملا. عندما وصلا إلى باب العمارة خارجينِ كان نايف قد سحب الكورة من تحت إبطه ووضعها بين يديه يقلبها من الحماسة. نظر إليها فقرأ نواف مكتوبة بقلم خط عريض أحمر. استفزه هذا فطاش على أخيه فورًا “مين سمحلك تكتب اسمك يا حيوان؟”. الأخير ارتبك للحظة وبوغت من هجوم أخيه لكنه تمالك نفسه قائلاً “هدّي، كتبت اسمك كمان، اقلبها!” قلَبَ نايف الكورة على الجهة الثانية وإذا بالفعل اسمه موجود بنفس البنط العريض واللون الأحمر: نايف. كانا يقطعان شوارع المخطط إلى الجهة الوسطى صامتين. أحدهما متململ والثاني يشعر بشيء من الحنق، قال “بس هذي كورتي أنا ترا” “كورتنا” رد نواف، “أنا اللي قلت لبابا يشتريها مو انت، حقتي” قال نواف بينما ينظر إلى احمرار وجه أخيه “طيب، بس بابا اشتراها لنا كلنا”. تأفف نايف، قال طيب وبرطم بما لم يفهمه أخوه. كانا قد وصلا إلى مكانهما المفضل للعب. “دقدقة؟” سأل نايف. في البرحة المتوسطة بين برميل القمامة وأساسات البناء غير المكتمل. “تمام” رد نواف. والدقدقة لعبة يحبانها وهي أكثر ما يلعبانه. ربما لأنهما وحيدان. وببساطة هي أن تلعب بالكورة كما تشاء بشرط ألّا تُلامس الأرض. عليك بالحفاظ على الكورة في الأعلى، اركلها بقدمك أو ركبتك، فخذك، لاعبها برأسك أو كتفك أو صدرك، كما تشاء، شرط ألّا تلمسها بيدك وألّا تقع الكورة على الأرض. ثم في خطفة باغت منافسك ومرر له الكورة في الهواء. وهذا ما فعله نايف بمهارة عالية تحتّم على نواف أن يقفز للكورة ويضربها رأسية قوية نحو أخيه مباغتاً إياه. الأب يشاهد المباراة الصغيرة من نافذته ويبتسم “نبيه هالصغيرون” قال لنفسه وقد أُعجب بردة فعل نواف السريعة على مباغتة أخيه.

 

 

  

إذا كانت يد قابيل تحمل حجراً فيد هابيل تحمل ممحاةً.

*

تعلّم الأسماء كلها -أوصاه أبوه- السر، يا صغيري، في الأسماء والتسمية .. لا في الضرورة. يتذكر نواف هذا وهو ينظر للقلم العريض فيلتقطه والكورة بين قدميه. يجلس ويضعها بين فخذيه. يخط عليها باللون االأحمر نايف بلا وعي، بلا سابق تفكير. كل ما كان يجول في خاطره صوت أبيه قائلاً “السر، يا بابا، في الأسامي مو في الحاجات”. انتبه إلى ما يفعل فاستغرب كتابة اسم أخيه أولًا، لكنه لا يبالي؛ يقلبها على الجهة الأخرى ويخط اسمه نواف. هكذا انقسمت الأرض بينما، لو فكرنا بطريقة خرافية. ثم أخذ يدحرجها بين قدمه اليمنى والجدار المقابل. كان مستلقياً على ظهره. والسقف بمثابة شاشة لخواطره. كان مما يُعرض فيها أن نواف يعزف الناي في وسط جمهرة غفيرة، على شكل دائرة، يتحلقون حول فتى صغير أبيض حُلو، ويهزون رؤوسهم طرباً. وأن نواف أخذ بعزفه يحولهم إلى خراف. ثم عُرِض كيف كان يمشي وهو يرعاهم أمامه. حتى التفت واحد منهم وصاح فيه “فيييين الكورة!”. لكنه كان صوت أخيه، نايف المزعج، آتياً من خارج الغرفة. تنهد نواف “قام الخرا…!”. ثم سمع صوت أمه ترد بأن “الكورة مع اخوك، تعال كُل!”. ثم سمعه يناديه أن هيا نلعب. خرج من حجرته. لم يرد على أخيه إذ قال إنه سيكسر رأسه وفضّل الرد على أمه قائلاً بأنه قد أكل بالفعل. كانت دائماً ما تقول له “صامولي جبن مربى مو أكل” لكنها لم تقل هذه المرة. سمعها وهي توصيهما بأن ينتبها لبعضهما، وقال “حاضر” في سره. كان يشتهي كيكة الفراولة بينما ينزل الدرج مع أخيه دافعاً باب العمارة ليسبقه أخوه إلى الخارج. تنسّمُ هواء الشارع أنساه الكيكة والفراولة ومتعة أن يعاند وصايا الكبار بتفريش الأسنان إذ ينام محتفظاً بحلاوة السكر في فمه. فوجئ وخرج من جوّه إذ صاح فيه نايف “مين سمحلك تكتب اسمك يا حيوان؟”. رد عليه بارتباك بأن اقلب الكورة. نواف لا يطيق مجادلات نايف، أحس برغبة في الابتعاد عنه بعد مجادلة سخيفة على ملكية الكورة. أراد الابتعاد غير أن “دقدقة” التي سمعها من أخيه أجبرته على مجاراته. كان يدرك أنه لو رفض فسيدخلان في جدال آخر ويتورط معه. قال “تمام”. بدأ نايف في استعراض مهاراته الكُرَ-بهلوانية. يكره نواف هذه الفقرة من نفش الريش فيتململ لاإرادياً. كان برميل القمامة خلف نايف بمسافة ستة أمتار، فلمح الصغير قطته المفضلة تخرج من وسطها وفي فمها ساق دجاجة. اختلبه منظرها وهي تأكل، تضرب الساق ثم تفترسها بلطف، تثبت طرف مخالبها وتنتزع قطعة لحم. كان يقول في نفسه “هَنا وعافية!” إذ انتبه للكورة تتجه إليه بسرعة. تداركها إذ قفز خطفاً وأعاد العرضية برأسية قوية للأسفل. أصابت الكورة ركبة نايف اليسار ووقعت على الأرض قبل أن يتناولها بطرف قدمه، صاح “ياخي غش، لي ساعة أدقدق وانتا بس راس واحد؟” “واحد-صفر” قال نواف.

 

 

تحرشه بالملائكة أودى به في موقف السجود، وهو موقف محرج لمثله، فرفضَ طبعًا. لا كبرياءً عليه بل كِبرًا على منظر أن ينحني له أمامهن.

*

كل ما يفعله سليطين في أوقات فراغه لا يخرج عن عملين. إما أن يطارد بِساس الحارة بالحجارة – وذلك لأنه حُرم من البصبصة على بنات الجيران. إذ طردنه قائلات “انت صرت رجّال، لازم نغطي عنّك!”- أو أن يقوم بسرقة “سِتر الحريم”؛ كما يسميه شيخو. وشيخو هذا هو صديق خاله، خال سلطان طبعاً. سمعهما مرة يتحادثان عن الذهب، وفي وسط الكلام قال خاله لصديقه “سبيكة وحدة بكل هالبلوك” بينما ينظر إلى بعض الطوب المهمل بجوار أساسات عمارة ناقصة. قال شيخو “هيييه، يا سِتر الحريم” متنهداً. لم يملك سلطان نفسه من سؤال عم شيخو عن قصده بهذا الاسم “وشهو ستر الحريم؟” “صب شاهي بس!” قال له خاله، وأجابه شيخو “يا ولدي الحرمة تتستر بالقماش عني وعنك، أما عن خواتها الحريم بالذهب”. لم يكن سليطين الشقي يسرق من أجل أن يستفيد من الذهب، أن يبيعه مثلًا أو يعطيه لخاله يتصرف فيه بمعرفته، ولم يكن الأمر من أجل متعته. بل إن متعة هذا الصغير لا تتأتى إلا مما يأتي بعد السرقة نفسها. ببساطة كان يسرق ذهب بنت عطية، على سبيل المثال، ويضعه في حجرة بنت آل جارالله. ثم يترك الأمر على نار هادئة. ينشر إشاعات هنا وهناك بين زملائه في المدرسة تقول بأن أخا بنت آل جارالله سرق ذهباً من بيت عطية هديةً لأخته. الموضوع يأخذ وقته، أحياناً يطول وحيناً يقصر، وسليطين صبور. هذه ميزته الوحيدة: أنه صبور. أو أنه يفعل الفعلة ولا يأبه. ربما كانت ميزته البلادة إذن. ما علينا، هو الآن لا يسرق بالتأكيد، إذ ظهر يسعى من بداية الحارة الشمالية إلى البرحة. يلوح له نايف مبتهجاً ونواف يوبخ أخاه بصوت خفيض “بابا قال لا تمشوا معاه!”، “بابا قال حسكم عينكم تمشوا معاه، وانا حسي عيني ألعب معاه” رد نايف مادّاً لسانه لأخيه. ثم اختطف نظرة إلى نافذة بيتهم ولم يرَ أباه واقفاً فيها فاطمأن وصاح على سليطين “اجررري تعال القّمك كباري!”، وهذا يجري ويجري ومن ورائه زعيق وسُباب وأصوات دوريّات ناحية بيت آل جارالله.

 

  

لم يستدع الأمر أن يرسل الله ملاكاً، أو حتى رسولاً، بل اكتفى بغراب.

*

“جا ولد لِيلثة” همس نواف لنفسه عندما وصل إليهم سليطين. كان دائماً ما يستغرب هذا الصغير؛ إنه الوحيد في الحارة والمدرسة الذي يعيش مع خاله وزوجته ليلثة لا مع أبويه. والأمر أصلاً يفوق فهم نواف؛ لا نقطع فيه برأي، ولا نظن أحداً قادراً على قول الحقيقة الحاسمة فيه، فالكلام كثير ومتضارب. هناك من يقول بأن والدَيْ سلطان قد قضيَا في حريق التهم بيتهما، والصغير لم يكمل العام من عمره بعد، أيام حريق حارة البخارية. آخرون قالوا إنه ولد لِيلثة بالحرام، والخال من حبها ستر الفضيحة وقال إنه ابن أخته المتوفاة في القرية؛ القائلون بهذا يزعمون أن الخال ليس له أخوات أصلاً. هناك من زايدوا ونسبوا أبوة الولد إلى شيخو من ليلثة بزعم أنها كانت جارة الحجة زِمامة. وهي أم شيخو، تضع قرطاً في أنفها فسموها زِمامة وتبيع الفصفص والحُمُر والدُّقة في الشارع. هي الأخرى لم تسلم من الأقاويل. حكوا أنها في شبابها كانت جرّارة وأن صبايا الحارة السفلية كن قحاباً تحت يديها. سليطين كريه لدى آباء أترابه بسبب كل هذا وغيره، لكنه محبوب نايف. “قلت شي؟؟!” صرخ سليطين في نواف وكأنه سمعه. “محد هرّجك” قال الأخير وقفّى لهما متجهاً ناحية برميل القمامة يريد أن يلاعب القطة. والتي بغريزتها اندست خلف البرميل بمجرد أن رأت الأول. “العبوا انتم، مافيا حيل انا” قال لهما وبسبس للقطة بصوته أن اقتربي. “أخوك ذا رمة!” لمز سلطان لـنايف وهما ينتحيان جهة من البرحة. رد نايف “سيبك” بينما يخلع نعله الأيمن ويضعه على الأرض ثم يمشي بإزائه بخطوات كبيرة، شبراً فشبرين، ويضع نعله الأيسر في الجهة الثانية. هكذا صارا يمتلكان مرمىً بعارضة وقائمتين من هواء. أتى سلطان بطوبتين مكسورتين “الحذيان ما تكفي” قال وسند بهما النعلين. “أوكي” قال نايف ثم شبّر بخطواته من منتصف المرمى وإلى مسافة خمسة أشبار واضعاً علامة X بقدمه على التربة. اقترب سليطين ووضع الكورة في قلب العلامة. “عندي ولّا عندك” -سلطان، “قرعة”- نايف وأخرج الأخير نصف ريال معدنياً وقذف به في الهواء، تلقفه سلطان. كان قد اختار الملك وقد ظهر في وجهه النقش. تأفف وهو يمضي ناحية المرمى لحراسته قائلاً “حظك يكسر المسمار!”. كل أحلام الكابتن ماجد تكثفت في ذهن نايف وهو ينظر للكورة، لـسلطان، للنعلين تحت الحجرين، للكورة، لقدمه الحافية ذات ظفر الإبهام المكسور، يرفع رأسه وينظر مرة أخرى لـسليطين الذي مد لسانه خارجاً يسخر منه، في هذه اللحظة تماماً وما إن رأى لسان حارس المرمى حتى انطلق وسدد بكل قوته للجهة اليمنى “غوووووووول !” صاح نايف أما الثاني فقد شخر وأقسم وضرب كفاً بكف يزعم أن الكورة ضربت في القائمة “والله جات من هنا” مؤشراً فوق نصف الطوبة الأيمن تماماً. اختلفا على هذا، كادا يمسكان بخناق بعضهما، تصايحا كذكرين من القطط في فبراير، حتى قام نايف باستفزاز صبياني “خايف، هاا، عشان عارف انك ما حتجيب فيني غول يا رمة” فانحل الأمر؛ فوراً غذ سليطين خطاه إلى آخر البرحة يريد الكورة، أخذها بين يديه وعاد يمشي غاضباً والآخر يتأهب في منتصف المرمى ولا أوليفر كان على أيامه. مر المهاجم من جانب الحارس وقال له “ليش كاتب اسمه؟” مديراً الكورة على ناحية اسم نواف. “اسمي في الجهة الثانية” رد عليه الحارس بامتعاض، “شفته” قال سليطين “اتاريها مو كورتك لوحدك” بنبرة استحقار. هذا أغضب الحارس، لكنه، وكمحترف، كظم غيظه واستعد لصد البلنتي مؤخراً طيزه للوراء قليلاً وفارداً كلتا ذراعيه. سلطان ينظر للكورة، على بعد خطوة منها، يركز عليها، يحملق في نواف البارز أعلاها، يرفع رأسه لـنايف ويقول “عارف إني حاط اسمك فوق” ثم يدعس على الكورة ويبتسم. يتنرفز الحارس، تتكركب وضعيته، ويشتم ولد ليلثة غير مدرك أن الكورة سُددت بالفعل إلا وهي بين ساقيه؛ قَمَطَ .. لكن بعد فوات الأوان. “كوبررررررررري !” صرخ الهداف بينما يرقص ماكرينا ماكرينا. كان نواف يتابع كل هذا والقطة في حِجره يمسح عليها ويقول “شُفتي كيف قمط؟” ضاحكاً، غير أن ضحكته انقلبت في بغتة إلى صرخة مكتومة إذ صكت طوبة المرمى قفاه، تحت أذنه اليسرى بالضبط؛ أكب ساقطاً برأسه على القطة التي قفزت عنه تموء خوفاً إما من سقوط نايف أو من زعيق أخيه “أصلًا كله منك، مين قلك تكتب اسمك هااا… ” وأخذ يلهوج ويصرخ ويقول له لا تمثّل أنك ميّت يا حيوان وينوح ويلطم لا من ألم أنه أصاب أخاه بل من ألم الكوبري. لم ينتبه لمآل رميته بعدُ؛ لم يستوعب إلا من غبار سلطان الهارب عدواً إلى حارته بسرعة كلب سلوقي. ينظر إلى أخيه ويستوعب ببطء، يرى الدم يسيل ويغمر تي-شيرت الأهلي. أبيض في أخضر في أحمر. يرتجف قليلاً ثم كثيراً ثم يتعرق ثم يحس بدموعه، ثم يتلفت مرتبكاً: تقع نظرته على النافذة فيرى أباه واقفاً مصقوعاً في مكانه، ويلمح طائراً أسود يحط على حافة سطوح بيتهم ومن خلفه حمرة الغروب.

 

* * * * *

خاص بأوكسجين

 


شاعر من السعودية.