أمي، والصين، والعالَم الآخر”[1]
العدد 269 | 21 كانون الثاني 2022
هنري ميللر | ترجمة: أسامة منزلجي


هذا النص ألهمَني به حلمٌ متُّ فيه ووجدتُني في الآخرة حيث قابلت أمي مُصادفةً ولطالما كرهتها طوال حياتي.

أمي

لم أُدرك تمام الإدراك أني متّ – بدوت حياً تماماً – إلى أنْ رأيت أمي تقترب مني. عندئذٍ فهمتُ أني أنا أيضاً أصبحت كما يقولون ميّت. لم يكن لديّ الوقت الكافي لأسجّل ما يُحيط بي؛ لقد بدا كل شيء طبيعياً وإنْ كان مختلفاً.

ما فاجأني على الفور كان التعبير المُشرق المرتسم على وجه أمي. (كان ذلك بحق شيئاً جديداً عليّ) لقد بدت أصغر سناً مما عرفتها في أي يوم من الأيام، حتى وأنا فتى صغير. كادت تبدو مرحة.

هتفت، ونحن نتقارب، ” أوه هنري، لا تعلم كم أنا سعيدة برؤيتك. لقد انتظرتك مدة طويلة جداً. ما الذي أخّرك كل هذا على الأرض ؟ ”

تدفق فيضٌ من الكلمات على شفتيّ ولكن كل ما استطعت أنْ أنطق كان “أمي، أمي العزيزة”. ثم بدا أنه لا لزوم للكلمات. لقد كنتُ لا أزال حياً، ولكن بمعنى جديد. كان لدي عقل مختلف، مجموعة كاملة جديدة من المشاعر. وفوق ذلك كله، كنتُ في حالة سكينة – بل في حالة من النعيم.

أخيراً نجحتُ في أنْ أقول “أين نحن؟”

هزّت أمي كتفيها بلا اهتمام وهي تبتسم. أجابت ” لا أعلم. لا أحد يسأل مثل هذا السؤال أبداً. نحن راضون بما نحن عليه وبالمكان الذي نحن فيه. إنه مجرد مدى واحد لا متناه، ولا وجود للزمن، بل فقط نُتفٌ من الأبدية ”

كان ذلك اشدّ ما يمكن أنْ يصدر عن أمي التي أعرفها من تصاريح غرابة.

قلت “أمي، لابد أنكِ تعلّمتِ الكثير منذ أنْ قدِمتِ إلى هنا”

أجابت ” يا بنيّ، هناك فقط شيء واحد أسوأ من الجهل وهو الغباء. ولا عجبَ أنكَ لم تتحمّلني وأنا تحت. لقد كنتُ غبية، غباءً فظيعاً ”

باشرت بمخالفتها لكنها استمرت في الكلام. “في الواقع، يا بنيّ، كل ما علينا أنْ نفعل هنا هو أنْ نتعلّم من أخطائنا السابقة، بحيث أننا عندما نُصبح مستعدين لنتجسّد من جديد، نكون قد تعلّمنا درسنا. لدينا الوقت كله هنا. البعض يتعلّمون أسرع من غيرهم ويرحلون قبل أنْ نتعرّف عليهم جيداً”

قاطعتها “أخبريني، هل يوجد هنا ما يُشبه الحكومة؟”

أجابت بسرعة “أوه، كلا. لا حاجة إلى أية حكومة هنا. نحن جميعاً قادرون على حكم أنفسنا. في الحقيقة، أحد أول الأمور التي تحدث لك هو تخلّصك من الأحقاد كلها، والمرارة، والتحامُل. ثم إنه لا توجد أُمم هنا. إنه فقط عالمٌ واحد كبير، عائلة واحدة كبيرة”

“كيف تتمكنون من العيش، مَنْ يزوّدكم بالطعام، مَنْ يقوم بالأعمال الشاقة؟”

قالت أمي “لا وجود للعمل هنا. إنكَ تحصل على كل ما تتمنى. إذا أردتَ أنْ تذهب إلى أي مكان كل ما عليك أنْ تفعل هو أنْ ترغب فيه وستجد نفسك هناك – إنَّ المكان هو الذي يأتي إليك. هل تذكُر الغيتار المُعلَّق داخل خزانة العواصف في المنزل الذي لم يعزف أحد عليه؟ ذلك كان غيتاري – لكني كنتُ قد نسيت كيف أعزف عليه. هنا أحصل على غيتار متى شئت وأستطيع أنْ أعزف عليه جيداً. انتظر لحظة وسأريك”. وأمام ذهولي إذا بها تُمسك بيديها في الحال غيتاراً وتعزف عليه، عزفاً بارعاً.

هتفت، وأنا ممتلئاً بالإعجاب، ” إنكِ تعزفين كسيغوفيا[2] ”

أجابت أمي “سيغوفيا موجود هنا. لقد قابلته وأعطاني بضع دروس. إنَّ الإنسان يتعلّم بسرعة هنا. الأمر الهامّ هو الرغبة”

فجأة تبيَّنَ لي أنَّ والدي لم يكن حاضراً. وعندما سألتها إنْ كانت تعلم مكانه قالت ” لعله في ركنٍ ما في مكان بعيد. لم أقابله بعد”

سألت “ألا تشتاقين إليه؟”

قالت “كلا، يا بنيّ، أنا لا أشتاق إلى أي شخص أو أي شيء. إنَّ المرء هنا يتعلّم الرضا بسرعة. ثم لعلّ والدك لا يزال يعاقر الخمر حتى يفقد وعيه، كما تعلم. هذه ليست الجنّة. وأشكّ في وجودها”

ثم أردفت “بالمناسبة، لم أسألك إنْ كنتَ ترغب في أنْ تأكل أو تشرب شيئاً. إذا رغبت في ذلك يمكن تحقيقه في الحال. يمكنكَ أنْ تحصل على شاتوبريان مع البصل والبطاطا المسحوقة، إذا شئت. لطالما كنتَ تحب البصل”

“شكراً لك، يا أمي، لا أريد أي شيء. أشعر كأني حصلت على كل شيء. حتى الهواء يُغذّي. كأني أتنفّس إكسير الحياة… أوه، لقد تذكرت، إني لا ألاحظ وجود سماء”

أجابت بسرعة “هنا لا توجد أي سماء. لقد سمعتُ أناساً يُشيرون إليها بوصفها سماءً وهمية. نحن الآن في أجسادنا الوهمية. على الأقلّ هذا ما قيل لي. ولكن مهما كان اسمه، فهو يُناسبني تماماً”

“تقصدين أنكِ لم تعاني أبداً من ألم الأسنان أو الأذن، ولا إمساك، أو الإسهال؟”، هزّت أمي رأسها نفياً بحيوية. سألت “ألا ترغبين في أنْ تمكثي هنا إلى الأبد؟”

من جديد هزّت رأسها نفياً. “كلا يا بنيّ، إنَّ مكاننا هو الأرض. يجب أنْ نعود إليها مرة بعد مرة إلى أنْ تُصبح مكاناً صالحاً للعيش فيه. سوف أكون أنانية إذا رغبتُ في البقاء في هذا الفردوس وأترك أهل الأرض يُعانون”

لقد كان هذا بحق تصريحاً مُدهِشاً يخرج من بين شفتيّ أمي. لم يكن قد مضى على مجيئي إلا مدة زمنية قصيرة حتى أحببتُها واحترمتها وأثارت إعجابي.

قلتُ فجأة ” أمي، في ذهني سؤال يؤرقني. ولا أحد غيرك يسـتطيع الإجابة عنه ”

قالت ” أنا لا أمتلك ناصية الحِكمة كلها، ولكن اسأل، فربما استطعت أنْ أكون ذات عون ”

” إنه ما يلي، يا أمي. عندما كنت في لندن قبل بضع سنوات اصطحبني صديق لمقابلة وسيط روحي. كان رجلاً مذهلاً حقاً، هذا الوسيط. فما كدتُ أجلس، مثلاً، حتى قال لي : ” إنَّ كتبك سبّبت لك الكثير من المتاعب، أليس كذلك “. لا أحد كان قد أخبره أني كاتب. وسرعان ما أتبع ذلك بإخباري أنَّ مُساعدي الأكبر في الحياة الآخرة هو أخي. هل كان لي أخ – لعله مات قبل أنْ أولد ؟ ”

تردّدت أمي برهة أو اثنتين قبل أنْ تُجيب.

قالت ” بنيّ، ذلك الرجل كان على صواب. لقد ولدت طفلاً ميتاً قبل أنْ تولد أنت. كان ذكَراً ”

هتفتُ ” إذن لعله موجود هنا أيضاً ”

قالت أمي ” نعم ولا. قد يكون عاد إلى الأرض الآن ”

فجأة اقترب رجل مني وقبض على ذراعي. قال وهو يرسم ابتسامة ودوداً ” أنت هنري ميللر، أليس كذلك ؟ ”

نظرتُ إليه لكني لم أتعرّف عليه.

قال ” لن تتذكّرني. كان لقاؤنا قبل زمن بعيد. كنتَ لا تزال شاباً صغيراً. منحتني عملاً كساعي. كان قد أُطلِقَ سراحي من السجن بعد قضاء سنوات في السجن لقتلي زوجتي بشكل مشروط. وقد أصغيتَ إلى قصتي، وألحقتني بفريق السُعاة ودفعتَ لي مُقدَّماً عشرة دولارات من جيبك الخاص. هل تتذكّرني الآن ؟ ”

هززتُ رأسي نفياً. كان ذلك قد وقع معي مرات عديدة بحيث لا يمكنني أنْ أتذكّرها جميعاً. وفجأة تبيَّن لي أنَّ معظم الـ 100،000 رجل وامرأة وفتى أجريت معهم مقابلات أثناء وجودي كمدير شؤون المُستخدمين في شركة البرق قد أصبحوا هنا الآن. وبهذا بدأتُ أتذكّر بعض الشخصيات الغريبة التي عرفتها خلال تلك الفترة الزمنية.

عندئذٍ قاطعتني أمي لتُخبرني أنها تابعت مسيرتي المهنية ككاتب حتى النهاية. هتفت ” لقد كنتُ سعيدة جداً لأجلك. كنت ترغب بشدّة في أنْ تصبح كاتباً عظيماً وقد نجحتَ في تحقيق ذلك بعد كفاح مرير ”

علّقت قائلاً ” لعلّ الوسيط الروحي كان على صواب. لعل أخي ساعدني فعلاً طوال الوقت دون عِلمي بذلك ”

قالت أمي ” العديد من الناس هنا كانوا يبذلون أقصى جهودهم لمساعدتك. لقد أثرت ضجة حتى في هذا العالم ! ”

قلت على عجل ” أمي، هناك شخص واحد أرغب رغبة قصوى في مقابلته إذا كانت لا تزال هنا. أتذكرين الفتاة الأولى التي تدلّهت في حبها ؟ ”

هزّتْ أمي رأسها نفياً. ” لا أظن أننا تقابلنا قط. لعلها لم ترغب في مقابلتي ”

سألتُ ” لماذا تقولين هذا ؟ ”

” لأني لم أكن أبداً متعاطفة مع أي امرأة وقعتَ في حبها. الحقيقة هي أني لم أعتقد أنَّ أياً منهنّ كانت تصلح لك ”

” أمي، كم أنت طيبة في قولك هذا ! ليتكِ قلت لي هذا عندما كنا في الأسفل ”

” كما قلت لك، يا بنيّ، لقد كنتُ امرأة شديدة الغباء. ولكن أعود فأقول إنَّ والدك جعل حياتي عذاباً ”

” أما تزالين تحبينه ؟ ”

” هنا نحن لا نحب كما يفعل أهل الأرض. لا نميِّز بين شخص وآخر”

” ألا يبدو هذا شيئاً مملاً ؟ ”

” ليس حقاً. ثم إنه يُساعد على تجنّب الكثير من الأسى ”

قلت ” أمر غريب، لكني أشعر بألفة هنا، مع أنه لم يمضِ على وجودي هنا أكثر من بضع دقائق. أمر غريب، إنها ليست الجنة وليس الجحيم. ولا أرى أية ملائكة تحوم أو تعزف على آلة الهارب ”

” لا وجود لجنة أو جحيم، يا بنيّ. هذا كله هراء. ولا وجود أيضاً لِما يُسمّى بالإثم. هذا اختلاق من اليهود الذين تبنّاهم المسيحيون ومنذ ذلك الحين وهم يُسمّمون العالم به. أما الجحيم، الجحيم الحقيقي موجود على الأرض ”

“قلتِ الجحيم الحقيقي، يا أمي. أريد أنْ أسألك عن هذا – إنَّ كل شيء هنا يبدو كما الحلم”

“أنتَ على صواب تامّ، يا بنيّ. هذا عالم الحلم، الواقع الحقيقي. في أسفل كل شيء وهم. المخيّلة وحدها حقيقية”

*****

خاص باوكسجين

[1] – من كتاب ” سُداسيّة ” لهنري ميللر.

[2] – أندريه سيغوفيا (1893 – 1987) : عازف غيتار إسباني. وهو أشهر عازف غيتار في العالم. بفضل تقنيته الفريدة وبراعته استطاع أنْ يعزف مقطوعات مُخصصة لعدد كبير من الآلات. بعض المؤلفين الإسبان كانوا يؤلفون مقطوعات خصيصاً له ليعزفها لهم، مثل فيلا-لوبوس وكاستلنوفو-تيديسكو.                    – المترجم