أحوال من سِيرَتي الأخرى
العدد 269 | 21 كانون الثاني 2022
حسام المقدم


 

                                    ..

  (1) نبضُ النّملة:

أذكرُ أنّ اثنين من الحُرَّاس الضِّخام سمحا لي بالدّخول.

  مدخل أنيق خافت الإضاءة، أبواب أبنوسية ومقابض مذهبة، هواء مُكيّف وسِجّاد أحمر، ما علاقتي بكل هذا؟ لماذا طلبوا حُضوري؟ ظهر رجُل له هَيبَة، أبيض الوجه بتقاطيع جادّة. رحَّبَ بي دون أن تلين ملامحه، بعدها دخل الخادم بالقهوة وكُوب الماء المُثلّج. تركتُه يلفُّ ويدور، يُطوِّف بموضوعات كُبرى لا أكاد أفهم المقصود منها. جاء على ذِكْر الشَّراكَة بيننا.. تعجّبتُ، قال إنني أمتلك أُذُنَين فائِقَتي الحساسِيّة، وفي استطاعتهما سَماع نبض النّملة! خرجت مِنّي ضحكَة لم أقدر على كتمها، هذه أوّل مرّة أعرف بوجود صوت لنبض النملة، وليس دَبّة النملة كما يقولون دائما، ومن المُفاجِئ جدا أنني أمتلك موهبة سمعية فريدة في التمييز بينهما! اقترحَ الرجل، حِرصًا على وقتي، أن أترك له الأمر، وحين واقفتُ طلبَ أن أذهب إلى الحُجرة الأخيرة على اليمين، وهناك سيفعلون اللازِم.

  تركتُ أُذُنيّ هناك.

  في مرات لاحقة قالوا إن أصابعي تمتلك خِفّة عازف بيانو وبراعة جَرّاح، أخبروني عن ذِراعي وما فيه من معجزات، لساني ومنطقي الجاري بالدُّرَر، وعندما وصلوا إلى رِجْلَيَّ، ولم أعُد أتمكَّن من زيارتهم، أرسلوا إليَّ مَنْ ينقلُني إليهم.

  تركوا لي عينيَّ،

  لم يُريدوا أن يأخذوهما.

***  

(2) لقاء:

رأيتُه يعبُرُ الميدان الشهير في المدينة.

قطعتُ طريقه، واقفًا في مُواجهته. لم أتفاجَأ حين نطقَ كلٌّ منّا اسم الآخر في نفس اللحظة، غِبنا في أحضان بِطَعم ورائحة سنوات الغياب.

بادرتُه: “يااااه، تقريبا شكلك لم يتغير، لولا شَعركَ نِصفه أبيض لكُنتَ كما أنتَ، ما أخبارك؟”.

“والله ماشي الحال، سافرتُ كثيرا حتى زهقتُ وقعدتُ، وأنتَ ما أخبارك؟”

“ماشية الدنيا، أيام فوق وأيام تحت”.

“والشغل والأولاد؟”

“عادي، أصحو في الصباح، وأضع رِجْلي على تِرس يدور بي إلى أن يأتي الليل”.

“كأنّكَ تتكلَّم عَنّي”.

“في عينيك لا تزال نفس النظرة السّارِحة”.

“لا أظن، هل أبدو هكذا فِعلا؟”.

“لن أُعطِّلك، قُل رقم موبايلك”.

  أملَاني الأرقام، سجّلتُها على تليفوني.

سلَّمَ عليَّ مُشدِّدًا: “سنتكلَّم”.

“طبعا أكيد، سلام”

“مع السلامة”.

  التفتُّ مرّتين بعد أن مضى، وفي الثالثة غاب عن نظَري.

***

  (3) لَعِب:

سألتُ كثيرا: لماذا يتجمّع أصحاب المَعَاشات على هذا المقهى بالذات؟ من الغريب أن يُشكّل العجائز غالبية دائمة وسط الجالسين. لستُ من زبائن المكان، لكنّ السؤال يشغلُني عندما أجد نفسي حولهم.

  حديثهم قليل، صوت مُكعّب النَّرد وفرقعاته على رُقعة الطّاولة؛ دليل على وجودهم. تصطف بجوارهم أكواب الحلبة والشاي بالنّعناع.

  في العادة لا تدوم جلستي طويلا، أشرب قهوتي وأمشي. بالأمس فقط طال قُعودي أكثر من المعتاد..

  كنتُ في شُرودي أتأمّلهم، حين فوجئتُ بمُكعّب النرد الصغير، يطير عاليا وينزل مُستقرّا في جَيب قميصي! تحسستُه برفق، تركتُه نائمًا في أمان، بينما هم يُفتشون في حيرة تحت التّربيزات والكراسي. بحثوا ومصمَصوا الشِّفاه، ضربوا أَيديهم عجبا من هذا العفريت الذي اختفى.

   توقَّفوا عن اللعب.

   فكرتُ أن أُخرِجه من جيبي، أقفُ مُشيرًا به من بعيد، ثم أجري مُنطلقا بأقصى سرعتي!

  بقيتُ في مكاني، طلبتُ قهوة أخرى، شربتُها على مهل، مُتأمّلًا حلقتهم الصّامتة، وأذرعهم المعقودة فوق كُروشِهم.

 انصرفتُ، وفي نِيَّتي أن أُعاود الرُّجوع إلى المقهى كل فترة، ساعِيًا وراء شبح إجابة عن سؤالي العويص.

***

  (4) عِظام:

أحملُ جِوالا ثقيلا على كَتفي، جِوالا مملوءا بالعِظام. حَذَّروني من الغَفلَة ولو ثانية: “هذه عِظام تفوق قيمتها الكثير من الأجساد الحيَّة”.

  أسير على طريق ترابي في قلب الغيطان، على اليمين والشِّمال أنوار القُرى القريبة والبعيدة. لِمَنْ هذه العظام حتى يهتمُّوا بها هكذا؟ لو هي بالأهمية المذكورة ما سلَّموها إلى شخص وحيد، ليس معه ما يُدافع به عن نفسه.

  أنزلتُ الجوال، وقعدتُ أرتاح. تحسستُ صلابة وحِدّة ما أحمل، ضحكتُ على حُمقِي.. إنها مجرد عِظام. فتحتُ الكَنز المزعوم، أخرجتُ عظمَة طويلة، ضحكتُ، قلتُ إنها فَخذ هِتلر.. (فكَّرتُ أنه مجنون أشعَلَ العالم)، تأملتُ كَوْمَة أخرى رُحتُ أُفنِّدها على مِزاجي: ذِراع أينشتين.. (قرأتُ أنه عبقري لم يُحب إلا نفسه)، ضِلع من ضُلوع نابُليون.. (هل حقا كان يعود من حُروبه الهائلة ليقعد تحت أقدام زوجته جُوزفين؟)، القفص الصّدري لمحمد علي باشا.. (تذكرتُ أنه رقصَ فَرحًا حين عرف بوفاة محمد بك الألفي الرجل القوي وأحد زعماء المماليك).

  أعدتُّ رَصّها، طرِبتُ من لُعبتي مع الأسماء، تذكرتُ أنني نسيتُ فُلانا وفلانا. انتبهتُ على خاطر أن العظام ربما تكون لأولياء، يجري نقل رُفاتهم الطاهرة إلى مكان آخر. خفَّفتُ خُطواتي رِفقا بما أحمل فوق ظهري، ولمّا أظلم طريقي تماما وقفتُ بلا حركة. أخاف أن أدوس على كلب نائم أو ثعبان أو أي شيء. بعد تَردُّد رفعتُ قدمي، أنزلتُها على الأرض، واستويتُ ثابتا. في المرة الثانية وجدتُني أغوص في ماء بارد، أهبط في التّرعة حتى نِصفي، تمسّكتُ بحشائش وعيدان غاب على الشّط، أين الجِوال؟ عرفتُ أنه سبقني إلى الأعماق، مَددتُ رِجلي مُفتّشا تحت الماء الثقيل، لا شيء، ماذا أقول لهم عن إهمالي؟ هل أنتظر إلى الصباح وأبحث من جديد؟

  ابتسمتُ لفكرة أنّ العظام صاحبة المقام الرّفيع ربما ذهبت إلى قبرها، واختارتْ مصيرها بنفسها.

  نزعتُ جسدي من الماء، رحتُ أُجفّف وأعصِرُ ملابسي، ثم نهضتُّ راجِعًا.  

 

*****

خاص بأوكسجين

                                     


قاص من مصر، صدر له العديد من المجموعات القصصية منها "أحزان طفل"" (2001)، و""أشباح تعربد على الطريق"" (2007)، و""قهوة بوتيرو"" (2020)، ورواية بعنوان ""سباعية العابر"" (2017)."