27 أيلول/سبتمبر 1934
في محادثةٍ جرت قبل عدّة أمسيات، تحدّث بريشت عن التّردد الغريب الّذي يمنعه حالياً من الخروج بأيِّ خططٍ واضحةٍ. أشار بداية إلى أن السبب الرئيس كامن بالمزايا الكثيرة التي يحظى بها مقارنة بمعظم اللاجئين الآخرين. لذلك، وبما أنّه بالكاد اعترف بإمكانية أن تشكّل الهجرة منطلقاً سليماً لوضع الخطط والمشروعات، فهو يرفض بشكل جذري الاعتراف بذلك إن تعلّق الأمر بقضيته. وصلت خططه إلى فترة تتخطى الهجرة. وهناك كان عليه المضي في إجراء تعديلين. الأول مرتبط ببعض أعمال النّثر التي عليه اكمالها: أقصر تلك الأعمال هجاءُ لهتلر مكتوب بأسلوب كتّاب السير في عصرِ النهضة –أمّا الأطول فقد كان رواية، لها أن تكون مسحاً موسوعياً لحماقات المثقّفين؛ وعلى ما يبدو فإنه سينجز قسماً منها في الصّين. وبالفعل فقد اكتمل نموذجٌ صغيرٌ من هذا العمل.
وإلى جانب مشاريعه النثرية فقد كان بريشت مشغولاً بمشاريعَ أخرى، تعود إلى دراساتٍ وأفكارٍ قديمةٍ جداً، حيث بمقدوره – عند الحاجة – الرّجوع إلى ملاحظاته ومداخلاته، أي إلى “المحاولات” الأفكار التي تراوده في سياق تفكيره بالمسرح الملحميّ، هذا عدا عن أفكار أخرى، نابعة من المشاغل نفسها، تداخلت مع دراسته عن “اللينينيّة” إضافة للميول العلميّة لدى التجريبيين، وبذلك يكون قد تخطّى إلى حدٍّ ما إطار عمله المحدد.
لسنواتٍ عدّة عمل بريشت على تصنيف مشاريعه، مدرجاً إياها تحت مفاهيم أساسية متعددة ومتنوعة، لذلك وبالمقابل، فإنّ هذا المنطق غير الأرسطي، نظريّة السّلوكية، الموسوعة الجديدة ونقد الأفكار، شكّلوا صميمَ انشغالاته. وفي الوقت الحاضر تجتمع هذه المساعي المختلفة على فكرة قصيدةٍ فلسفيّةٍ تعليميّة. إلّا أنّه عانى شكوكاً بهذا الصّدد. حيث يتساءل في المقام الأول ما إذا كان الجمهور سيتقبّل عملاً كهذا، وفقاً لنتاجه الحالي وخاصة العناصر الساخرة التي تحتكم عليها أعماله، وخصّ بذلك رواية “البنسات الثلاثة”. ويتكوّن هذا الشك من شقّين متمايزين من الأفكار، فهو أصبح يشكّك بشكل أكبر بمشاكل وطرق النضال الطّبقي البروليتاري، وقال إنه كان في حالة شكّ متزايد بالهجاء وتحديدا لموقف الساخر المرتبط به. ولكنّ خلط هذه الشكوك، والتي في معظمها تحمل الطابع العملي، مع غيرها المتحلية بعمق أكبر سيكون بمثابة إساءة لفهمها.
الشّكوك في المستوى الأعمق تهتمّ بالعناصر الفنية والملتبسة في الفن، وفوق كل هذه العناصر فإنها – أي هذه العناصر نفسها – تجعل الفن أحياناً متعارضاً مع الفكر وإن بشكل جزئي، وإن جهود بريشت البطوليّة لإضفاء الشّرعية على الفن وجعله موجّهاً للفكر أحالته مراراً وتكراراً إلى الأمثولة (الحكاية الرمزية) مثبتاً بواسطتها أن الغموض الفني آت من حقيقة كلّ العناصر الفنية للعمل تلغي بعضها البعض في آخر المطاف. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الجهود، متّصلة بالأمثولة، الّتي أمسى يصوغها في الحاضر بشكلٍ أكثر راديكاليّة عبر فكرة القصيدة التّعليميّة.
حاولت أثناء حوارتنا أن أشرح لبريشت أنّ قصيدةً كهذه لن يكون عليها الحصول على موافقة جمهور البرجوازية، بل موافقة البروليتاريا، والتي، يفترض، أن تجد معاييرها أقل في أعمال بريشت السّابقة، الموجّهة جزئيّاً إلى الطّبقة البروجوازيّة عمّا هي عليه من حيث المحتوى العقائدي والنّظري للقصيدة التعليمية نفسها. “إذا نجحت هذه القصيدة التعليميّة في توظيف سلطة الماركسية في خدمة مصالحها،” قلت له: “فإنّه من غير المرجّح أن تقوم أعمالك السابقة بإضعاف تلك السلطة.”
4 تشرين الأول/ أكتوبر
غادر بريشت بالأمس إلى لندن. لا أعرف إذا ما أغراه وجودي هناك، أو أنّه أصبح أكثر انجذاباً إلى هذا الأسلوب، وعلى أيّ حال فقد أصبحت عدائيّته (والّتي يدعوها هو نفسه “التطعيم”) أكثر وضوحاً في أيّ نقاش عمّا كانت عليه في السّابق. بالفعل، فقد ذُهلت ببعض المفردات التي تمخّضت عنها هذه العدوانيّة. وبشكلٍ خاص، ولعه باستخدام مصطلح W en (السّجق الصّغير). في دراغور، كنت أقرأ رواية “الجريمة والعقاب” لديستويفسكي. في البداية، عزا بريشت مرضي إلى قراءة هذا الكتاب. وتأكيداً على ذلك أخبرني كيف أنّه في شبابه، عانى من مرض مزمن (كان بلا شكٍّ كامناً لفترة طويلة من الزّمن) وقد ظهر عندما أصغى لأحد زملائه في المدرسة وهو يعزف له على البيانو مقطوعة لشوبان، لم يكن وقتها قادراً على الاحتجاج. بنظرِ بريشت فإن لكلٍّ من شوبان وديستويفسكي تأثيرٌ مضرٌّ للغاية على صحّة النّاس. لم يفوّت فرصةً واحدةً، ليقوم بإزعاجي بسبب ما أقرؤه، بشتّى الأساليب، ولمّا كان هو نفسه يقرأ “الجندي الطيب شفيك” أصرّ على إصدار أحكام القيمة المقارنة بين كلا الكاتبين. أصبح واضحاً أن ديستويفسكي، ببساطة، لا يمكن أن يرقى لمستوى هاشيك، وقد شمله بريشت دون أي جهدٍ في فئة الـ W en؛ وكان سيتوسّع عما قليل ليشمل ديستويفسكي في الوصف الّذي يبقيه حاضراً، في هذه الأيّام، لأيّ عملٍ يفتقر إلى الطابع التثقيفيّ، أو يرفض هذا الطابع: فهو يطلق على أيّ عمل مثل هذا مصطلح klump حشو، أو تجلّط.
1938 – 28 حزيران/ يونيو
كنت في متاهةٍ من السّلالم. لم تكن هذه المتاهة مسقوفةً بالكامل. تسلّقت؛ سلالمُ أخرى أدّت إلى أسفل. وعندما استقرّيت أدركت أنّني قد وصلت إلى قمّة. تكشّف أمامي منظرٌ واسع لأراضٍ شاسعة. رأيت رجالاً آخرين يقفون على قممٍ أخرى. أصاب الدّوار واحداً من هؤلاء الرّجال وهوى. عمّ الدّوار، وأخذ الآخرون يتساقطون من قممٍ أخرى إلى الأعماق السّحيقة. وعندما بدأت أنا نفسي أشعر بالدّوار، استيقظت.
يوم 22 حزيران/ يونيو وصلتُ منزل بريشت.
يتحدّث بريشت عن التأنق والاستهتار اللذان يميزان مواقف فرجيل ودانتي الرئيسة، الأمر الذي، حسب قوله، يشكّل خلفية للغيستو[1] المسرحي الملوكي لدى فيرجيل. ويطلق على كلٍّ من فيرجيل ودانتي اسم “المشاة” . ويقول مؤكّداً على كلاسيكيّة جحيم دانتي ، “يمكنك قراءته وأنت في الخارج”.
يتحدث عن كراهيته المتأصّلة لرجال الدين، كراهيّةٌ ورثها عن جدّته. إنه يلمّح إلى أنّ أولئك الذين استولوا على مبادئ ماركس النظرية ويتولون إدارتها سيشكلون على الدّوام بطانة دينية. الماركسية واضحة لا تخفي نفسها. اليوم أصبح عمرها مئة عام وما الّذي نجده؟ (عند هذه النقطة قُطعت المحادثة.) “يجب على الحكومة أن تذوي.” من يقول ذلك؟ الحكومة. (وهنا لا يمكن أن يقصد سوى الاتحاد السّوفياتي). ثمّ بحنكةٍ، وبتعبيرٍ ماكر، يقف بمواجهة الكرسي الذي أجلس عليه -إنه ينتحل صفة “الحكومة”- ويقول، مع نظرةٍ خبيثةٍ، طويلةٍ إلى الجانب محاوراً شخصيّة وهميّة: “أعرف أنه يجب عليّ أن أذوي.”
محادثةٌ حول الروايات السّوفياتية الجديدة. الّتي لم نعد نقرؤها. ينتقل الحديث بعد ذلك إلى الشّعر، وإلى ترجمة قصائد من لغات متعدّدة في عهد الاتّحاد السوفياتي حيث كانت الكلمة تفيض. ويستطرد، يواجه الشعراء هناك وقتاً عصيباً. “إذا لم يبرز اسم ستالين في قصيدةٍ ما، فإنّ هذا سيفسّر كدليلٍ على سوء نواياها”.
29 حزيران/ يونيو
يتحدّث بريشت عن المسرح الملحميّ، ويخصّ بالذّكر المسرحيّات التي يؤديها أطفال يخطئون في تمثيلهم، والتي يجري إخراجها بالاعتماد على التغريب، ناقلةً الشخصيّات الملحميّة إلى حيّز الإنتاج. قد يحدث أمرٌ مماثلٌ في مسرح مقاطعةٍ من الدرجة الثالثة. وأذكر إنتاج جنيف لمسرحيّة ” السيّد” حيث أنّ مشهد التاج الّذي يرتديه الملك بشكل مائل على رأسه أعطاني نواة الأفكار التي طوّرتها لتصبح في النهاية وبعد تسع سنوات لاحقة كتاب “التراجيديا”.
بدوره اقتبس بريشت من اللحظة التي تبادرت فيها فكرة المسرح الملحميّ إلى ذهنه. وقد حدث ذلك ضمن تجارب إنتاج ميونخ لمسرحيّة “إدوارد الثاني”. حيث يُفترض أن تشغل المعركة خشبة المسرح لمدّة ثلاثة أرباع السّاعة. لم ينجح بريشت ولا مساعده في الإنتاج، آسيا (لاكس) في تنظيم وجود الجنود على خشبة المسرح. وفي النهاية التفت بيأس إلى كارل فالنتين، الّذي كان في ذلك الوقت أحد أصدقائه المقرّبين، وقد كان يحضر التدريبات، سأله: “حسناً، ما هي؟ ما هي حقيقة هؤلاء الجنود؟ ماذا عنهم؟” فالنتين: “إنّهم شاحبون، خائفون، هذا ما هم عليه!” حسمت هذه الملاحظة المشكلة، يضيف بريشت: “إنّهم متعبون.” حيث كانت وجوه الجنود مغطاة بطبقات سميكةٍ من الطباشير، وكان ذلك هو اليوم الذي حُدّد فيه أسلوب الإنتاج.
في وقت لاحق برز موضوعٌ قديم عن ’الوضعانيّة المنطقيّة’. حيث اعتمدت أنا موقفاً متعنّتاً إلى حدٍّ ما، وتداعت المحادثةُ لتأخذ منحىً غير مستحب. ثمّ هدأت حدّةُ النقاش عندما اعترف بريشت ولأول مرة أن حججه كانت سطحية. هذا ما قاله بصيغته المحبّبة: “حضرت حاجة عميقة للفهم السطحي ” وفي وقتٍ لاحق، وعندما كنا نمشي باتّجاه منزله (استمرّت المحادثة في ذهني): “إنه لأمر جيد عندما يقوم شخص ما ذو موقف متطرّف بالتجاوب. وهكذا وصلَ إلى منتصف الطريق. عندما، فسّر، ما الّذي أصابه :لقد أصبح عتيقاً.
1 تمّوز/ يوليو
عندما أذكر الأوضاع في روسيا، فإنّ تعليقات بريشت تكون مشكّكة للغاية. وقد حدث عندما سألت في ذلك اليوم ما إذا كان أوتوولد لا يزال صاحب نفوذ (في العاميّة الألمانية: إن كان “لا يزال جالساً”)، جاءني الجواب:” إذا كان لا يزال قادراً على الجلوس، فهو جالس. “بالأمس صرّح غريتل ستيفن عن افتراضه بأنّ تريتياكوف قد فارق الحياة.
4 تمّوز/ يوليو
الليلة الماضية، بريشت في سياق محادثةٍ عن بودلير: “أنا لست معادياً للاجتماعيّة، أنت تعلم؛ أنا معادٍ لغير الاجتماعية”.
21 تمّوز/ يوليو
تسبّب إصدارات كل من لوكاش، كوريللا وآخرون لبريشت قدراً كبيراً من المتاعب. وهو يعتقد، مع ذلك، أنّه لا يجب على المرء الاعتراض عليها على المستوى النظري. قمت بطرح السّؤال على المستوى السياسي. فهنا سيتحدّث بصراحةً ودون مواربة. الاقتصاد الاشتراكيّ لا يحتاج إلى الحرب، ولذلك فهو معارض لها. “إنّ الطبيعة المحبّة للسلام التي يتمتّع بها الشعب الروسي” هي تعبيرٌ عن هذا ولا شيء غيره. لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد اشتراكي في بلدٍ واحد. لقد كان طريق السّلاح بلا أدنى شك سبباً في تراجع البروليتاريا الرّوسيّة أشواطاً إلى الوراء، وبالعودة إلى مراحل التطور التاريخي فقد تجاوزت منذ فترة طويلة -من بين غيرها- مرحلة الحكم الملكي. وتخضع روسيا اليوم للحكم الفردي. الأغبياء فقط هم الّذين ينكرون هذا، وبالطّبع. “كانت هذه محادثةً قصيرةً ما لبثت أن قُطعت – ويجدر بالذّكر أنّ بريشت أكّد في هذا السّياق أنه كنتيجةٍ لتفكّك الأمميّة الأولى، فقد كلٌّ من ماركس وإنجلز الاتصال الفعّال مع حركة الطّبقة العاملة، وبعد ذلك اكتفيا فقط بإعطاء مشورة – ذات طابع خاص، وغير معدّة للنشر – إلى القادة الأفراد. كما أنها لم تكن مصادفةً – أنّ إنجلز، اتّجه في آخر حياته إلى العلوم الطبيعية. بيلا كون، قال: كان من أشد المعجبين به في روسيا. حيث أنّ بريشت وهاينه كانا الشاعرين الألمانيين الوحيدين اللذين درسهما. (في بعض الأحيان كان بريشت يلمّح إلى وجود من يناصره ويدعمه في اللجنة المركزية.)
25 تمّوز
زارني بريشت صباح أمس ليلقي عليّ قصيدته الستالينيّة، التي حملت عنوان “من الفلاح إلى ثوره”. في البداية لم أفهم المعنى تماماً، ولكن بعد لحظة، عندما فكّرت بستالين، لم أجرؤ على الاستمتاع بها. ولم يكن هذا إلّا التأثير الّذي أراده بريشت، ثم في المحادثة التي جرت لاحقاً، أوضح لي ما كان يقصده. في هذا النقاش، كان تركيزه من بين مجملِ الأمور، على الجوانب الإيجابيّة للقصيدة. في الواقع كانت القصيدة تكريماً لستالين، الذي يعدّه ذو فضلٍ عظيم. لكن ستالين لم يمت بعد. إلى جانب ذلك، فإنّ الإتيان بطريقة مختلفة وأكثر حماساً لتكريم ستالين ليست واجباً على بريشت، هو الّذي يجلس في المنفى وينتظر تقدّم الجيش الأحمر. إنّه يتابع تطورات الأحداث في روسيا بشكلٍ مستمر، كما يتابع كتابات تروتسكي. هذا يثبت وجود ارتياب –يمكن تبريره- في المطالبة بتقدير الشّك في الشؤون الروسية. شكوكٌ كهذه هي من صُلب الكلاسيكيات الماركسيّة. يجب إثبات صحّة هذا الشّك يوماً ما، عندئذٍ سيصبح بحدّ ذاته أمراً ضروريّاً لمحاربة النظام، علانية. ولكن، ’لسوء الحظ’ أو أنّ الله شاء، اختر ما يناسبك”، لم يصل الشّك في الوقت الحاضر إلى حدّ اليقين. لا يوجد أي مسوّغ لبناء سياسةٍ على أساس هذا الشّك كما فعل تروتسكي. “ثمّ ممّا لا شكّ فيه أن بعض الزّمر الإجرامية هي حقاً صنيعُ روسيا نفسها. يمكن للمرء أن يرى ذلك، من وقت لآخر، من خلال الضّرر الذي تحدثه.” وفي النهاية أشار بريشت إلى أنّنا نحن الألمان تأثّرنا إلى حدٍّ كبير بالانتكاسات التي عانينا منها في بلدنا. “كان علينا أن ندفع ثمن الموقف الّذي اتّخذناه، فنحن الّذين تغطّينا الندوب. من الطبيعي أن نكون حسّاسين للغاية.” ومع حلول المساء وجدني بريشت في الحديقة أقرأ رأس المال. بريشت: “أعتقد أنّه من الجيّد جداً أن تدرس ماركس الآن. في وقتٍ أصبح فيه الناس يقرؤون أعماله بدرجةٍ أقل، وخصوصاً بين أبناء شعبنا”. أجبته بأنّني أفضّل دراسة أهمّ أعمال الكتّاب عندما تكون خارج إطار الدّارج. ذهبنا إلى مناقشة سياسة الأدب الروسيّ. قلت، في إشارة منّي إلى لوكاش، غابور وكوريلّلا: “هؤلاء النّاس هم أبعد ما يكونون عن الكتابة عن الوطن” (حرفياً: مع أناسٍ كهؤلاء لا يمكنك أن تبني دولة). بريشت: “أو بالأحرى، الدّولة هي كل ما تستطيع بناءه بوجود أشخاص مثلهم، إلّا أنك لن تكون قادراً على بناء مجتمع. فهؤلاء، ولنتكلّم بصراحة، أعداء الإنتاج. فالإنتاج يشعرهم بعدم الرّاحة. أنت لا تعرف أبداً أين أنت مع الإنتاج؛ الإنتاج هو أمرٌ غير قابلٍ للتوقّع. أنت لا تعرف أبداً ما الّذي سوف يحصل. وهم أنفسهم لا يريدون الإنتاج. يريدون أن يلعبوا دور الأباراتشيك (مصطلح روسي يشير إلى موظّف محترف في الحزب الشيوعي) وأن يمارسوا السّيطرة على غيرهم من الناس. كلّ واحدٍ من انتقاداتهم يحمل تهديداً ” وصلنا بعد ذلك إلى روايات غوته، لا أذكر كيف. كان بريشت يعرف رواية “التشابه الاختياري” (الرّواية الثالثة لغوته) فقط. وقال أنّ أشدّ ما أعجبه فيها هو الأسلوب الشّاب للكاتب. وقد أُصيب بالدّهشة عندما أخبرته أنّ غوته كتب هذه الرواية في سن السّتين. قال:لم يكن في الكتاب شيءٌ محافظ. كان ذلك إنجازاً هائلاً. كان يعرف شيئاً أو اثنين عن التحفّظ؛ وكلّ الدّراما الألمانية، بما في ذلك أكثر الأعمال أهميّةً، كانت موسومة بذلك. أشرت إلى أنّ رواية “التّشابه الاختياري” لاقت أصداءً سيّئة للغاية عندما صدرت. بريشت: “أنا سعيد لسماع ذلك –الألمان أمّةٌ حقيرة –(شعب الخراء). ليس صحيحاً أنّه لا يجب على المرء أن يستخلص الاستنتاجات عن الألمان بشكل عام من هتلر. بالنّسبة لي، أيضاً، كل ما هو ألمانيّ منحط. الشيء الذي لا يطاق عنا نحن الألمان هو استقلالنا ذو الأفق المحدود. لم يكن هناك في أيّ مكان شيء كمدنِ الرّايخ الألماني الحرّة، مثل أوغسبورغ الحقيرة. كما أن ليون لم تكن مدينةً حرةً قط. كانت المدن المستقلّة في عصر النهضة مدناً رئيسة – اختار لوكاش أن يكون ألمانيّاً. لقد فُرِّغ تماماً من حشوته، لا شيء فيه على الإطلاق “.
وبالحديث عن “أجمل أساطير ووينوك قاطع الطرق” للكاتبة آنّا سيغرز، فقد أشاد بريشت بالكتاب لأنه يظهر أنّ سيغرز لم تعد تكتب حسب المطلوب. “لا يمكن لسيغرز أن تنتج حسب المطلوب، فقط، من غير قوانين، لن أعرف حتّى كيفيّة البدء بالكتابة”. كما أشاد بالقصص كون الشّخصيّات المحوريّة فيها كانت ذات هيئةٍ متمرّدة ومنعزلة.
26 تمّوز/ يوليو
بريشت، الليلة الماضية: “لا وجود لأيِّ شكٍّ في ذلك بعد الآن: الصراع ضدّ الأيديولوجية أصبح أيديولوجيّة جديدة بحدّ ذاته “.
29 تمّوز/ يوليو
يقرأ بريشت لي بعض النصوص الجدلية التي قام بكتابتها كجزء من خلافه مع لوكاش ، ودراسات للمقال الذي سينشر في Das Wort. و قد طلب نصيحتي بما يخصّ نشره. كما، وفي الوقت نفسه، قال لي أنّ موقف لوكاش 'هناك' قويٌّ جداً الآن، قلت له إنني غير قادر على تقديم النصح له. “هناك أسئلةٌ من السّلطة المعنيّة. يجب عليك الحصول على رأيِ شخصٍ ما من هناك. لديك أصدقاء هناك، أليس كذلك؟”- بريشت: ’في الواقع، لا، ليس لدي. ولا حتّى سكان موسكو أنفسهم – إنهم مثل الموتى.‘
3 آب/ أغسطس
في مساء التاسع والعشرين من تمّوز، وبينما كنّا في الحديقة أفضت المحادثة عن السّؤال عمّا إذا كان ينبغي إدراج جزء من Children’s Songs في مجلّد القصائد الجديد. لم أكن مع ذلك الأمر لأنني اعتقدت أن التناقض بين القصائد السّياسيّة والخاصة جعلت تجربة المنفى مبسطةً للغاية، وسوف يتضاءل هذا التناقض عند إدراج سلسلة متباينة. وبقولي هذا قد ألمّح إلى أنّ اقتراح هذا الأمر مرة أخرى عكَس الجانب الضّاري في شخصية بريشت، الذي يضع كل شيء تقريباً قبل أن يتم تحقيقه في خانة الخطر. بريشت: “أعرف؛ سيقولون عنّي أنني كنت مهووساً. إذا تمّ توريث تاريخ حاضرنا إلى المستقبل، فلا بدّ وأنّه سيتمّ توريث القدرة على فهم هوسي معه. إنّ الزمن الذي نعيش فيه الآن سيوضّح سبب هوسي. ولكن ما أود حقاً أن يقوله الناس عنّي: لقد كان معتدل الهوس. 'قال بريشت أنّ اكتشافه للاعتدال يجب أن يكون واضحاً في مجلّد الشعر: الإقرار بأن الحياة تستمر رغماً عن هتلر، إذ سيكون هناك دائماً أطفال. كان يفكّر في “عصر بلا تاريخ” حيث كان يتوجّه في قصيدته إلى الفنانين. بعد بضعة أيّام قال لي إنه يعتقد أن احتمال مجيء عصرٍ كهذا هو أكبر من احتمال الانتصار على الفاشيّة. ولكنّه أضاف، وبحماسٍ قلّما أظهره، مبررٌ آخر لصالح إدراج Children’s Songs في “قصائد من المنفى”: علينا ألّا نتجاهل شيئاً في نضالنا ضد ذلك (الفاشيّة). ما يخطّطون له ليس بالأمر الصغير، علينا ألا نخطئ حيال ذلك. إنّهم يضعون خططاً لثلاثين ألف سنة قادمة. أمور ضخمة. جرائم هائلة. لا شيء يقف في وجهها. هدفهم تدمير كلّ شيء. كلّ خليّة حيّة تخضع لضرباتهم. ولذلك علينا أخذ كلّ شيءٍ بالحسبان. فهم يقتلون الطفل في رحم أمّه. علينا وبأيّ طريقة أن نترك الأطفال خارج هذا. “عندما كان يتكلم بهذه الطريقة شعرت بقوّة تمارس عليّ لا تقلّ عن قوة الفاشية- ما أعنيه هو أنّ القوة التي انطلقت من أعماق التاريخ لا تقلّ عمقاً عن قوة الفاشيين. لقد كان شعوراً غريباً جداً، وجديداً بالنسبة لي. ثم اتّخذت أفكار بريشت منحىً آخر، ممّا عزّز هذا الشعور لدي. “إنهم يخططون للخراب بكل برودة. هذا سبب عدم قدرتهم على التوصل إلى اتّفاق مع الكنيسة، التي هي بدورها أيضاً موجّهةٌ لآلاف السنين. ولقد جعلوني بروليتاريّاً أيضا. ليس فقط أنّهم أخذوا منّي منزلي، بركة الأسماك وسيارتي. بل حرموني أيضاً مسرحي وجمهوري. وحيث أنا اليوم لا أستطيع، كقضيّة مبدأ، أن أعترف بأن موهبة شكسبير كانت أعظم من موهبتي. ولكن شكسبير لم يستطع أن يكتب ليخفي كتاباته في درج مكتبه، أكثر مما أستطيع. بالإضافة إلى أنّه، كان يملك شخصياته أمامه، وكان الأشخاص الّذين صوّرهم حقيقيين وموجودين في الشوارع. وكلّ ما فعله أنّه لاحظ سلوكهم واختار بعض الصفات؛ كان هناك آخرون، وبنفس القدر من الأهميّة، إلّا أنه لم يترك مكاناً لهم.
أوائل آب/ أغسطس
“هناك في روسيا، ديكتاتوريّة مفروضةٌ على البروليتاريا. وعلينا تجنّب فصل أنفسنا عن هذه الديكتاتوريّة طالما أنها لا تزال تعمل بشكلٍ مفيد للبروليتاريا – أي طالما أنّها تسهم في التوصّل إلى اتّفاق بين البروليتاريا والفلّاحين، مع الاعتراف العام بمصالح البروليتاريين”. وبعد بضعة أيّام تحدث بريشت عن ملكيّة العمّال، وقد قمت بمقارنة هذا النظام مع بعض الرياضات الغروتسكية للطبيعة المجروفة من أعماق البحر على شكل أسماك بقرون أو غيرها من الوحوش.
25 آب/ أغسطس
قول بريشتي- مكسيمي : “لا تبدأ من الأشياء القديمة والجيّدة بل لتكن البداية من الأشياء الجديدة والسيّئة.”
____________________________________________
الأداء التمثيلي في المسرح الملحمي.[1]
______________________________________________
هذه الأحاديث مأخوذة عن مجلة “نيو لفت ريفيو” New Left Review عدد شباط/فبراير 1977. وقد ترجمتها إلى الانجليزية آنّا بوستوك.
*****
خاص بأوكسجين