العيون الحزينة في باب توما
العدد 285 | 1-4-2024
زياد عبدالله


في ذكرى رحيل محمد الماغوط في الثالث من نيسان 2006

 

لم يعثر محمد الماغوط على تلك “التلة المرتفعة” التي ظل يبحث عنها ليعلن عليها راية استسلامه، لم يجدها في الوطن ولا في مكان آخر. وظلت العيون الحزينة في “باب توما” ترمقه، وقد باتت أكثر حزناً، لا بل تفجعاً، بينما دموعه زرقاء من كثرة ما نظر إلى السماء، وصفراء من طول ما حلم بالسنابل الذهبية.

رحل “البدوي الأحمر”، وبقيت قصيدة النثر بمجموعاته الشعرية الأولى الثلاث ناجية من كل محاولات ترويضها، كانت قصيدته من البرية والانعتاق ما يجعلها في لحظة رعوية لكنها لا تعرف إلا المدن، ولا تخرج إلا من غرف صغيرة يسلخ عن جدرانها ثيابه كما “الثوار المشبوهين”. شاعر مسكون بالأزقة والمقاهي والحانات، تلاحقه بلدته “السلمية”، من دون أن يقوى على مفارقة دمشق، التي حين غادرها إلى باريس لإجراء عمل جراحي وضبط متلبساً في مقاهيها غارقاً بملذات ما يعارض وضعه الصحي، قال “ليس في مقدوري هنا أن اكتب رسالة”.

الشاعر أولاً وأخيراً، وبعيداً عن المسرح و”العصفور الأحدب” الذي سيندرج ثانياً، وصاحب مقالات لن تنسى ما دامت تشبه وضع “أليس في بلاد العجائب”، عنوان مقاله  في مجلة “المستقبل”، والتي أمضى في واحدة  منها يتشكى من كافة الأمراض النفسية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يعاني منها بوصفه عربياً، إلى أن وصل عيادة وزير الخارجية الأميركي كسينجر على أمل أن يشفيه ليقول له هذا الأخير “اختصاصي معالجة الأنظمة لا الشعوب”.  كان الماغوط مأزقاً لكل مطبوعة  كتب فيها، وتهكماً حاداً وثاقباً يحفر عميقاً في “الجبهة المركزية” التي هي نفسها “التدفئة المركزية” ولا نجاة من البرد في هذا الوطن الممتد من الماء إلى الماء.

لم يكن معنياً بأي قالب نظري، وظلت مساهمته في مجلة “شعر” عبر القصيدة والقصيدة فقط لا غير، مشغولا حينها كما يقول بـ “جوع أبدي” كان يدفعه إلى التهام كل ما تحتويه ثلاجة يوسف الخال بينما ينغمس الخال وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وباقي الجوقة بحوارات وتنظيرات القصيدة العربية الحديثة التي كانت تتشكل في خميس “مجلة شعر”.

كان الماغوط أغصانا مجبولة على الأنين، وأخرى يتسلقها الأطفال، بقدرة غرائبية على اجتراح الضحك المتبوع بتجهم، هو الذي قالها “سأخون وطني”، وكان يضحك ويُضحكنا محاصراً بـ “غرفة بملايين الجدران” ومصراً على أن “الفرح ليس مهنتي” وأنه صاحب “حزن في ضوء القمر”، كانت ضحكته مجلجلة بينما يعد ملفاً ضخماً عن العذاب.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.