سألوني أن أكتب عن نجيب محفوظ في ذكرى وفاته التي صادفت الثلاثين من آب/أغسطس، قلت وماذا سأكتب عنه؟
سألت نفسي مراراً ولم أجد بداً من أن أعتذر، إلا أن هذا الاعتذار لم يوقف سؤالي لنفسي: وماذا سأكتب عنه؟
لم تكن حيرتي هنا قادمة من كوني لا أملك ما أقوله عنه، بل لكثرة ما لدي، وامتد الأمر إلى اكتشاف أنني لم أكتب عنه يوماً سوى مقال عن علاقته بالسينما، وقد باءت بالفشل كل محاولاتي العثور على ذلك المقال، ومع ذلك أتذكر أنني خصصت المساحة الأكبر من المقال لـفيلم توفيق صالح “درب المهابيل” والذي شاركه محفوظ كتابة السيناريو، وكيف أن صلاح أبو سيف هو من ورطه في كتابة السيناريو “في سنوات اليأس الأدبي”، ومعلومات أخرى اقتبستها من حوار يوسف القعيد معه في سبعينات القرن الماضي عن تجربته السينمائية.
كان فيما تقدم اختبار للذاكرة لا بأس به، ودافعاً لي لأضع كل ذلك جانباً وأمضي في مسار يجنّبني تزاحم الأفكار المتصلة بأدب محفوظ المترامي، والغرق في تنظيرات لا طائل منها، والمضي خلف علاقتي الشخصية معه، وكل روايته وقصصه متراصة في مكتبة أبي، بتلك الأغلفة العجيبة التي رسمها وصممها جمال قطب، الأشبه بأفيشات السينما وأغلفة الألغاز، مركزاً فيها على صور الشخصيات التي كانت تدفعني في مرات كثيرة إلى مطابقة تخيلي لها مع صورها على الأغلفة.
كان أبي حريصاً أن يشتري كل جديد لمحفوظ، ولا أعرف لماذا كان يقوم بشرائها بشكل خاص من مكتبات حلب، ولعل الساعات الطويلة التي كان يختفي بها هناك بين المكتبات ومقهى القصر، كانت تعني بالنسبة لي بأنه سيعود إلى بيت جدتي ومعه كتاب جديد لمحفوظ، قرأ نصفه أو أكثر في المقهى، وأول ما سيقوم به لدى عودته هو مواصلة قراءته إلى أن يجهز عليه، هذا وكلما تذكرت ذلك تحضرني ذكرى عودته بروايتي “يوم قتل الزعيم” و”العائش في الحقيقة”، وكم كان سعيداً بهما.. أعرف الآن أنهما صدرتا عام 1985 أي أن عمري كان حينها عشر سنوات.
تمترست في مراهقتي خلف مكتبة أبي، وبدا العالم يقع خلفها، وصار التهام ما تحتويه من كتب كثيرة على شيء من الجنون، ولعل ذلك كان مصدر سعادة بالنسبة لأبي، سرعان ما أمسى قلقاً، حين صرت أتراجع في المدرسة ويجدني أتظاهر بالدراسة وأنا أضع كتاباً من مكتبته داخل كتاب المدرسة.
لكنه استسلم سريعاً لهذا الواقع، وبدت معارضته هذا الانجراف المهلك معارضة واهية، وربما ممارسة لا محيد عنها لدوره كأب من دون اقتناعه تماماً بصواب هذا الدور، هو الذي أخذني إلى “مكتبة بيطار” في اللاذقية وتركني أشتري ما أرغب به من كتب منفقاً كل الحوافز التي كانت تأتي زيادة على راتبه الوظيفي، ومن ثم تطور الأمر وصار يضع اسمي على الكتب التي يجلّدها تجليداً فنياً، وهكذا صارت رواية هنري بربوس “الجحيم” بتجلّيد أحمر يحمل اسمي، و”أرض البشر” انطوان دي سانت أكزبوري وغيرهما من الروايات.
بقي نجيب محفوظ نقطة خلافية بيني وبين أبي، وهو يقول لي “عليك أن تقرأ محفوظ!” وأنا لا أقرأه، ولا أجده هاماً، لا بل كنت أجده رصيناً، وكل هوسي منصبٌ نحو تأجيج كل ما يشوش حواسي، ويجعل ليلي نهاراً ونهاري ليلاً، وكان الأدب هو الشعر والجنون، وكل ما يدفع للانتحار، وقد كان كل ما أكتبه غارقا بالعبث وعدم الجدوى، وما إلى هنالك من أحزان المراهقة الشفيفة، والإيمان بالحب المدمر، وصراعات الحواس مع الروحانيات، ولم يكن أسهل من استبعاد محفوظ عن ذلك، ولم أقرأ له حينها سوى “المرايا” وربما “ثرثرة فوق النيل”، لكن أبي قال لي يوماً “لن أسمع رأيك بمحفوظ ما لم تقرأ له ثلاثيته والحرافيش وأولاد حارتنا” وحين فعلت، لم أتردد في أن أعتذر منه عن كل آرائي الصبيانية السابقة.
لم يحسم العبث أمره، وما زالت التدميرية حاضرة بقوة أروّضها وتروّضني، ومحفوظ حاضر على الدوام وقد أقدمت في السنوات الثلاث الأخيرة على إعادة قراءة محفوظ من جديد وأنا اشتري طبعة “دار الشروق” في دبي، وظلت متعتي الكبرى أن أقرأه أثناء زيارتي اللاذقية بنسخ مكتبة أبي، بأغلفة جمال قطب ورائحتها الممتزجة بأثر عطر رجالي، بينما تحاصرني كتب مكتبته وقد صارت نصفها تحمل اسمي، في آخر زيارة لي قرأت “حضرة المحترم” و”ليالي ألف ليلة” و”رحلة ابن فطومة”، ولا أعرف لمَ أحضرتها معي إلى دبي مع أني كنت قد اقتنيتها بطبعاتها الجديدة.
ما زال الإيمان بالحب المدمر على حاله، والأحزان الشفيفة ترهقني وتراهق بي، وليلي نهار ونهاري ليل، ومحفوظ جزء من ذلك، محفوظ الحكواتي المدهش، الذي تجري في عروقه القصص والحكايا والروايات، والمجنون لا محالة وقد رحل عن 33 رواية و13 مجموعة قصصية و56 فيلماً كتب لها السيناريو أو القصة أو اقتبست من أعماله، وعوالمه تتلامح وشخصياته تتدافع بالمناكب بمجرد أن يتوارد في الذهن، وتتبدى صورته وذاك الثؤلول يمين أنفه ونظّارتيه الداكنتين وقد عاش كل حياته لكي يروي.