لابد أنها أزمنة ثقافية مدهشة تتبدى فيها الشعبوية منجزاً لا منازع له، وأن اللهاث وراء التطريب خرقاً إبداعياً يستدعي الاحتفاء، على مبدأ ما يطلبه الجمهور، وبالتالي يتأتى الفعل الثقافي الخارق من خلال ركوب موجة الجماهير أو الشعب وتوليف الخطاب وفقاً للحالة الجمعية المتأتية من التجييش والاشتغال على الأدرينالين ومنسوبه، وصولاً إلى النخاع الشوكي واستبعاد الدماغ بوصفه عضواً مزعجاً في هذه المرحلة التاريخية المصيرية، واعتبار أن الثقافة الثورية ليست إلا فعل رطانة تطريبي عليه أن يكون خال تماماً من النقد، على اعتبار النقد مثله مثل الدسم الذي يتسبب بزيادة الوزن وبالتالي إعاقة الحركة.
إن أي فعل ثقافي ليس بإشكالي أو نقدي هو محض هراء، إن التعامل مع المعطيات والمتغيرات والوقائع تحت مظلة المطلق هو التفاهة بعينها وإن كان الأمر مدعاة للنجومية، كما أن التجريد لم يعد يجدي نفعاً حين يكون الواقع فادحاً إلى هذا الحد، وإن كان هناك من يعتبر نفسه في خانة الحق فبإمكان أي أحمق أيضاً أن يكون في الحق، ولكل حقه في أن يكون الحق طالما أن الأمر لا يستدعي إلا التكرار والجمل الإنشائية وتشييد القصور في الهواء.
إن الآليات التي استخدمت في معاينة المتغير في عالمنا العربي عند من يطلق عليهم مجازاً “النخبة” لا تفارق الديني، إنها تماماً على مبدأ الخير والشر ولا ثالث لهما، وما كانوا يعتبرونه شراً يصبح خيراً والعكس صحيح، من دون أدنى مراجعة أو توضيح أو إيهام بأن لنا عقولاً، تماماً كما الذين آمنوا وأشركوا وكذا دواليك، تماماً كما تلك الأنظمة المتوحشة التي تتعامل والدماغ بوصفه رجل الديك الثالثة.
هناك جحافل من المثقفين ممن لم يخرجوا بفكرة تحمل ذرة إبداع واحدة وقد وصموا بالحكمة، لا بل هناك من تسببوا بكوارث وهم يلهثون للحاق بمن يعتبرون أنهم ممثلين عنهم ولا أحد منهم قد سمع بهم أصلاً، ويضاف إليهم المتذاكون الذين يلتقطون مفارقة في البديهي، لكنهم يكتبون ذلك بفهلوية المتلاعب بالكلمات، لدرجة أن إعادة تعريف الالتقاطة الذكية صار بحاجة ماسة لإعادة تعريف.
إن أوكسجين التي قامت على مبدأ مناهضة الوصفات الجاهزة، يضيقُ بها أولئك الذين لا يفعلون شيئاً إلا صياغة تلك الوصفات الجاهزة التي تقول لنا عن الديكتاتور إنه ديكتاتور، وأن الوحش وحش أيضاً، ولسان حالنا يصرخ ألا إننا نعرف، أما من جديد، أما من شيء يضيء في هذه الحلكة القاحلة، أما من مشروع أو فكرة تخرج عن سياق حلقات اللعن.