الحنين مقتلة
العدد 211 | 02 أيار 2017
زياد عبدالله


 

أسمع المطر يضرب بغزارة نافذتي، لا ألتفت إليها، ولا أتحرى صواب هكذا وهم! وهل جننت لأطالبه أن يكون صائباً؟ حين أخرج من البيت تصفعني الشمس بسياطها، مردداً لقد انتصرت الشمس على الغيوم، وأوصلت درجة الحرارة إلى أربعين، لقد خانني الطقس مجدداً وخرجتُ في اللحظة الخطأ، ولا ألوم إلا نفسي.

أقتات على الوهم. أتجنب الحنين. الأول نجاة، الثاني مقتلة، الحنين لأرض صارت المقتلة. إن وهنت عزيمتي واستسلمت للحنين أتشبث بالوهم، أجد نفسي راكضاً في شوارع ماطرة فارقتها منذ أكثر من سبع عشرة سنة، عاشقاً صاخباً لا يوقظ إلا قلبه، تتسارع دقاته، تتعالى، أصرع ما يحول بيني وبينها.

الخريف أيضاً تليق به القطارات، أستقلها، وحين أصل، دائماً ما يكون هناك خريف، في الصيف خريف، في الربيع،  وهبة هواء خفيفة كفيلة يأن أجهش بالبكاء، وكل ما أراه ينحتني، والمسافرون والمارة يمشون في شراييني، ووقع خطواتي يتردد صداه في المجهول الشيّق المرتقب الأليف.

أتذكر رحلتي تلك وأنت على يميني، أسندت رأسي إلى كتفك فأدنيتني منك أكثر، كانت ذراعك قوية، وكم غالبت موجة بكاء عارمة هبطت عليّ، وحين تخللت يدك شعري انتصرت الدموع وصرت أردد في سري المقطع الأخير من قصيدتي”مدرسة”*:

لا تتذكر الآن

عُدْ إلى غرفتكَ

عليكَ أن تثقب الكون

وتتلصص على الله

تراقبه

تتعلم منه

الوحدة والانتظار

عليكَ أن تكون

أجمل من التراب لتطأه.

لا بل

أجمل من الله لتعبده.

 

ما من قطارات هنا! أقتات على الوهم. أتجنب الحنين.

—————–

* كتبت هذه القصيدة عام 1995 ونشرت في كتاب زياد عبدالله الأول “قبل الحبر بقليل” 2000


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.