ثمة أمور لا تتغير في هذه الحياة، مثل الساعة التي تأذن ليوم جديد بعد الثانية عشرة ليلاً!
هذا مصدر إرباك أبدي بالنسبة لي على الأقل! كيف لهذا التوقيت أن يقرر يوماً جديداً من دون أن ينجح في تكوين ما يوحي بذلك، ففي الثانية عشرة ليلاً أكون في ذروة اليوم الذي من المحال أنه انقضى.
لا بد من اختراع درجة إضاءة جديدة تأذن بانقضاء يوم لا هي شروق ولا غروب ولا ليل، أما أن يكون الأمر مجرد رقم على ساعة رتيبة، فذلك قمة الإجحاف والتجريد.
ثمة شؤون أخرى لا تتغير، وظائف وأعمال مكرورة وممطوطة إلى ما لا نهاية، تتبع نهج المحللين الرياضيين والسياسيين والعسكريين، وهؤلاء يجلدوننا آناء الليل وأطراف النهار بتحليلات واستنتاجات لا تصيب، ملؤها الكذب أو الجهل، ومع ذلك يمسحون كل ما قالوه عن مباراة أو أزمة أو معركة، وينتقلون إلى أخرى، معاودين تلفيقهم من جديد.
ثمة أيضاً بشر لا يتغيرون، يتغير كل شيء حولهم وهم على عهدهم باقون مهما بلغت درجة تفاهته، وهذا كفيل بانتصار الشخصية المسطّحة، وإلحاق هزيمة بتلك المتغيرة الجميلة (الدرامية بحق)، ومع امتداد السنوات التي عشتها على هذه الأرض، يمكنني القول إن في ذلك محاكاة للواقع الذي نحن فيه، لا بل إن إبقاء الأمور على أحوالها بات – يا للمفارقة والمأساة – مطلباً، أمام هول أي تغيير وهو يعود بنا عشرات لا بل مئات السنوات إلى الوراء. وفي هذا الصدد ثمة حلّ ناجع توصلت إليه عبقريات خارقة في هذه المنطقة العظيمة، متمثلة بالتقليد، والقضاء على أي ذرة ابتكار أو إبداع قد يوحي بها ذهن أو صوت أو إيماءة، وأضرب مثلاً بمؤسسة كبرى بقنوات تلفزيونية كثيرة ومنصات عرض، أمست وصية على الإنتاج الدرامي والسينمائي والفني في العالم العربي، بعد توصلها منذ زمن طويل إلى وصفة سحرية، تتمثل بإعادة إنتاج ما هو منتج في الولايات المتحدة والمكسيك والهند وتركيا، وهي تصرخ بالفم الملآن، ونجاحها هو معبرها إلى هذا الصوت العالي: لا تبدعوا ولا تعذبوا أنفسكم، نحن نجد لكم ما يمكنكم تقليده والسلام. نحن نقدّم لكم كل ما هو مسطّح وجاهز ومعدّ، وكل ما عليكم القيام به هو الإدمان على هكذا برامج ومسلسلات.
وهذا مثال من بين أمثلة كثيرة، شكّلت واقع الثقافة والتلقي في هذه البقعة التي حُوّلِت بقدرة المقتدرين مالياً إلى بقعة مجدبة لا تبدع ولا تنتج إلا ما هو مقلّد، ولسان حالها يقول، ولكم في كل ما هو “فرنجي برنجي” حياة يا أولي الألباب، وإياكم أن تقربوا واقعاً أو تتكلموا بما هو حقيقي أو يقارب بشراً يعانون ما يعانون! ويا لها من مآسي كثيرة ومتنامية ومترامية حولنا، فإياكم ثم إياكم أن تفكروا بتناولها، والويل والثبور لمن يفعل!
ثمة أشياء لا تتغير أيضاً، لكن على نحو مناقض لما أسلفت، مثل إيماني بأن “التفكير تغيير” على رأي برتولد بريشت. ثمة أشياء لا تتغير على صعيد إصراراها على التغيير والتجديد كما هي أوكسجين وما هي ماضية به من إصدار كتب تناهض المسطّح والمقلّد والملفّق، وتؤكد من خلالها أن للإبداع موطئ قدم في بقعة مترامية فُرض عليها قسراً اللا إبداع.