أكتب إليكم من جبل القلق الشاهق
العدد 279 | 22 أيلول 2023
زياد عبدالله


السيطرة على القلق معركة خاسرة. الانتصار عليه ضرب من الخيال.

 ربما الأجدر تسميتها مناوشات، أخذ وردّ، وفي غالب الأحيان مسعى إلى رفع رايةٍ بيضاء على جبل القلق الشاهق.

توصلتُ إلى ذلك منذ زمنٍ طويل، فأعلنتُ استسلامي من دون قيدٍ أو شرط، وبهذا هيمن عليّ القلق هيمنةً مطلقة، وأبقاني على جبله الشاهق أستظل رايتي البيضاء. تعايشتُ مع هزيمتي تلك، ورحتُ أشذِّب القلق، أروِّضه بالكتابة.

روضتْ الكتابة قسماً يسيراً منه، فتمادى باحتلالي أكثر، البادي مني والمتواري، السحيق والطافي، وأنا أصاحبه بالكتابة وهي تزود عني ويقبلها! وهو للأمانة لم يناصب الكتابة العداء ولو لمرة واحدة، بل اعتبرها بدايةً رفيقته، ومن ثم حبيبته، وصولاً إلى معبودته التي لا يستطيع الصمود للحظةٍ من دونها.

طبعاً لم أتخلّ عن الكتابة لأتخلَّص من القلق، بل بتُّ حيال خلطةٍ عجيبة مكوِّنها الكتابة والقلق، وكلما فرغتُ من روايةٍ أو مجموعة قصصية قلقتُ أكثر جراء ما سيليها من رواياتٍ أو قصص، وإن تعلَّق السؤال بماذا سأروي، فثمة الكثير، لكن كيف سأروي؟ هو السؤال الذي يجده القلق لائقاً به، فيحضر بكل عتاده وعنفوانه ويجعل خلاياي ترتطم ببعضها، لحين عثوري على شكلٍ جديد أو تكنيك مغاير عن ما سبق، وفي حال طال الأمر، فإنه يخلق – أقصد القلق طبعاً- فجوات أشبه بالثقوب السوداء ويدعوني إليها، أو أنها تجذبني إليها، وتغويني بعوالمها الغريبة فأغرق بها وإشراقاتها، وأجول في أرجائها مستكشفاً عوالم جديدة، ويا لي من كائن ضعيف أمام أي شيء جديد، فأقول لابدَّ من الكتابة عنها، لابدَّ من خوض غمارها وتوثيق ما كنت أجهله فأصبحت بنعمة من القلق عليماً بها، فأجدني ألاحق الغرناطي والقزويني كما لو أنني ابن القارح في رسالةِ أبي العلاء أو فيرجيليو في كوميديا دانتي الإلهية، فأخرج منهما بكتاب أولّف فيه عوالمهما العجيبة الغربية وأطلق عليه اسماً عجيباً غربياً “لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلا زرقتها”، أو أنقِّب عن الضحك في التراث العربي فأجدني أضع الإسلام إلى جانب الضحك، أو أترجم فأجد بين يدي طرق رؤية جون برجر كتاباً، وكذا قصص شيرلي جاكسون وأنا على الدوام “محترقاً في الماء غارقاً في اللهب” الذي ترجمته حين كنت طالباً في الجامعة، وكل ذلك رفقة مقالات لا أعرف لها عدداً، تارة في استراقاتي في أوكسجين، وأخرى في ثلاث صحف كتبت فيها عن السينما والأدب، وفي واحدة منها كنت أكتب خمس مقالات أسبوعية عن فن السينما العظيم، ولسبع سنوات وضاءة بالشاشات وأنا أنتقل من صالة مظلمة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر وعيني على تلك الشاشات التي سحرتني بما يطفو عليها من أفلام.

الآن لم أعد في وارد معركة خاسرة أو مظفرة مع القلق، فهو خارج نطاق السيطرة كما أسلفت من البداية. ومع مرور كل هذا الزمن وإيغالي في الكتابة، أصبح القلق مظهراً ثابتاً، سمة راسخة، ولم أعد أميزه من كثرة تماهيه مع الكتابة، وهو يستحثني لأبدأ من الصفر دائماً، وكل كتاب بداية، كل كتاب عالم جديد تماماً، أو كما هو شعار أوكسجين: مع كل نفس بداية.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.