امرأة تتدلى من غيمة
العدد 170 | 02 نيسان 2015
أمينة الحسن


تركت وعيي حراً طليقاً، و فتحت أبواب ذاكرتي الخلفية، وتخليت عن وصايتي على أصابعي لتختار من حروف (الكيبورد) ما تشاء.

اعتبروا ما كتبت أدناه أي شيء أو لا شيء.

 

(1)

رؤيتي لامرأة مسنة في مكان مقدّس مسجد أو كنيسة حتى، يستفز فيّ كل كينونتي. يدهشني الغرق الذي تملكه، و نظراتها نحو نقطة في آخر المدى. ترتدي ملابسا فضفاضة، و وشاحا يغطي بياض شعرها، و جزءا من عنقها المليء بالإنكسارات.لا أحس بوهج رغبة ما فيها، إنها في مرحلة الفرار، لا تريد أي شيء سوى أن تغادر بسلام -و إذا كتب الله لها عمرا – فهي أيضا تريد أن تعيشه بسلام يحيط بها أولادها و أحفادها. تخشى الفقد و لكنها لا تخشى أن تُفقد، تدرك أنها لم تعد كما كانت، حتى لو كان شعورها مجرد وهم ناتج من حساسيتها المفرطة تجاه سلوكيات الآخرين معها، و التي بدرت منهم دون وعي تام بحساسيتها تلك. كل دعواتها بعد دعوتها بحسن الخاتمة أن يحفظ اولادها أن يرزقهم أن يلطف بهم أن يغفر لهم كل زلاتهم، وددت لو أسمع همهمات أخرى، تذكر فيها نفسها بعد ذلك و لم أسمع أبدا. أظل أسترق السمع لأنفاسها، أسبح معها في عالم النهائيات و الكليات و الوجود المجرد، أود أن أبقى مع امرأة كهذه أشتم عبق حنائها و أسحب منها مسبحتها فجأة فتغضب مني – تظنني لوهلة أنني بلهاء أود إغاظتها – و حين تراني مبتسمة أمدها لها، تبتسم لي و تخرج من حقيبتها المليئة بالمسبحات الملونة مسبحة جديدة تناولني إياها، و تفتح قارورة الماء المقروء عليه آيات من القرآن، فتشرب قليلا و تطلب مني أن أشرب و تدعو لي مثلما دعت لكل من تحب. و لا أحسبها تفكر في دخول الجنة أو النار، حتى لو ذكرت في دعائها بان يدخلها الله الجنة، و يحشرها مع النبيين و الصديقين و الصالحين، بقدر ما تريد أن ينتهي كل شيء كائن، أدرك تماما رغبة المسن في مرحلة ما بأن يكون مستقرا فقط حتى لو في الجحيم!

هل تراني أصل إلى الـ هناك يوما، الذي وصلت إليه ؟! دون أن أفكر في في قراءة آخر رواية صدرت لكاتبي المفضل، أن أنام دون أن أبتئس لنومي وحيدة بلا رجل يحتضنني، أن أسافر إلى موطن أفر فيه من الحصار الجبري الغير معلن، ألا أقول للموت تمهل قليلا ! 

 

(2)

 

لا أدري أي لعنة حلت على النساء، و كيف يتلذذن بالإمومة و يسعين في طلبها!

استقبلتُ حالتها منذ أول يوم في العناية المركزة، امرأة في الخامسة و الثلاثين، متزوجة منذ خمسة عشر عاما، لم تنجب أطفالا، مصابة بفشل كلوي حاد، في غيبوبة و لديها فشل تنفسي جزئي. اخترقت أنابيب جهاز التنفس الصناعي فمها، و قسطرة الغسيل الكلوي غُرست في فخذها الأيمن. كانت مناوبتي حينها أول الليل حيث يصادفني وقت الزيارة اليومية لمدة ساعة نفتح فيها الأبواب لزائري المرضى من الأهل و الأصحاب. و ليس صعبا أبدا أن تعرف قصة كل مريض يدخل، فيكفي أن تكون جالسا في غرفة المرضى ما إن ترى إحداهن جاءت إلى والدة المريضة تسألها : “عسى ماشر” حتى تستمع إلى الحكاية من الألف إلى ما بعد الياء.

هذه المرأة التي بقيت شهرا كاملا نصفه في غيبوبة و نصفه الآخر لمعالجتها من مضاعفات أخرى تناولت مضادا حيويا لمدة ستة أشهر حيث أخبرتها إحداهن أن إحدى قريباتها استخدمته و كتب الله لها الحمل بعد سنين طويلة، فجربته لعل الله يكتب لها ما كتبه لتلك. بقيتْ تستخدمه حتى وصلت المستشفى في وضعها ذاك. 

أشفقتُ عليها كثيرا، حاولتُ بكل بقوة أن ألجم لساني عن التفوه بأي كلمة طوال بقائها في المستشفى، لا أريد أن أنفجر في وجهها و أوجع قلبها و أخبرها أنها غبية جدا، و أن تلك العاطفة اللعينة قد أعطتها فوق ما كان يتوجب عليها. لكنني لم أستطع و خرجتْ دون أن أقول لها كفي عن البحث عن أي حل، لستِ بحاجة لأمومة و لا لطفل. أعرف أن فكرتي لن تروق لها. لا هي و لا حتى أنا مضطرة أن أنجب طفلة أخاف و أقلق عليها كما تخاف عليّ أمي و أنا في الثلاثين من عمري و كأنني في الثالثة، تخاف من أن أسقط حين أركض و أقفز، أن تتسخ ملابسي، أن لا آكل، أن لا أنام مبكرا، أن أتأخر على عملي، هل أنا سعيدة أم تعيسة، ماذا أريد و لا أريد، و ما ذا أفعل و لا أفعل. أظل أعيش للقلق و المخاوف، لستُ واثقة من قدراتي على عدم تكرار شعور أمي ناحية طفلتي – التي لم تأتِ و مازلت أخشى أن تأتي يوما- الأمومة عدوى و تشبه الأمراض الجينية أحيانا لن أمتلك القدرة على تغيير مساراتها إن حدثت !و إنني لقلقة من وجودها أكثر من فقدها. إننا أحيانا – كنساء- نبحث عن أشياء – حتى لو أرهقتنا و أزهقت أرواحنا- لنثّبت وجودنا و كمالنا حتى لو في لوح على جدار متهالك! 

 

 

(3)

هل يمكنك أن تصف لي مشهدا بدقة متناهية و أنت تراه خلف نافذة عليها ستار؟! 

سئمت تلك الأحاديث الباهتة، و الصراع الممل الذي هو هراء محض، هل لعبة التراشق بالحجر تعجبكم إلى هذا الحد؟! هل يتوجب عليّ الآن أن أعلن أنني أكرهكم جميعا نساء و رجالا! الكثير من الثرثرات الاجتماعية أصبحت عبئا حقيقيا رغم كونها فارغة من المعنى، أعترف أنني أشعر بالغثيان و أتقيأ أحيانا في البيت بعد عودتي من زيارة هنا أو هناك، أرجوكم لم أعد أطيق الجلوس لا مع النساء ولا الرجال. ولا أطيق أن أقول نظريات و أدله و براهين من الكتاب و السنة، و روايات الصالحين، و معايير القياس و الاجتهاد، و المنطق و العلم، للأسف لم يجدِ معكم شيئا لإقناع أي طرف للحديث بلباقة و تفهم عن الطرف الآخر. خلقنا عالمين مختلفين ( و ليس متخالفين ) لنتكامل  ولنحب ونعشق و نسعد، و نبني أيا كانت قدراتنا، كبيرة أو صغيرة، البناء له أشكال وألوان. 

 

أشعر أنني الآن سأدخل في دوامة معتادة و لذا أعتذر لن أكمل بعد النقطة أعلاه الملتصقة بحرف النون. 

لنتحدث عن القهوة أو الشاي و العديد من الأعشاب، عن مشروباتي الساخنة المفضلة، أحب أن أحتسيها في أي وقت خلال اليوم، حتى قبل النوم لا بأس بكوب قهوة أو كأس كبير من الشاي، و أنام بعدها ككل ليلة، ماذا بكم ؟ هل جربتم شرب القهوة أو الشاي ذات ليلة ولم تستطيعوا النوم؟! حسنا أنا أستطيع ذلك فماذا أفعل؟ لا أدري أينا جسده يشكو من علة، لكنني مؤمنة بما يقوله أهل اليونان و أكده بعض المشتغلين بالطب الحديث – حسبما أظن –بأنك حين تتناول ما تحبه لا يضرك ولا يؤثر عليك! 

و لماذا أحدثكم عن تفاصيلي الصغيرة الجميلة؟ لا تشغلوا أنفسكم بهذا دعونا من كل ذلك، ليحتفظ كل فرد بجماليات تفاصيله ويعيشها بسعادة مفرطة بينه وبين نفسه كيفما يشاء. 

سأضغط على أيقونة الموسيقى على يسار شاشة (الآيباد) و أبدأ في قراءة ديوان شعر، أريد أن أكون مذابا أو مذيبا في هذه اللحظة! 

 

(4)

أن أكبُر في العمر قضية لا تشغلني، لم يعد الأمر مرتبطا بمرحلة أو محطة أعيشها مادمت أمارس الحياة وأسايرها وأمضي فيها كيفما أريد. لا مرحلة و لا عمر ما يتطلب مني أن أصبح غير ما أنا عليه، رغم محاولات من حولي واعتقاداتهم بأن كل مرحلة تتطلب مني أن أكون مختلفة، أن تتبدل أفكاري وسلوكياتي، وأصير (هم) أو ما كانوا عليه في وقت ما. 

منشغلون تماما بيومياتي، وماذا أرتدي، و كيف أعامل زوجي، وكيف أربي أبنائي، وماذا يجب و ما لا يجب في كل التفاصيل التي تخصني وحدي، دون أن يشعروا أنهم يثقلون كاهلي حتى لو لم أنصت إليهم و لا أبالي بما قالوا أو ما سيقولون ! 

سعيدة أنني (امرأة) ولكنني سئمت دور المتمردة التي تفوق العادة بالنسبة لهم، سئمت الحرب التي لا هدنة فيها مع أحد حتى أقرب المقربين. رغم أنني لا أرى سمة للتمرد فيّ، غير أني أحب ممارسة حياتي كما أتمنى كما يتوجب عليها أن تكون، حياة تمثلني، أرفض أن تفرض علي الآراء من هنا و هناك فيما يخصني، و أنا الوحيدة المخولة باتخاذ القرار المناسب لي. لا أؤذي أحدا و هذا يكفيني لأطلب الخلاص من كل القيود الوهمية التي ينسجها من حولي في حياتي، كما نسجوها في حياتهم سابقا، لأن تلك القيود ببساطة تعرقل خطوي دون إدراك مني أحيانا أيضا. 

أن أشعر بالتيه في كل أمري، لهو مرارة سوداء، ليس لأنني لست على ثقة من سفينتي أينما ولّت، و إنما بسبب من نصبّوا أنفسهم محللين و مستشارين –دون إذن – يقيسون المسافات و يحددون المسارات حسب رؤيتهم بينما يلقون باعتباراتي و تطلعاتي جانبا. 

ليس من السهل أن أقول بأن لدي خطتي و علي الالتزام بها دون رأي منكم، أصرخ بأن لا شأن لكم بي و لا تسألوني و لن أجيبكم، أسير بعزمي المتفرد رغم رعدكم و برقكم في سمائي، و لن أفر و لن أكر بعد الآن. 

من الصعب أن أكتب بأن من يحيطني ( مجتمع) أيديولوجياته غائمة، و إذا ما أردت (كامرأة ) أن أجادله في ذلك – و لا أرى أنه يجدي نفعا – سوى أنني أمشي.. و أمشي في طريقي مفككة عقده المتشابكة بعملي و فكري، دون الالتفات على الجانبين أو الخلف. اخترت الصمت طويلا، و الرد حسب الموقف قليلا، و العزلة كثيرا دائما و أبدا و بكل قوة.. اخترت ألا أشبه أحدا.. لا أمي و لا أخواتي و لا ابنة خال أو عم، و لا ابنة الجيران و لا صديقة بعيدة أو قريبة، توّلدت رؤيتي منذ زمن كانوا يحسبونني فيه صغيرة بما يكفي لأعي شيئا كبيرا ( عليّ أن أكون أنا فقط و لست مضطرة لأن أتشبه بأحد أي كان، و مهما كنت سيئة أو صالحة ). لا أخاف من كوني مختلفة أو أرغب في ذلك.. سواء نلت إعجابهم أو لا، لا شيء نشبه بعضنا فيه سوى الموت لأنه ليس خيارنا بالضرورة، و لو كان بيدنا سنختلف فيه أيضا. 

 

(5)

ماذا أفعل إن كنت من هواة العزلة ؟! قليلة الحديث، يرهقني التواصل كثيرا مع الآخرين، ربما هوايتي هذه تجعلني خارج إطار الكائنات الحية التي تهوى التآلف و التجمعات حسب نظريات علم النفس. لكنني لا أرى العزلة بهذا السوء إذا ما قارنتها ببشاعة العالم حولي ! لو نظر كل فرد إلى نفسه كشجرة خضراء تمتد أغصابها لتصافح الغيمات، و جذورها تداعب جوهر الأرض، لكان خيارنا أن نبقى مثمرين، كل فرد في مساحته الخاصة، و لن نقبل بتشابك الأغصان و الجذور حيث لن يتمكن الثمر من السقوط في مكانه المناسب. 

في كل مرة أقرر أن أخرج، لأكسر حدة عزلتي بشيء جديد، عليّ مواجهة الاسئلة، الغمزات، و اللمزات أيضا، و لذا لم تعد فكرة مخالطة الناس واردة إلا عند الضرورة ليس كمسكنات الألم، بل كعملية جراحية يضطرني الطبيب إلى اجرائها و عليّ أن أتقبلها رغم مضاعفاتها التي سترهقني. 

لن أكذب و أقول بأنني جرّاء بعض الأعاصير الموسمية، لا أفكر في التغيير، في السير أينما ولّى بي الإعصار، أن أكون فراشة وديعة في نظرهم، أستريح قليلا من عناء التبرير، أن أنظم وقتي و يومياتي كما يحبون، أزور هذه وتلك، أحضر مناسبات اجتماعية وحفلات، أتحدث في موضوعات لا تربطني بها صلة، أضحك على نكته سخيفة، وأنصت مكرهة إلى كلام بذيء ! 

وفجأة أشعر مثلما يشعر الحصان الأصيل بعد كبوته في سباق تخطي الحواجز، والتي لا يدرك ثمن الخسارة بعدها إلا هو.  وأستقر في بيتي، أحتضن كتبي، أجمع أوراقي و أقلامي و أضعها بعناية على الطاولة الصغيرة، أتوجه إلى المطبخ، و أعد كوب الشاي، أفكر فيما سأعده من طعام لوجبة العشاء، ثم  أتأمل الصمت الذي حولي، أنصت لما يبثه الهدوء فيّ، و أبدأ في كتابة هذه الصفحات تاركة العالم يمضي نحو جحيمه بينما  أنا باتجاه جنتي. 

_______________________________

قاصة وكاتبة من السعودية صدر لها مجموعة قصصية بعنوان “سرير يتسع” 2014

الصورة من أعمال التشكيلي الإيطالي توني ديميرو

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: