من الطبيعي أن تتصدر صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب غلاف مجلة “التايم” حين انتخابه بوصفه “شخصية العام”، فهذا الغلاف الشهير غالباً ما يكون مخصصاً لصور سياسيين ونجوم غناء وتمثيل أو شخصيات مثل ستيف جوبز أو ميشيل أوباما أو جاكلين كنيدي، ومرات قليلة جداً احتلته صورة كاتب، وقد حصل ذلك في عدد 21 أغسطس 2010 حين تصدرت صورة جوناثان فرانزين الغلاف مرفقة بعبارة تقول “روائي أميركي عظيم”.
أكثر من سبع سنوات تفصلنا عن ذلك، وقد جاء توصيف فرانزين بـ”الروائي العظيم” بعد صدور رواياته المفصلية “حرية” 2009، والتي حظيت باهتمام واحتفاء كبيرين، مستكملاً فيها منجزه في رواية سبقتها بعنوان “التصحيحات” 2001 ، وكلاهما راويتين هائلتا الحجم، مبنيتان بصرامة كلاسيكية، وليس فيهما شيء من “المدينة السابعة والعشرين” 1988 التي “أسيء فهمها” حسب تعبير فرانزين ، وروايته الثانية “حركة قوية” 1992 التي لم تجد طريقها إلى عدد كبير من القراء، وقد كانتا حافلتان بالتجريب ومعاينات مستويات متعددة من السرد، كما لو أن الفتور الذي قوبل به هذين العملين يقول لنا أن الأدب الأميركي لا يريد دان دليلو جديد، ولا كتابة ما بعد حداثوية، بل الاحتفاء سيكون بفرانزين عبر “التصحيحات” و”حرية” الروايتان اللتان تدفعان إلى مقارنته بأكثر الروائيين كلاسيكية كديكنز وتولستوي، وقد أمسى مع “حرية” كاتباً ذا قاعدة واسعة من القراء معتبراً أنها غيّرت طريقته في الكتابة كما يورد في لقاء معه في مجلة “باريس ريفيو”: ” ولّدت رواية “حرية” شعوراً مختلفاً عن ذاك الذي ولّدته “التصحيحات” فهذا يعود في جزء كبير منه إلى الفرصة التي أتيحت لي للقاء آلاف القرّاء في مختلف الجولات التي قمت بها لتسويق كتابي والتعريف به. هؤلاء هم الأشخاص الذي يقرأون الكتب، ويهتمون بها، ويتحملون مشقة الخروج في ليلة ثلاثاء ماطرة ليستمعوا إلى أحدهم وهو يقرأ من كتاب بصوت مرتفع وكأنهم أطفال يستمعون إلى قصة خرافية، ومن ثم ينتظرون وقوفاً لنصف ساعة أو أكثر كي يحصلوا على توقيع الكاتب على أول صفحة من كتاب دفعوا ثمنه من جيوبهم”.
وها هو فرانزين يصدر رواية جديدة بعنوان “طهر” Purity وست سنوات تفصلها عن “حرية” وهي تشكّل استكمالاً لها من حيث البناء السردي وقد جاءت بـ 563 صفحة من الحجم الكبير، إلا أنها تخرج عما شكل محور العملين السابقين أي العائلة الأميركية الموصوفة بالنموذجية التي قام فرانزين بتعريتها، مسلطاً الضوء على حياتها اليومية وبالتالي تداخل الاجتماعي بالاقتصادي والسياسي، وهو يتنقل بين الأجيال موضحاً التباينات والفوارق، الفشل والخيبات والانهيارات وصولاً إلى الحرية على الطريقة الأميركية، والتي ستكون الكلمة الناظمة لما حملته “حرية” وعلى شيء من تقديم توثيق روائي مواز للتوثيق التاريخي إن تعلق الأمر بالمرحلة التي تدور فيها أحداث روايته لكن بما يطال الشخصيات، فجوي يقول في “حرية” إن حياته تغيرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا لشيء إلا لأن الحظ بدأ يفارقه، كما أن الجدل السياسي يمر في الرواية دائماً من خلال الحوار، كالحديث الذي يجري بين جوي ووالد صديقه يهودي، إذ يقول له الأخير “العرب يقولون أن برجي التجارة العالميين كانا خاليين من اليهود”، ليجيبه جوي “ألسنا نفعل مثل العرب حين نكذب بخصوص العراق”.
تمضي رواية فرانزين الجديدة “طهر” في سياق سردي يتمركز حول شخصية “بيب” ذات الاسم الغريب الذي أطلقته عليها أمها المختلة نفسياً. بيب طالبة متخرجة خديثاً تعاني من ديون جراء تكاليف دراستها، وهي على أعتاب دخولها الحياة العملية وهي مثقلة بمجاهل كثيرة في حياتها، فهي لا تعرف شيئاً عن والدها، وقد ولدتها أمها وحيدة في كوخ في “سانتا كروز” ، ولتبدأ الرواية من مكالمة هاتفية بين بيب وأمها: (أوه يا قطتي، “أنا سعيدة لسماع صوتك”، تقول والدة الفتاة على الهاتف. “جسدي يخونني مجدداً. أحياناً أفكّر أن حياتي ليست إلا سلسلة طويلة من الخيانات الجسدية”. “أليس ذلك حاضر في حياة كل واحد منا” تقول الفتاة، بيب، التي اعتادت الاتصال بأمها منتصف النهار حين استراحة الغداء في “رنوبيل سولوشن”. تريحها هذه المكالمات من شعورها من أنها غير مناسبة لعملها، وأن لديها عمل لا أحد مناسب له، أو أنها لا تناسب أي نوع من العمل؛ ومن ثم، وبعد مرور عشرين دقيقة، فإنها ستقول بصدق وأمانة بأن عليها العودة إلى العمل).
لا تتيح بيب ذات الاسم المماثل لشخصية تشارلز ديكنز في روايته “آمال عظيمة” بأنها قادرة على تولي سرد رواية بهذا الحجم، أو تستحق أن تكون شخصيتها الرئيسة، لعل المقطع الافتتاحي في الرواية الوارد أعلاه يقول لنا ذلك، فهي ليست مشاكسة ولها أن تستسلم عن طيب خاطر إن هي جابهت أي شيء، فهي غير مناسبة للعمل لكنها ستعود إليه بتفاني بعد عشرين دقيقة، إلا أن ذلك سرعان ما يتبدد، كما هي الرواية عموماً، وهي تهب شعوراً بأن الأحداث تزحف من دون أن تكون قادرة بداية على المشي أو الركض، ومع حضور أندرياس وولف الوسيم المتمتع بجاذبية استثنائية شكلاً ومضمونا – رغم أنه محتشد بالتناقضات والنقائص – تبدأ الرواية بالحفر عميقاً في البينة السياسية الأميركية وليبدو وولف شبيها بجوليان أسانج ومشروعه “صن لايت بروجكت” أشبه بـ “ويكيليكس”، ولتضفي آراؤه وديناميكيته العالية حيوية على الرواية هو الذي “يساند حقوق الإنسان ولا يرغب بوقوع حرب عالمية ثالثة” كما يرد في فصل مدهش عنوانه “جمهورية الذوق الرديء”.
سيشكّل وولف وشخصية أخرى هي توم أبرنت الذي يدير مع زوجته موقعاً صحفياً إلكترونياً مساحة اكتشاف لا عهد لبيب بها، سيبدو النقاء أو “الطهر” كما عنوان الرواية موضوع اختبار لن تكون النتيجة في صالحه، إنه عالم آخر مليء بالخفايا والمعلومات المسربة والاستخبارات، وكل ذلك صحبة آراء ونقاشات تمسك بالتاريخ الحديث والمعاصر من تلابيبه وتضعه على مذبح الاعتراف، بينما العلاقات سريعة وخاطفة وما من شيء يوقف تدفق الأحداث والصراعات وصولاً إلى الجريمة.
لا تحمل رواية “طهر” تصحيحات لن تنجح في “التصحيحات” رغم مظهر العائلة المتماسك في البداية، فهنا على الطهر أن يدنس ما لم يكن مدنساً بالأصل، وهكذا سيكون انجراف بيب حتمياً وهي تتوهم بأن تستمسك بشيء بينما كل ما تمسكه يلوثها أكثر. وإن كانت “حرية” قد وصفت بالرواية “التولستية”، حيث تحضر المفاصل التاريخية في سياقات الأحداث، بينما لشخصيات متصلة بها بخيط رفيع وخفي: من الريغانية إلى البوشية، ومن أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى حرب العراق، البيئة، الازدواجية، ثقافة الآي باد، أما “طهر” فهي مناظرة حديثة مع رواية ديكنز”آمال عظيمة”، والعالم الافتراضي يمضي جنباً إلى جنب مع الواقع، وكلاهما محتكمان على التاريخي والسياسي وما بيب إلا أداة درامية للاصطدام بهذين لواقعين وفرانزين في هذه الرواية مأخوذ بالحكاية وأسلوبها السردي المتأثر بغايات الشخصيات بعيداً عن أي شبهة بشعرية لغوية أو تنميق، مشغول عن ذلك في تشييد صرحه السردي على مهل ولبنة لبنة.
*****
خاص بأوكسجين
اسم الكتاب
“طهر” Purity
اسم الكاتب
جوناثان فرانزين
عدد الصفحات
563
الناشر
Fourth Estate