حين كنت أتابع على التلفاز الموكب المهيب لنقل المومياوات الفرعونية الملكية من متحف القاهرة في ميدان التحرير إلى متحف جديد في “الفسطاط” رحت أستعيد فيلم صديقي عمرو بيومي “رمسيس راح فين؟” (2019)، على شيء من الخضوع لعشوائية الذاكرة ورصانتها في آنٍ معاً، وهي تضعني وضوحاً أمام ما قدّمه عمرو في فيلمه سالف الذكر ونقيضه المتمثل بموكب المومياوات الملكية، وبما يضيء أكثر على منابع الحالة التوثيقة التي يقدّمها الفيلم، وتداخل الذاتي بالتاريخي باليومي والمعاش، فرمسيس الثاني في فيلم بيومي ليس ملكياً بحال من الأحوال، إنه ابن الشارع المصري، القادم من ماض سحيق ليكون شاهداً ومؤثراً في حيوات المصريين، إنه حكاية شعبية، محمّلة بآمال وخيبات وتطلعات.
التاريخي في فيلم “رمسيس راح فين؟” متأسس على طبقات تاريخية، وصيغة السؤال في عنوان الفيلم تفتح الباب على مصراعيه أمام أجوبة عدة، و الفرعون رمسيس الثاني يعود بنا إلى 1300 سنة قبل الميلاد، لكنه يضعنا مباشرة أمام تواريخ حديثة، تبدأ من اكتشاف تمثاله هائل الحجم عام 1820 ووضعه عام 1955 بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان باب الحديد، والذي أصبح ميدان رمسيس، وليتم انتزاعه من الميدان عام 2006، ونقله إلى المتحف القومي للحضارة المصرية.
إن هذه التواريخ التي يتأسس عليها الفيلم تجعله قطعة وثائقية تتحرك أفقياً وعمودياً في تاريخ مصر السحيق والحديث والمعاصر، والتي يُسلط الضوء عليها بحنكة في سياق الفيلم، كما أنها تجعلنا حيال سكّان القاهرة، أهلها، ومن يفد إليها من ريفها ومدن مصر الأخرى، وهم في الفيلم يدركون أنهم وصلوا القاهرة ما أن يطالعهم تمثال رمسيس المهيب، وغير ذلك مما يتولى رمسيس نفسه سرده في الفيلم.
يضاف إلى ما تقدّم مخرج الفيلم نفسه وهو يجمع بين كل تلك التواريخ والأحاسيس، وارتباطه الشخصي برمسيس، وهو القاطن الأبدي في حي السكاكيني القريب من ميدان رمسيس، وبالتالي فإن المخرج يضعنا حيال ذاته، عوالمه الشخصية، علاقته مع والده، وكل ذلك نابع من “رمسيس” الشاهد على كل التواريخ، حياتياً وسياسياً وشخصياً، لكن بما يدفع المشاهد للشعور بتعب القاهرة، باختناقها، وصولاً إلى كون رمسيس نفسه قد تعب، بحيث تبدو عملية نقله مفترق طرق، نهاية لحقبة وبداية لأخرى، وقد قام المخرج برصدها بكاميراه عام 2006، وليعمل على ما صوّره بعد عشر سنوات، خارجاً علينا بفيلمه عام 2019 وقد نال حينها جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الاسماعلية السينمائي.
أتساءل الآن وماذا يفعل عمرو بيومي في هذه الأيام؟ ماذا فعل صاحب “الجسر” (1997) و”بلد البنات” (2008) أثناء الحجر الذي فرض على البشر أجمعين مع جائحة كورونا؟
إنه في شقته في حي السكاكيني! وبالتأكيد في القاهرة، والتي لا تكتمل زيارتي لها ما لم ألتقيه! وعليه أعترف أن زيارتي في العام الماضي كانت غير مكتملة!
المهم أنه بخير!
نعم هو بخير طالما أن الكاميرا بين يديه، ولدي في هذا الخصوص، وثيقة فيلمية جميلة أنجزها أثناء الحجر، إنه فيلمه القصير “خلف حاجز اسمنتي شفاف” وهو يوثق إطلالته من شرفة بيته على حيه الذي ولد وترعرع وعاش فيه كل حياته، متولياً توثيق هذا الشارع الذي يعاينه يومياً وهو “مليان شجر ومطبات وحفر”، ولتكون الأشجار الكثيفة مما يتفقده يومياً بوصفها راسخة في المكان كما بيومي نفسه عاشق القاهرة، وقد رصدها في سينماه ووثق تحولاتها حجراً وبشراً.
يحيط عمرو نفسه في “خلف حاجز اسمنتي شفاف”، بكتبه وقصائد صلاح عبد الصبور ولوحات عادل السيوي، متخذاً منها حاملاً جمالياً لتوثيق أيام عزلته، ويقوم باستدعاء الشارع إلى شقته، ممتزجة بانخطافات في الزمن، يعود فيها على سبيل المثال إلى طفولته ومراهقته هو الذي “يحب الشعر والتدخين”، وتصويره آخر غروب للشمس في الألفية الثانية وإشراقة أول شمس على الألفية الثالثة، وليتأسس كل ما يقدمه الفيلم حول حالات وجدانية تستدعيها حالة الحجر في زمن الكورونا، والمخرج يعود إلى حالة صحية لازمته منذ الطفولة، بينما يواصل الآخرون حياتهم، فلا يجد محيداً عن رصدهم، وتوثيق حياته عبر حياتهم، وهو قابع خلف ذلك الحاجز الشفيف، يراهم ولا يرونه، ولعل ما يردده عمرو من شعر عبد الصبور يحملنا إلى معان كثيرة مما يعايشه:
“لا أملك أن أتكلم فلتتكلم عني الريح. لا يمسكها إلا جدران الكون..لا أملك أن أتكلم فليتكلم عني موج البحر. لا يمسكه الموت إلا على حبات الرمل. لا أملك أن أتكلم فلتتكلم عني قمم الأشجار..لا يحني هامتها إلا ميلاد الأثمار. لا أملك أن أتكلم فليتكلم عني صمتي المفعم.”
أتساءل وهل هذا المقطع من مسرحية عبد الصبور “ليلى والمجنون”؟ ربما! لم أتأكد! لكنني أميل إلى أنه من المسرحية، طالما أنها شكلت هاجس عمرو وهو يعدها منذ زمن طويل ليخرجها كفيلم روائي طويل.. أنتظره..أترقبه.