صدر حديثاً عن محترف أوكسجين للنشر في أونتاريو، رواية “بوصلة السراب” للروائي العماني، المقيم في موسكو، أحمد م الرحبي.
ويتبدّى الرحبي في هذه الرواية كمن يسحب دلوَ ماء من بئر مظلمة، ليسقي عطشنا بسردٍ متدفّق يجمعُ الرقصَ بالقيد، والغطرسة بالتوق للحرية، ونداءات الحب، فهو يحاكي طبيعة “المكان/ القرية” ويتوغل فيها عبر مشاهد حيّة، تحتفي بالتفاصيل، حيث لكل شجرة اسم، ولكل عشبة رائحة، ولكل هواء مساره بين البيوت والدروب التي يقطعها بطل الرواية محمد، الفتى المدجج بالأسئلة وروح الاكتشاف والمغامرة، رغم صمتهِ الذي يتواطأ والمكان الذي يأتيه من المدينة. هذا الفضول المتردد أحياناً، المقدِم أحياناً أخرى، يجعله ينخرط في علاقات آنية مع أترابهِ، يستمع إلى أحلامهم، ويشاركهم همومهم التي يلقي بثقلها الكبار على أكتاف الصغارِ الهشة. حكاياتُ قهر وظلم، تسلّط ورضوخ، حبّ وحقد، وكل ما يتعقّبُ المشاعر المتناقضة للشخصيات.
يكتب الرحبي في روايته: “الطرقاتُ إلى هناك ضيّقة والخرائبُ ليست قليلة. مزارعُ مهجورة تظهر بين الفينة والأخرى، ذات اليمين وذات الشمال: نخلُها يابسة، حزينة. تميل بأعجازها الضامرة، وتبسط جريدَها الباهت، المتقشّف، فتبدو كصفٍّ من العجائز المتسوّلات، وقفْنَ هناك، ومددْنَ أيديهنّ الواهنة. في وسط تلك المزارع بيوتٌ طينية متداعية، انهارتْ ذُراها، ونتأت جذوع أسقفها بعد أن نخرَها الإهمالُ وأبلاها الهجرُ، فتكدّس طوبُها المتهدّم عند عتباتها. وكانت البيوت بِدَورها مثل شيوخٍ مقعدين”.
لا يكتفي الروائي بذلك وحسب، بل يمضي بنا إلى رصد تحولات كلِّ شخصيةٍ عبر علاقتها بالمكان وتغيّراته، من مشاريع بناء، وطموحات في تجاوز الطبقة الاجتماعية بطرقٍ ملتوية، إلى القهر الذي يلقي بظلالهِ على المتسيّدين والمستضعفين، ولتمسي حال المرأة كحالِ شجرةٍ مهملة، تظل رغم كل العذابات صامدة في وجه الطغيان. وكيف تتوارثُ الأجيال تلك الصور النمطية لقوة الرجل، وضعف المرأة، محاولةً كسر القواعد والخروج عن المألوف.
بعيداً عن العاصمة مسقط يتركهُ أبواهُ في عهدة الجدّين فترة ليست قليلة من الزمن، تشاركه فيها أمّه في ظل غياب أبيه القسري، حيث لا جهة للسراب الذي يلف كل شيء، حتى أحلامَ التوق الدائم لحياة عادلة، أو كما تخبرنا كلمة الغلاف: “تكسِرُ خطى الفتى محمد صمتَ القريةِ المخاتِل، هذا “المكان” الذي يتفجّر، تحت أقدامهِ، بالحكاياتِ المتوارية خلف جدران البيوت وبين الأحراش وفي الوهاد، حيث تتشابك مصائرُ ابن الغجرية مع ابن المجنونة، فالعمّ صالح والوالي المتسلّط وغيرها من شخصيات ترنو إلى حياة عادلة فإذا هي محض سراب، وما من بوصلة سوى هذه المغامرة الجريئة التي يضعها بين أيدينا الروائي العماني أحمد م الرحبي كمن يسحب دلوَ ماء من بئر مظلمة، ليسقي عطشنا بسردٍ متدفّق يجمعُ الرقصَ بالقيد، والغطرسة بالتوق للحرية، ونداءات الحب”.
هو توقٌ متجدِّد إذاً، يعكسه المكان الفسيح؛ الذي يشيع السكينة في النفس ويفسح المجال للرؤى والتخيّلات، للطقوس التي ترافق المآتم والأعراس، للسوق وموازينه، للمسجد ورواده، للجوع والمرض، للأفراح والأتراح، ولمحاولات الإفلات من قبضة صمتٍ ثقيل، محتشد بالكلام وعامر بالأسئلة.
في روايته “بوصلة السراب”، والتي جاءت عبر ستّة فصول طويلة في 272 صفحة، يستنطقُ الروائي أحمد م الرحبي المكانَ وشخوصه في لعبةٍ سرديةٍ، تشدّ القارئ بلغتها المنسوجة بحرفية عاشقٍ لمكانه الأول، والذي لا نخرجُ منه أبداً كما دخلناه.
وتأتي هذه الرواية بعد إصدار الرحبي مجموعة قصصية بعنوان “أقفال” (2006)، وروايتين هما: “الوافد” (2012)، و”أنا والجدة نينا” (2015). وترجمات لأعمال متعددة عن الروسية لمكسيم غوركي وأنطوان تشيخوف وآخرين، وصولاً إلى آخر ترجماته ألا وهي رواية “رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين” لـ ألكسندر تشايانوف، التي صدرت أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر”.