يستيقظ فجراً بلا منبه أو ساعة. يسقي النباتات الصغيرة في شقته. يرتدي رداء العمل. يقص شعرتين أو ثلاث نافرة من شاربيه. يفرش أسنانه. يأخذ قهوة من الآلة المتواجدة بجوار بيته. يستقل سيارة العمل الصغيرة، وعلى أنغام أغنية يسمعها على مسجل الكاسيت يمضي إلى عمله ورحلة تنظيفه مراحيض طوكيو، متفانياً منكباَ على ألا يترك بقعة أو ذرة وسخ أو قذارة فيما ظهر منها أو خفي. استراحة الغداء يمضيها في حديقة المعبد. يلتقط كل يوم صورة لذات الشجرة بكاميرا بفيلم فوجي، وحين يقع على عِرق أو ورقة خضراء يستأذن الكاهن بأخذها. يعود إلى بيته، وليخرج منه مستخدما دراجته الهوائية فقط. يقصد حماماً عمومياً، يستحم. يمضي إلى المطعم ذاته ويقدّم له صاحب المطعم كأساً “تقديراً لعمله الشاق” العبارة التي يكررها كل يوم. يعود إلى شقته يقرأ فوكنر وينام. تبدأ مناماته وهي ليست إلا ظلال، فأحلامه ظلال على الدوام مما عاشه وعايشه… ليستيقظ في اليوم التالي وهكذا دواليك. إنه فيلم “أيام مثالية” أو Perfect Days آخر ما صنعه المخرج الألماني فيم فاندرز.
في العطلة ينام إلى الصباح متخطياً الفجر. يقصد محل تصوير يأخذ منه الصور التي ظهّرها ويشتري فيلماً جديداً. الصور هي للشجرة سالفة الذكر دائماً ولا شيء سواها. يزور المكتبة ذاتها يشتري كتاباً يمضي برفقته الأسبوع. يذهب إلى حانة تديرها امرأة تحتفي به احتفاء حبيبة، وحين تضع له كأساً تقول له أيضاً “تقديراً لعملك الشاق”. تلك هي حياة هيرمايا (دور لا ينسى لكوجي ياكوشو)، وكل ما يضاف إليها يضيء على شخصيته وحياته أكثر، وأي خلل فيها سيكون مدعاة لإثارة التحفيز والفضول، فالحرص كل الحرص على الحياة التي صاغها هيرمايا بمنتهى العزلة والصدق والتفاني، وهو في عصر الكتاب الورقي والكاسيت والكاميرا العادية اللا رقمية، وموسيقاه من الستينيات والسبعينات وعلى أبعد تقدير في الثمانينات، لا بل لا حاجة له لأن يتكلم، إلا إن لجأت إليه ابنه أخته فإذا هو يبادلها الحديث ويبتهج لكل ما تقوله وتفعله.
يبقى الفيلم استهلالاً أو مفتتحاً، أي بما يترك عادة لتقدّم الشخصية نفسها عبر سلسلة من الأفعال التي تعرفنا بطباعها وخصالها، عملها وأسلوب حياتها، طبقتها… إلخ، بما يؤسس للحبكة ونقطة تحول، بينما شخصية هيرمايا تعيد أفعالها مرة تلو أخرى، وبالتالي فإنه ما من صراع، ما من نقطة تحول ، ولا مواجهة ولا ذروة درامية تستدعي الحل في النهاية، وعدا ما تقدّم من حياة هيرمايا، ثمة تفرعات، تُظهر خصاله أكثر مثل علاقته مع مساعده والفتاة التي يحبها، حيث يوضع أمام شخصية نقيضة له، ويكفي أن يكون شاباً في مقتبل العمر ليكون نقيضاً له كما هي فتاته التي تطبع قبلة على خد هيرمايا، وهي تجد فيه كل ما هو غير متواجد في عالمها.
مع لجوء ابنة أخته إليه، تتكشف دوافعه في ما صاغ عليه حياته بمشهد لا يتعدى الدقائق حين يجتمع مع أخته شديدة الثراء وقد أتت لتعيد ابنتها. أما الحب فلا يكشف عنه إلا في النهاية حين يرى صاحبة الحانة تعانق رجلاً، فإذا هو زوجها السابق جاء ليودعها فيراقصا سوية ظلهما.
إنه فاندرز كما هو (78 عاماً)، قادر على الدوام أن يفاجئ ويضيف ويبهج، وهو لا يركن لقاعدة أو قالب أو جغرافية ودأبه التجريب على الدوام. أتذكر مع فيلمه هذا شيئاً من انتقاله بعد “ثلاثية أفلام الطريق” المشغولة بالصورة فقط، والتي صنعها في سبعينات القرن الماضي: “أليس في المدن” و”حركة خاطئة” و”ملوك الطرقات”، إلى القصة وقال إنها بدت له “أشبه بنهر” مع “صديقي الأميركي” (1977) و”باريس- تكساس” (1984)، وحينها سلّم أفلامه للنهر، وهو في “أيام مثالية” يسلّم الفيلم للظلال، لحياة نريد لروتينها وصرامتها ورقتها وعزلتها وخصوصيتها، أن تتكرر إلى ما لا نهاية.