أنا أيضاً أُعرّف نفسي بالمشي. والمدينة بلا طريق، بلا شجر!
العدد 282 | 30 كانون الثاني 2024
سيّد أحمد


إلى نوال العلي ..

ليس ثمّة ما أستطيع أن أبدأ به، لذلك؛ توقفتُ هُنا لأكثر من أربع ساعات متواصلة. الغرفة مظلمة تماماً. رأسٌ وحيد، تغمره فكرة وحيدةٌ عن الموت. ما هكذا من الممكن أن نبدأ صداقة ما، كم أن هذه الجملة هي عنوان قصة قصيرة كتبتها سابقاً، حزينة للغاية. الأمر الذي يتعلق غالباً بمحاولات كتابة فاشلة، مثلما يحدث الآن. تتراقص في الزوايا المشاعر والكلمات، والكثير من الضجر. حسناً؛ سأخبرك، الحرب اللعينة التي تدور رحاها لأكثر من ثلاثة أشهر، جوار آلاف السنين من تاريخنا المعروف. تشلّني. لا أستطيع أن أذهب برأسي بعيداً، تباغتني النظرات الباكية أينما كنتُ، مع شعور عارم بالخيبة وأزلية تحتضن العار العربي.

بينما يتعاظم طنين يصم أذني، من دون أن أعي ماهية هذه الأصوات المتداخلة بين شخصيات وهمية تتحرك في فضاءات موازية داخل عقلي وفي غرفتي، بالتحديد في تلك اللحظة التي يغلبني التعب فيها وأرغب في النوم، ولو النهائي منه والحاسم، إلا أن الصحبة المؤرقة التي تتجمع جوار رأسي تمنع أي تصرف آخر غير الإنصات لأصواتها، أصوات حقيقية، لكائنات خرافية وبشر من الشجر والحجارة لم يتخلقوا بعد بشراً حقيقيين! ولا أعرف إلام قد ينتهي هذا؟ إلى زوبعة أو طوفان.

عالم مظلم، غارق تماماً في ضوضاء عنيفة. ورغم ذلك، يبتلعني تماماً صمت تعيس، مجنون وحزين في آن. تصيح بي الجدران، اخرج عن هنا، فوراً! المدينة لم تعد تصلح للعيش، حزينة كمن خرج لتوه من حرب خسر بها كل شيء، كمدينة منكوبة، ضاغطة. وضائعة على الدوام، مدينتك التي ليست مدينتهم! تجيب الجدران ذاتها؛ إلى أين؟! فيعم صمت طويل، طويل.

على طرف آخر، يبتلع المنزل ضجيج قاتل يفتعله الشارع بكل حشوه وخليطه وأطيافه المتنافرة بنهم كبير ودأب بالغ كأنه يقتات على الضجيج إلى الأبد، حتى صارت لحظة هدوء واحدة أشبه بحلم، حلم جميل، حلم لن يتحقق أبداً! أكاد من إنعدام فرصة تجربته أن أعجز تماماً عن وصفه، أو الاستغراق اليقظ في فهم كيفية الشعور به، ولا أملك تشبيها مناسباً حتى! ببساطة؛ لأني لم أعرفه يوماً، كي يعيش في بقايا الذاكرة التي تحللت من فرط التشتت والتلاشي والرغبة في الاستسلام لخدرها الذاتي، النسيان!

الحرب في رأسي، والأخيرة هي مفردة سقطت سهواً من إحدى يومياتكِ التي قرأتها اليوم لحوالي عشر مرات، لا أعلم السبب، هناك شيء ظننت أن عليّ الإمساك به، لكنه لم يفصح عن نفسه بعدُ! وبينما كنت أواصل التفكير ليلة أمس بالكامل وحتى الصباح في الأيام التي تممت هذا العام، وحيداً عدت من صالون الحلاقة، غارق بالكامل في محاولة إحصاء الشَعر الأبيض الذي غمر رأسي أيضاً. فوجدت أني أعيش، طالما أن شَعري يشيب؛ إذن هناك سنوات مضت! وهكذا كنت أعيش داخل رأسي، وحين تطلعت إلى المرآة تفاجئت بالصورة التي ظهرت واختفت فوراً. ما أقوله الآن مضطرب جداً. أعتذر.

أشارك الكثيرين ارتباكهم خلال نهايات الأعوام، وهو أمر مفهوم بالنظر لرعب تفلت الوقت/ العمر المستمر وكذلك مسألة الحصاد المقترنة بالنهاية، ولو رمزياً، لكني بطريقة ما، راضٍ عما حصلته هذا العام على كثرة ما به من ألم، وراضٍ كذلك عما فقدته، أحياناً أتخيلني أحتفي بالفقد ذاته، بلمحة بها من الحزن الشفيف ما يكفي! لكني سأتجاوز هذا الأمر عامداً لصالح محاولة العبور بخفة إلى عام جديد، وليس معي سوى ابتسامتي -الأمر الوحيد الذي أعول عليه لدى البشر وأحاوله على الدوام ولو لم أنجح على الدوام!-، ومعي كذلك هذه الحبات من الكاكاو الكولومبي الممتاز، وقد اعتبرتها فأل حسن أبدأ به العام، شاعري وحميم! بينما أجلس في مقابلة لوحة صغيرة، صغيرة للغاية. تنظر إليّ منها امرأة سمراء نحيلة، تحمل في يديها طفلاً صغيراً على هيئة قرد، القرد الذي صار غزالاً لأن أمه لم ترى غير ذلك، تبدل الآن حتى أصبح شخصية كرتونية في هيئة كلب طيب، بآذان طويلة، طويلة للغاية. كمحاولة لصرف الذهن عن ما حدث حالاً!

أعود وحيداً كل ليلة. والآن، أنا وحيد، وحيد وحزين.

رأيتها تنام على صدر رجل غريب، لم أستطع أن أطفىء هذا الألم. بكيت. قتلتها. داخل رأسي فعلتُ. اللُغة أيضاً لعبة مثيرة للتأمل، فما أن أتلو اسمها، حتى ترتعش يديّ، ورأسي يرتطم بالحائط. كنتُ واقع بين جبال من الحزن، وبينما أحاول تذكر صوت ضحكتها، صورة وجهها، وجدت أنها تتلاشى بسرعة البرق، حتى أني لثلاثة أيام كاملة لم أستطع جمع وجهها المتناثر على أرضية اللوحة.

***

دائماً ما كنتُ غريباً. في الصور التي جمعتني بآخرين؛ يُفتقد على الدوام نوع من الألفة اللازمة للتغطية على هذه المساحات المهولة من الصمت؛ لذلك لا عجب في كره ثقافة الصورة، كمحاولة أخرى لدفع عبء توريط الوقت وتجمديه بعيداً! وفي العمل أيضاً، لذلك تخلى عني الأخير أولاً، وكنوع من الانتقام؛ تركته أنا الآخر، وصرتُ صعلوقاً كبيراً حالياً، يتسول يوميات بائسة من عمل يعتبر التأرجح تسليته الوحيدة، فلا يكفي المعاش تحت الحد الإنساني، ولا الحلم. أما أثناء الخدمة العسكرية، لم يكن عجيباً أن أستحق عن جدارة لقب “الغريب” بألف ولام التعريف، كأنها مزية لم يحصلها سواي من أقراني في تلك الصحراء الشاسعة. لم أقف في مقابل هذه المفردة كثيراً ولم أحاول نفيها عن نفسي، ارتحت لفكرة أن أكون غريباً عن هذا الهراء كله، الذي حدث وقتها ولا يزال، الأمر الذي ترك فرصة للتصرف بجنون في أحيان كثيرة، لم تكن أسوأها بطبيعة الحال حادثة رفع فوهة بندقية خرساء في وجه قائد متغطرس. أما مع الأحباء، فقد بدا الأمر مختلفاً لكنه يؤدي المهمة نفسها، فكلما أحببتُ أكثر، صرت أغرب وأقل كلاماً. لا أعرف لماذا يتضاد الكلام مع الحب! وأغلب الظن، أننا عادة ما نحتاج أكثر من الكلام  لنحمل ما يفوق القدرة على الوصف، ما وقر في القلب، وظلت كل الأحاديث تالياً، أقل مما يجب! وهو فخ آخر من ألاعيب اللغة، تماماً مثل الوقوع في غرام مفردة بعينها! لذلك كنا نسكت معاً، وينتهي الأمر أن يكون كل منّا، ساكتٌ، ووحيد! غريب وسط مجموعة من الغرباء، ولا نعرف أهي غربة ضربناها حول أنفسنا، أم هي ما أشاعه العالم عنّا! ولا عرش إلا الهوامش، كغواية أخرى، أو ترفع بشوات سابقين قد لا يليق تماماً بما تبقى من أحلام أو نقود!

لذلك؛ بحب أغيب! أو هذا ما انتهيتُ إليه إثر محادثة مقتضبة مع حسناء صادفتها ليلة أمس تعبر البحر في الظلام، تتشابك يداها في يد آخر لم أتبين ملامحه -لم يكن مهماً؛ فلم أحاول أن أراه-، بالتأكيد في تلك اللحظة حين ابتسمت ساخرة من أغنيتي المفضلة!

بينما يطوحنا الكاتب أحمد عبداللطيف عالياً في الهواء، ويضحك قائلاً: هناك قصص حب عظيمة تنتهي بسبب اللغة، بسبب اختلاف قاموس كل شخص عن الآخر، بسبب الدلالة التي تحملها كل كلمة، وخلفيتها عند كل طرف فيهما، بسبب حساسية أحدهما اتجاه اللغة وعدم حساسية الآخر بنفس الدرجة، بسبب النبرة حين تنطق كلمة. اللغة وعاء الفكر، لكنها ليست فقط وعاء الفكر، هي وعاء المشاعر، عين التليسكوب الكاشفة، ربة العلامات. الكلمة هي العلامة الكبرى التي يجب أن نقرأها وفق السيميولوجيا، الكلمة أهم من لغة الجسد ولغة العين ولغة اليد ولغة السلوك. لأن اللغة هي الوعاء الذي نسبح فيه بقدر ما يسبح فينا.

وإذ لم أعرف بعدُ سبب البكاء في الحلم! ورغم صخب الكلمات، مُبتسماً، قلتُ:

 “سلام! أنا تقريباً مشيت”!

***

أنا أيضاً أُعرّف نفسي بالمشي، لكن المدينة بلا طريق، بلا شجر. في الحقيقة أحاول الآن أن أغطي على شعوري بالمودة الكبيرة والحب يغمرانني حين قرأتُ عن علاقتك باللغة العربية، وبكلمة “وئيدة” تحديداً، كما أحبها أيضاً وبتعاطف شديد مع البطء والكسل عموماً! الحقيقة لو أن حبيبتي قالت وهي تستعد لطهي الطعام لحفل دعونا إليه الأصدقاء: أن نيران الغاز بطيئة جداً، ثقيلة وجميلة ومتمايلة، ممممم.. وئيدة! لقبلتها فوراً؛ كي نحفظ للغةِ بريقها. وربما اعتذرت عن الحفل، كي يظل الوقت بيننا، بيننا فقط. وهو ما لم يحدث طبعاً، لا تعرف النيران الزرقاء هذه الرومانسية الحالمة على الأغلب، حتى أن الكلمات أيضاً ومخافة المطر كانت تسعى بلهفة إلى البيوت. الشوارع مزدحمة. الأرصفة كانت هي البيوت. البيوت جبال من الركام واللحم. مع ذلك فالكلمات لا تعرف الشعور بالحزن. لم تجرب العيش تحت القصف! تخيلي الكلمات وهي تجري في الشارع. مشهد مضحك، أليس كذلك؟!

هكذا، أحب أن تُفتح نوافذ غرفتي على صوت عصفور يغرد لا مزيج من الدخان والغبار ورائحة الوقود، وأصوات ضخمة تطلقها عربات النقل الثقيل جوار منزلي مثل نفير حرب، تقطع العالم نصفين، وكل نصف إلى نصفين، حتى يتفتت تماماً ويصير رماداً، مثلما تشق رأسي بألم لا يمكن احتماله من الصداع والصرع والتشتت الخارق. أما المنزل الذي يئن بدوره طوال الليل جراء ما تشوه وتصدع من جدرانه في إزاحات بشعة تحدث كلما تحركت العربات الثقيلة، فتهتز الأرض من تحتنا معاً، ويهتز لوقعها المنزل مرتجاً بخوف شديد من دون جدوى، من دون أن يسمع نحيبه أحداً.

أحب الجمال. أحب أن ترى الشمس كل يوم لوحتي المفضلة أعلى السرير، وأن تقرأ معي في المغيب، قبل أن ترحل لتنام أو لتوقظ آخرين في بلاد بعيدة. أحب أن أمد يدي فأقطف -مثل أيام/ أزهار الصبا- ثمار التوت عن أغصانها حتى تتصبغ يدي والثياب بألوانها الزاهية ويبهج روحي مذاقها الذكي، ربما أعدل عن فكرة الانتحار مرة! أحب أن أختبر موسيقى الكون بنفسي، في جريان النهر وتهادي الأمطار وحفيف الشجر! أن أجمع بيض الدجاج في الصباح من حظيرته لأجل الفطور، وأصيد الأسماك من نهر قريب لوجبة الظهيرة. أحب أن أرى وجه الله في عليائه وفي بديع خلقه، وأن تتناغم معزوفة الوجود في أرواحنا فلا يكون ضاغطاً، ضحلاً. أحب أن نتشارك أنا والكون سر حياتنا معاً، فهل هذا كثير؟!

لا طريق ونوافذ مغلقة. كثيرين نعاني من أمراض المدينة، ضجيجها وزحامها وحزنها الكامن في طوابع البريد وخلف نوافذ العربات وتحت الأرض في محطات المترو! القاهرة تتفوق على كل المدن في مزية التطوير الذي يقبض الروح ويشل الحركة والفكر ويغلق علينا كل مساحة للتنفس دون واجهة زجاجية لكافيه يقطع الطريق على البحر بقوة المال والجبروت وقبح النفوس المتحجرة وأولاد الزواني معاً، أو جسر خرساني لم يكن له داع من الأساس، أو ترك الشوارع والبيوت المتهدمة كأنها خرجت منكوبة من حرب ما، حرب لم تدخلها! تصوري معي، مدينة ليس بها مكان يصلح للمشي، السير على الأقدام في طريق مفتوح، به بعض الخضرة، وبعض الأمان من سيارات طائشة، وبه بعض بشر لا يتقاتلون بشكل محموم وعنيف لأبعد حد. به فقط، مكان لموضع قدم لم تتمنَ غير مساحة متواضعة لأجل المشي! فهل هذا كثير؟!

إلا أن الكلمات قد تكون، أحياناً، أجرأ على تجاوز المعنى، أو الخداع، حتى أنه قد تترادف فكرة الحياة بين اثنين بفعل المشي ببساطة! من هنا أحيا في المسير بلا هدف، المشي بلا انقطاع، المشي داخل رأسي! من دون وجهة، بماذا تفيد الوجهة أصلا غير من يرغب في الوصول؟ لم يكن يعنيني من البداية حلم أن أصل، ماذا يعني أن أصل؟! وأين بالضبط يمكن القول أني وصلت بالفعل؟ فما علامة الطريق، وعلامته الوحيدة أنه لا علامة؟! حيرة في حيرة، لا بداية ولا نهاية! هكذا ينضم إلينا أيضاً فريد الدين العطار.

هكذا أرى الكتابة مثل كهف ضخم، أو بئر تسقط فيه كل الكلمات مكتوبة بكافة اللغات. القراءة، ثقوب نُطل منها على الداخل. أما الصفحات الفارغة، فتؤدي معظم الاحتمالات أحياناً. حتى أن صديق سأل ذات يوم: هل تفضل أن تكون سمكة؟! هززت رأسي، وقد بدا الأمر كما لو أن السطر الأخير ليس ضرورياً.

الحقيقة لا يقتلها الصمت. الضباب وحده فعل. أوراق فارغة ورأس مزدحم. الهوة تبتلع الإثنين معاً؛ طمعاً في التلاشي.

***

أحب الطريق والطرق الخالية، أحب مطاردة الأبدية في عطر وردة تهديها لمن يمر دون اكتراث شجرة وارفة الخضرة تأمن سياف هذا الزمان، تأمن الأرصفة التعسة والجسور المعلقة الكئيبة، تأمن توحش البنايات والعلب الخرسانية، وتأمن ألا يحل محلها أشجار وهمية لأبراج تقوية شبكات المحمول، لا تورف الخضرة ولا تبهج الحواس بعطورها، ولا تسكنها الطيور الطيبة بطبيعة الحال.

أتخيل أن غصة عالقة بحلق أحدهم، يشعر بها تسد طريق الهواء إلى رئتيه، كرة من اللهب لا يستطيع إلا أن يبتلعها، فتظل مشتعلة على الدوام في جوفه! مثل كلمة لم يُلقى لها بالاً، ويسمعها قلبكِ مدوية، كرصاصة. شعلة من نيران نتسلمها تارة من أحبائنا وقد مرروا إلينا جراحهم، ومن ثم نضعها في أياد أخرى إذا جاء دورنا للاحتراق/ التطهر؟ أظن أننا نمرر جراحنا للعابرين أيضاً، أحباء أو لم يكونوا. كي تتوقف دائرة اللهب، علينا أن نشرب من نهر الحب، ربما تزهر أصابعنا للعابرين.

صحيح، لم أخبرك أني أحاول الرسم هذه الأيام أيضاً، في محاولة لتخفيف عبء الوقت والحنين. على اللوحة الآن: قط وعصفور وجدار عازل، والكثير الكثير من الورود على ضفة بعيدة. فكرت لو نجحتُ في عقد صداقة بين القط والعصفور، لكان أولى من محاولة تصيّد أخطاء الآخرين والبكاء. وقد حاولت سابقاً فتح كانتين صباحي أو مسائي للعصافير في شرفتي مثلما فعلتي، لكن المشروع فشل تماماً، لأنه لم توجد زبائن، لم تزورني العصافير مرة.

القصائد ذهبت، الشِّعر كان

النظر في وجه أمي ..

مثل صوتٌ ناشز بين قصيدتين وابتسامة رغم الضياع؛ كانت اللوحة تتردد بين صورتين. المشاعر التي اخترنا قتلها؛ كانت تتداخل مع وجه الحبيب يبتعد. أظن أن الشِّعر أيضاً فاعلاَ رئيساً في هذا الكون البائس على ما به من حروب ودمار، وإلا لماذا يا ترى حملت حبات الكاكاو نفسها من أقاصي العالم إلى راحة يدي؟! محفوفة بقصص الحب والمُخاطرة -كالطيران فوق الجبل أو الوقوع في غرام عيون لامعة- رحلة الحبات من أياد نساء عاملات وأطفال ورجال في الحقول، إلى متاجر عطارة وأشياء مشابهة، ومن يد بائع أسمر، إلى يد الصديقة العزيزة أسماء جمال عبدالناصر، ومن ثم رحلتها ذاتها حتى وصلت إليّ هذه الحبات دون غيرها، بينما تغازل الخيال مشاهد جولييت بينوش -في فيلم Chocolat الذي يليق ببدايات الأعوام فعلاً- وهي تطحن حبات الكاكاو لتصنع حلوى ساحرة من فرط جمالها، أقصد الحلوى وجولييت بالطبع! وأبتسم بامتنان بالغ مرة أخرى للصداقة وللحب، من دون أدنى شك في أن الحياة تصلح فقط في وجود هذه المعاني المدهشة، وفي تلاشي الحرب!

تلك الإبتسامة لم تكن بريئة. الكلمات تكذب أحياناً!

***

بترتيب خفي، يتزامن مع قراءة هذه اليوميات المستفزة للكتابة. بالأمس، أرسلت إليّ صديقة تونسية، تُعّلم الأطفال اللغة العربية بقسم المعرفة المرحة. من فوق الطاولات ينشدون الشِّعر أو في باحة المدرسة! اسمها ريحان بوزقندة. لعلك تعرفينها، الأكيد، ستحبينها وتحبين ما تفعل، لو أن الحياة لم تبخل ببعض الوصال. المهم، أرسلت إليّ مع حفنة منتقاة بعناية من الكلمات الشهية عن سحر الكتابة، وصورة من روايتها التي صدرت منذ أيام، ويبدو من استطلاع رأي بعض القراء أنها مدهشة، لكنها أشارت إلى جملة بعينها، وقالت أنها تأثرت بها للغاية عند سماعها أول مرة، وحتى فُتنت بالفكرة، فألقت بها إلى الورق كله.

ربما كان ولا يزال توارد الفكر بين البشر غواية الزمان باللعب، وسر هذه الومضة الخفية حين تقرأ تماماً ما كنت تفكر فيه للتو! أفكر في فضيلة المشي المساوي للحياة في عمومها، فتنبت على الحائط دهشة لا تصدق! اليوم أيضاً قرأت قصيدة تمدح التمشية خارج القبيلة! تقول بها الشاعرة “إيمان جبل” كفضيلة عابرة لحدود الزمن والأجيال، إذ بين الجدات والأحفاد كانت تقبع عادة المكوث كمساحة للتفاوض، حلبة للصراع بين ما يورثه الكبار من ضرورة البقاء، وبين ما يطمح له الصغار من حلم الطيران! والأيام بينهما مجرد تدريب/ ترويض على ضرورة التخلي عن خطيئة التغريد خارج السرب بكسر شوكة النفس، وتفتيت عظم الحلم، وحتى تقديم فضيلة الإياب إلى القبيلة على سائر الفضائل، من باب لملمة ما تبقى من الدموع والضحك المنسي، أو لجمع ما خذلته البلاد والقبيلة من أحلامنا عنوةً أو بحيلة ماكرة. هل جُني علينا إلى هذا الحد، كي لا يطمح كل منّا لأكثر من التمشية/ المشي خارج القبيلة/ المدينة/ النص؟! هل إلى هذه الدرجة “الخروج يعني الموت”؟!

لذلك أعيش داخل رأسي، أثناء الصحو، وفي المنام أكثر. أغرق لأيام في فيلم the beautiful troublemaker، عن الجمال المشاكس والموهبة المعذبة. عادة المشاهدة قبل النوم أو القراءة، تجعل من الأحلام وجبة لذيذة أحياناً، ومخيفةً معظم الوقت، مع ذلك فهذه تسليتي الوحيدة منذ زمن طويل. المهم، رحت في النوم وأنا أفكر في نهاية الفيلم التي تُركَت مفتوحة رغبة في تعذيب المشاهد الذي هو أنا بهذا الوقت، بالأخص وأن كثيرين من النقاد تعجبوا من أنه لم يحظ يوماً بالاهتمام الكافي، وحين قرأت عن الفيلم والمخرج جاك ريفيت عرفت أنه لم يملكوا للفيلم سيناريو محدد؛ كل ما هنالك أنهم قرأوا قصة لبلزاك وقرروا تحويلها إلى فيلم، بعفوية وارتجال تم تصويره. أما النهاية فهي مربكة لأنها تَركت سؤال الفن على اتساعه للأبد، هائماً في الفضاء الفسيح. هل هي الموهبة التي تستلب صاحبها فتجعله عبداً لها؟ هل هي العبودية التي نتلقفها جميعاً طمعاً في حيازة الجمال بوصفنا متفرجين؟ لا أعلم. شاهدتُ الفيلم لمدة أربع ساعات وأسبوعين تقريباً، ولم أصل بعد إلى إجابة. نمت. وهناك رأيت نفسي مُمسكاً ديوان أسماء جمال عبدالناصر الذي لم أحصل عليه حتى الآن -في العالم الواقعي طبعاً-، لا أعلم من أتى به إلى ستديو الرسم الخاص بالرسام “فرينهوفر” في قرية إيطالية تقريباً، هادئة بدرجة مخيفة! ولا أعلم من وزع علينا قصة بلزاك التي أُخذ عنها الفيلم، ولا أعلم من اكتشف اللوحة الوحيدة التي تركها فرينهوفر بعد موته، لوحة وحيدة عمل عليها بعد سنوات اعتزاله، لوحة وحيدة وضع بها سر هذا الجسد الأنثوي بالغ الجمال، وبحثاً عنه خلف العظام وتحت الأفخاذ والنهود، ولم يعنيه هذا اللحم في شيء حسب قوله، يبحث عما وراءه في شغف وطموح، وعجز في الوقت نفسه. هل وصل؟ هذا ما تستطع أن تفهمه من رغبة البطلة، بطلة اللوحة، “مريان” الجميلة المشاكسة، رغبتها في الرحيل عن حبيبها، لأنها ولأول مرة، رأت الحقيقة! ولم تلبث بعدها كثيراً حتى ارتدت القناع مجدداً، وربما القناع الجديد، وذهبت. بينما يلوح في الأفق -مبتسماً بمكر كعادته- وجه الروائي الطبيب محمد عبدالرازق، بين الكتب في غرفتي وأثناء ما أكتب حالياً! من دون أن يتحدث. أصدقاء نحنُ ولو لم نلتقِ يوماً.

وسط كل هذا، مُمسكاً بالديوان الذهبي، واللوحة المدهشة لقبلة جوستاف كليمت، القبلة الـ “مرفوضة للصالح العام”، وقرأت:

أنا لست حزيناً مع هذا

مجنون تماماً

أبكي؛ ‏

كي أروي في القلب

أشجار الحزن‎!‎

..

هذا يحدث دائماً، أن أعيش داخل رأسي.

***

الآن، القط تخلى عن نظرته الماكرة، توقف عن ترقب الهجوم على الفريسة المشتهاة. هدأت عينيه. حمل وردة بين فكيه كهدية وعربون صداقة مع العصفور الذي ينفض جناحيه فرحاً وراح يقف على المكتب كي يتأمل مكانه الشاغر. يتأمل القذائف تسقط في بلاد بعيدة، ويرى السحب سوداء ممزوجة بالأزرق والدموع.

سأنام الآن. سأكتب إليكِ مجدداً، ربما!

العصفور يرسل إليكِ تحياته أيضاً. حسناً؛ والقط والقط! كُف إذن عن عض أصابعي!

القاهرة/يناير 2024

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من مصر.