علي عبدالله سعيد وسرديّة الهَلْوسَة
العدد 286 | 29-4-2024
أحمد عزيز الحسين


      العتبة النّصيّة

يرشح المقبوس الأوّل، الذي استعاره علي عبدالله سعيد من “الضّحك والنِّسيان” لـ”كونديرا“، ووضعه عتبة نصّيّة لروايته “سُكّر الهَلوسَة“* بالقولبة والتّدجين والقهر الذي تتعرّض له الشّعوب المُهمَّشة، ويستبطن الآليّة التي تكشف بها هذه الشّعوب عن هُويّتها وذاكرتها المعطوبة، ويُظهِر كيف تكتسب هُويّة وذاكرة أخرى، وتغدو مُستلبَة ومغتربة عن واقعها، وتفتقر إلى القدرة على إدارة حياتها، والتّحكُّم بأفعالها.

ولتجلية هذا تعمد “سُكّر الهَلوسَة” إلى تقديم ما يدور في ذهن شخصّيتها الرّئيسة من تداعيات مستمرّة بعد أن أصيبت بالإرهاق، وأفرطت في تناول الشّراب، وأفضى بها ذلك إلى الوقوع في شَرَك “الهَلوسَة”؛ فأمسَتْ عمليّاتها الذّهنيّة أكثر اضطّرابًا وفيضانًا ممّا هي عليه في العادة، وتشخصّتْ لديها معظم الجمادات التي هيمنت على حياتها وذهنها؛ فلجأت إلى استحضار ماضيها وأصدقائها، سواءٌ أكانوا في عداد الأموات أو الأحياء.

       قَوْلَبة الهَلْوسَة وتنميطها 

     وقد أفادت “سُكَّر الهَلْوسَة” من روايات تيّار الوعي التي تنهض على إلغاء مركزيّة الحدث، وعدم التّقيّد بالمنطق الزّمنيّ المتتابع، وجمعت بين الاهتمام بنمط الحياة المتحلِّل الذي تحياه شخصيّاتها، وما يتجلّى من انعكاسات له في لا وعيها ولا شعورها.

و”الهَلْوسَة”، كما هو معلوم، فعل ذاتيّ ينمّ عن وعي سيّال في حالة حركة مستمرّة مع الزّمن والسّياق الموّار الذي يتناسج معه، ومادام السّياق في حالة حركة دائمة غير منظورة فإنّ الوعي الذي ينتج عن محاولة استيعابه وتمثُّله يبقى قاصرًا عن مجاراة حركته، والقبض عليها، كما أنّ السِّياق المتغيّر من حوله يمنعه من ذلك، ويحول دون تحديد حركته وتنظيمها، ويجعله قابعًا في اللّاشعور في حالة سُبات تامّ. ومع هذا فإنّ النّص السّرديّ، الذي يقتضي دائماً نمطًا ونظامًا ووضوحًا، ويتطلّب من مادّته أن تندرج ضمن قالب مُحدَّد، جعل أفضل طريقة لتجسيد ذلك كامنةً في استخدام وحدة الفعل والشّخصيّة، أي استخدام الحبكة الفنّيّة التي تنهض على الأفعال العضويّة التي تقوم بها الشّخصيّة عند اختراقها للحيّز السّرديّ وتفاعُلها مع الشّخصيّات الأخرى. غير أنّ سارد الهلوسة لا يستطيع أن يعتمد على الاستخدام التّقليديّ للحبكة بغية توفير الوحدة العضويّة القائمة بين الفعل والحدث في نصّه، لأنّ الهلوسة تفتقر أساساً إلى وجود أفعال سرديّة منضوية ضمن حبكة فنيّة منظمّة؛ وتتمرّد على القولبة والتّنميط، ويصعب إدراجُها في شكل منطقيّ يسهل تمثُّله واستيعابه؛ إذ تغدو معبِّرةً عن حالة الوعي الخاصّ الذي يدفعها إلى السّطح، ومع ذلك على الكاتب أن يُخضِعها للوظيفة الرّمزيّة التي يريد تشكيلها في نصّه.

وفي ظنّي أنّ الرّوائيّ الذي يحاول مقاربة مفهوم الهَلوسَة، ومَوْضَعَته فنيًّا في بنية مجازيَّة مُتخيَّلة، يواجه إشكاليّة فنيّة لابدّ له من تجاوُزها؛ إذ عليه أن يشكل قالبًا سرديًّا منظَّمًا يستطيع أن يستوعب ضمنه حالة مضطّربة تستعصي على القولبة والتّنميط، كما أنّه مُلزَم في الوقت نفسه بأن يشكِّل لها قالبًا منظَّمًا يحتويها، ويحول بينها وبين الاضطّراب، ويجعلها سلسة وقابلة للتلقّي والاستيعاب، أي هو ملزَم بأن يقوم بعمل فنيّ منظَّم، مع أنَّ المادّة التي يستبطنها، ويقوم بسردها وإعادة تشكيلها غير منظمَّة، وتجنح إلى الحركة والتّشتّت بشكل دائم.

ويحرص الكاتب، الذي يريد تقديم الشّخصيّة المُهلوِسة، على تسليم المتلقّي المفتاح التّأويليّ الذي يمكّنه من فهم آليّة عمله؛ إذ إنّ كلّ شخصيّة تستخدم لغة نمطيّة وتراكيب تتّسق مع ما تواجهه من قلق واضطّراب، بحيث يصعب على المتلقّي التّواصُل معها وفهمُها، واستنباط ما تستبطنه من دلالة قابعة في منطوقها اللَّفظيّ المُهلوِس.

ومع أنّ الهلوسة تنمّ عن عدم ترابط أفكار صاحبها وعدم منطقيّة هذه الأفكار، وانبثاقها من بنية اجتماعيّة محدَّدة، وسياق موضوعيّ تتعالق معه، وتخترقه في الوقت نفسه، إلا أنّ على الكاتب أن يسردها وفق آليّة منطقيّة، بحيث يغدو السّرد فيها مرتبطًا بوعي صاحبه، ولديه القدرة على اختراق الوعي الجمعيّ الذي تختزنه الشّريحة الاجتماعيّة أو الكتلة المُصمَتة التي يتحدّر منها المُهلوِس، ويسعى جاهدًا إلى التّحرُّر منها، والخروج على منظومتها الأخلاقيّة والسُّلوكيّة المهيمِنة، ووعيها الجمعيّ القارّ.

      الهَلوسَة بوصفها عنصرًا سرديًّا 

وفي ظنّي أنّ وجود “الهَلْوسَة” عند شخصيّة محدّدة يعني وجود اضطّراب داخليّ في العمليّات الذّهنيّة التي تحدث في لاوعي هذه الشّخصيّة، وفي الغالب تُسرَد الهلوسة في النّصّ بوصفها فعلا ذهنيًّا له دلالة محدَّدة، وليس بوصفها فعلا عجائبيًّا يدعو إلى الدّهشة والاستغراب، ويقوم الكاتب بتوظيفها كعنصر سرديّ في نصّه؛ ويُحيلها إلى محضن اجتماعيّ أو سياسيّ محدَّد هو الذي أوصلها إلى درجة الهلوسة، وجعلها سمةً تنميطيّةً قارّة لها.

وتعمد “سُكَّر الهَلْوسَة” إلى وصف العالم الذِّهنيّ لشخصيّاتها، وتتقصَى متابعة الانطباعات التي اختلجت في دواخلها، وهي تواجه سياقًا متعفّنًا وغرائبيًّا لا تعثر فيه على ذواتها، وتعتمد في ذلك كلّه على التّصوير الحسّيّ الذي يفلح في تقديم رؤيتها الجماليّة للعالم.

       جدل الهَلوسَة والرّتابة في الإيقاع الرّوائيّ

والشّخصيّة الرّئيسة في “سُكَّر الهَلْوسَة” تخفق في تجاوز ما تواجهه في الواقع من أزمات، وتضؤل قدرتها على الحركة والانتقال من حال إلى حال، وتعيش نوعًا من الرّتابة في حياتها اليوميّة، وتبدو ثابتة في مكانها لا تتحرّك على المستوى الأفقيّ، ولا تُعمّق علاقتها بالواقع على المستوى العموديّ. وفي ظنّي أنّ غياب الحركة على المستوى الأوّل ناتج عن كون الشّخصيّة مُهمَّشة ومقموعة ومُحبَطة وعاجزة عن الفعل في الواقع؛ ولذلك تبدو ثابتة في مكانها لا تبرحه، ولا تنتقل منه إلى غيره؛ ما يفضي إلى وجود رتابة في حياتها، والرَّتابة هنا تعني عدم وجود وقائع جديدة، تتطلّب من الشّخصيّة القيام باجتراحها لتساعد الحدث على التّحرُّك دافعةً معها الحلقات السّرديّة إلى الأمام بدلا من أن تبقى في حالة موات، ولذا فإنّ النّصّ السّرديّ لاينمو أفقيًّا إلى الأمام على المستوى الحدثيّ، بل يقف عند تفاصيل حياة الشّخصيّة الرّئيسة، ويلاحق يوميّاتها المتكرِّرة، وعلاقتها مع الشّخصيّات الأخرى؛ ولذلك أمست الرّتابة، التي تهيمن على آليّة السّرد مُسوَّغةً فنيّاً، وتتّسق مع رتابة حياة الشّخصيّات في المتن الحكائيّ، وتعكس حالة المَوات التي تعيشها هذه الشّخصيّات في المجتمع المُتخيَّل الذي يُوهِم به الخطاب الرّوائيّ نفسه.

      كَسْرُ القالب الرّوائيّ

وقد قامت الرّواية بتصوير ما يعتمل في ذهن شخصيّتها الرّئيسة من مشاعر وانفعالات وأفكار وهي في حالة توتُّر وقلق واضطّراب، واضطُّرَّت إلى اختراق القالب الرّوائيّ الكلاسيكيّ وبنية السّرد الخطّيّ، وتحطيم عمود السّرد لفعل بذلك، كما عمدت إلى نثر الوقائع في المتن الحكائيّ، وجعلت القارئ مضطرّاً إلى لملمتها وتجميعها في مسار حدثيّ مُنظّم بغية استيعابها وتمثُّلها؛ ولذلك تغدو الرّتابة التي تهيمن على آليّة السرد مُسوَّغة فنيّاً، وتتّسق مع رتابة حياة الشّخصيّات في المتن الحكائيّ، وتعكس حالة المَوات التي يعيشها المجتمع المُتخيَّل الذي يوهم به النّصّ نفسه ( انظر: ص 261).

    تقنيّة التّرقيم ووظيفتها السّرديّة

ولتجلية ذلك فنيًّا عمد الكاتب إلى تقسيم روايته إلى فصول، وجعل كلّ فصل يحمل رقمًا محدَّدًا لا عنواناً، ومع أنّ الأرقام المتسلسلة ترشح بوجود تطوُّر في مسار الحبكة وتتابُع زمنيّ في الحلقات السّرديّة، إلا أنّ هذه الأرقام مُفرَغة من دلالتها على الحركة والتّعاقب والتّنامي، وتقدِّم مشاهد سرديّة متنوِّعة من حياة الشّخصيّات، وتدلُّ هذه المشاهد على أنّ الشّخصيّات تعيش حالة اجترار في حياتها بسبب حالة المَوات والتّحلُّل الأخلاقيّ التي يرسف فيها المحضَن المُتخيَّل الذي تتناسج معه؛ ولهذا فإنّ الرّواية ترشح ببنية اجتماعيّة قهريّة توهم بسلطة اجتماعيّة وسياسيّة  متغوِّلة، وقد جعلتها هيمنتها تنشر العطالة والخمول في البنية الاجتماعيّة المسرودة، وتَحُول بينها وبين القدرة على الحركة، وهو ما أفضى إلى هيمنة الرّتابة على الإيقاع الرّوائيّ بوصفه نوعاً من التّوازي مع رتابة الحياة في المرجع النّصيّ الذي يُوهِم به النّصّ نفسه، وهذا ما جعل المتلقّي يشعر بحالة ضجر وتململ واختناق، وضيق في التّنفُّس، وصعوبة كبيرة في متابعة القراءة بسبب افتقار النّصّ إلى البهارات السّرديّة التّقليديّة.

    الإيقاع الرّوائيّ 

وقد حرص الكاتب على إقامة نوع من التّوازي بين الرّتابة في الإيقاع والرّتابة في حياة الشّخصيّات التي يتضمّنها الخطاب السّرديّ، إذ تخلو حياة شخصيّاته من التّغييرات الدّراماتيكيّة والجوهريّة، والتّشويق والمفاجآت؛ ما جعل النّصّ يتوقَّف عن النُّموّ أفقيًّا إلى الأمام؛ وينشغل بمتابعة تفاصيل حياة شخصيّة مُستلبَة تواجه في واقعها اليوميّ عالمًا استهلاكيًّا غارقًا في التّفاهة والضّياع والتّحلُّل والفساد؛ كما أنّ الكاتب يلاحق علاقة هذه الشّخصيّة بواقعها المأزوم، ويسرد هذه العلاقة على المستوى الأفقيّ، لا على المستوى العموديّ لكي يلاحق آليّة تهميشها، ويضع يديه على مسوِّغ ذلك.

       تشكيل المكان والزمان

     والمُلاحَظ أنّه ليس للمكان في الخطاب الرّوائيّ وجودٌ حسيٌّ ملموس بل له طابع ذهنيّ مجرَّد، على الرّغم من أنّ الكاتب منحه (اسمًا) أحياناً، وهو يتجلّى في المتن الحكائيّ على هيئة مكتب، أو غرفة، أو مقهى، أو شارع مظلم، غير أنّه بقي مكاناً هيمنت عليه السُّلطة، وأفلحت في تحويله إلى حيّز للقهر والغربة والإحباط، وقد جعله الكاتب قامعاً لشخصيّاته، ومانعاً لها من تحقيق ذواتها (ص254)، وإن كان قد أباح لهذه الشّخصيّات أن تجعله مُتنفّسًا لها أحياناً، إذ إنّ زوجة الجنرال المصاب بالعنانة كانت تلجأ إلى غرفة البطل الصُّعلوك كي تشبع حاجتها إلى الجنس صارخةً في وجه الجميع: ” لتذهبوا إلى الجحيم… جسدي أوّلا” ( ص60)، أمّا الجنرال فكان يعوِّض عن ضعفه الجنسيّ بزيارة الكباريهات مستمتعًا بوضع مبالغ نقديّة طائلة بين أفخاذ الرّاقصات أو نهودهنّ (ص 79)، وحين كان يلوذ بمكتبه كان يحرص على زيارة السُّجناء في قبوه، ويستمتع بتعذيبهم وإذلالهم (ص77).

أمّا الزّمان السّرديّ في النّصّ فقد أرخى بثقله وكلكله على الشّخصيّات الرّوائيّة، وتجلّى ذلك من خلال ما تركه من فواجع وإحباطات في حياة الشّخصيّاتّ، ولذا فإنّ البطل لايني يهلوس بغربته في حيّزه المكانيّ والاجتماعيّ، ويتحدّث عن حالة المَوات التي يواجهها في واقعه (ص 261)، مؤكِّداً أنّه لا خلاص له أو لغيره من المهمَّشين في الأوطان المقموعة إلا من خلال الإطاحة بالسّلطة ورموزها (ص 74)، ولاسيّما بعد أفلحت هذه السُّلطة في تحويل بلدانها إلى زنازين كبيرة (ص33)، وفي جعل شعوبها قطعانًا مطأطئةً ذليلةً.

    سرديّة البذاءة

      ومن الملاحظ أنّ اللّغة الرّوائيّة انتهكت علاقات السُّلطة في المجتمع الرّوائيّ المُتخيَّل، واخترقت الأعراف الاجتماعيّة ومنظومة القيم الأخلاقيّة التي تعمل على موضعتها في الواقع. وترشح الكلمات البذيئة التي استخدمتها هذه الشّخصيّاتُ بهذا الانتهاك (ص 29، 68، 104)، وتعكس رغبتها العارمة في تغيير واقعها، والتّحرُّر من هيمنة الشّريحة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تُهمِّشها.

وقد عمد الكاتب إلى استخدام المفردات البذيئة في تشكيل نسيجه السّرديّ بصفتها شكلا من أشكال تمرُّد الشّخصيّة على واقعها، ونوعًا من أنواع الخروج على الأعراف والتّقاليد الاجتماعيّة المُهيمِنة، كما شكَّل ذلك آليّة لدفاع هذه الشّخصيّة عن ذاتها، وتفريغ الشُّحنة الانفعاليّة السّلبيّة التي تختزنها ضدَّ السّلطة أو ضدّ الآخر عموماً، وتغدو الشّتيمة بهذا المعنى نوعاً من أنواع التّفاعُل الواعي بين الشّخصيّة المقهورة وواقعها، وشكلا من أشكال التّوازُن مع العالم من حولها.

والمُلاحَظ أنّ الكاتب أكثر من استخدام الألفاظ البذيئة على ألسنة شخصيّاته لكي تتناسب مع بنية هذه الشّخصيّات وتحلُّلها وتعفُّنها واستسلامها للعبث والضّياع وفقدانها للمثل والقيم الأخلاقيّة العليا، ولكي تشكّل نوعاً من الرّفض لواقعها المكتظّ بالأزمات، وجعلها نوعًا من التّنفيس عمّا تختزنه من ظلم وقهر، ومع ذلك فهو يلجم شخصيّاته أحياناً عن التّلفُّظ بالكلمات كما هي في الواقع، ويلجأ إلى حذف بعضها مستبدلا إياها بنقاط (ص 281)، أو حذف بعض الحروف منها خوفاً من الوقوع في شرك الرّقيب الأخلاقيّ  الخارجيّ ( ص 276).

تركيـــب   

أخيراً، لقد جمعت رواية “سُكَّر الهَلْوسَة” بين التّجريب والتّحرُّر من أعراف التّجنيس الرّوائيّ التّقليديّ، وحرصت على عرض مشاهد يوميّة من حياة شخصيّاتها، وجعلتنا نرى مدى غرق هذه الشّخصيّات في مستنقع التّحلُّل والفساد الذي يحيط بها، وقد كان هذا التّحلُّل شكلا من أشكال المواجهة مع الواقع من حولها، وأفضى بها ذلك إلى اختراق (المُقدَّس) و(المُحرَّم) بوصفهما شكلاً من أشكال الدّفاع عن ذاتها وكينونتها الإنسانيّة الحالمة.

وقد جعل علي عبدالله سعيد من شخصيّاته الثّانويّة العديدة مجرّد كومبارس أدائيّ مهمّته خدمة النّزوع العبثيّ الذي تعيشه شخصيّته الرّئيسة، كما أحدث نوعًا من الخلخلة في بناء الزّمن والمكان وحركتهما، ولجأ إلى تعمية المكان، وجعل الزّمان عائمًا غير محدّد، وإنْ ترك مؤشّرات زمنيّة وأفعالاً سرديّة تدلّ عليه، منها شروع السُّلطة النّصيّة ببناء عنابر الصّواريخ التي كانت شائعة في بداية الثّمانينيّات من القرن المنصرم،  كما أنّ الكاتب أطاح بالقالب التّقليديّ للرّواية؛ فتخلّت مرغمة عن خطيّتها وحبكتها وحلقاتها السّرديّة المتتالية، وغاصت في دواخل شخصيّاتها مجمِّدة الزّمن الخارجيّ، وباحثة عن الآثار التي نتجت عن العطب الذي أصاب هذه الشّخصيّات في المجتمع المُتخيَّل، كما خلخلت علاقة شخصيّاتها بالعالم من حولها، فأمست مُهمَّشة وطافية على سطح الواقع وصفيحه السّاخن، وأمسى هدفها هو البحث عن ذاتها الأخرى التي يمكن أن تجدها في الجنس والبحث عن اللّذَّة، والخروج على المواضعات الاجتماعيّة المهيمِنة، كما أنّ الكاتب تخلّى في نصّه عن آليّة التّشويق التّقليديّ، واستبدله بنثر شعريّ متدفّق يرشح بمهارته في بناء جملة مخاتِلة ومراوِغة معاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صدرت الرّواية عن (دار أوكسجين للنّشر) في (أونتاريو/ كندا) في العام 2023).

*****

خاص بأوكسجين


* أحمد عزيز الحسين: ناقد سوريّ له كتاب نقديّ مخطوط عن القصّة القصيرة في سورية، وكتاب نقديّ منشور عنوانه "بلاغة السّرد وتشكيل الدّلالة / قراءات في السّرد الإماراتيّ المعاصر"، فضلاً عن عشرات الدّراسات والمقالات النّقديّة المنشورة في المجلات والمواقع الثّقافيّة العربيّة.