يريد السيد جورج بيتر بربري في فيلمه “عا أمل تجي” Death of a Virgin and the Sin of Not Living أن يروي لنا رحلة أربعة فتية من قضاء البترون اللبناني، قرروا توديع العذرية على يديّ عاهرة حزينة، فكيف السبيل إلى ذلك؟ وهل لنا نحن معشر المشاهدين أن نتمنى أن يطول الطريق إلى الفندق الذي سيشهد الواقعة الجنسية المفصلية في حيواتهم، وأن يكون مليئاً بالمغامرات والأحداث المثيرة؟
يكفي إحالة ما تقدّم إلى أعماق الشخصية ليتجسد، وعدا ذلك فإننا حيال “فيلم طريق” لكنه غير معني باجتراح عوائق وأحداث مثيرة تعيق مضي أبطاله في طريقهم نحو الهدف المرتجى، فلا غيلان ولا مردة ولا هم يحزنون! ولعل أدوات فيلم بربري في هذا السياق تقتصر على المونولوج والحوار، الرهانان الناجحان بامتياز لجعلنا مأخوذين بتتبع وقائع تلك الرحلة، بالتوازي مع صوغ كل شيء وفق منطق المراهقة وبراءتها وعفويتها ولا مبالاتها وتناقضاتها، المراهقة المفتوحة على مصراعيها أمام الجمال من دون قيد أو شرط، كما هي دائماً وأبداً، ولعل من تخطاها وهو في السابعة والأربعين كما هو عمري الآن، سيجرفه الحنين إلى تلك الفترة العمرية التي لا تعوض، حين كان كل شيء يشفّ ويحنو، كل شيء مدعاة للتطلع، والفرح والألم متساويان كما لو أنهما شيء واحد يفضي إلى بهجة غامضة.
يستمسك الفيلم بتلك الروح، يجعلها مهيمنة من خلال الخلافات بين جان بول (جان بول فرنجية) وسعد (سعد الدين خباز) وصولاً إلى إتيان شخصية الفيلم الرئيسة (إتيان عسّال) وعدنان (عدنان دنكورة)، وهم لا يتوقفون عن الكلام والثرثرة طيلة الفيلم، بالتوازي مع حوار غير متناه تتلاطم فيه الأحلام والتطلعات والخلافات والترهات والبذاءات، بصخب وحدّة ومناكفة، بما يضيء على كيان كل شخصية ويطوّرها وهم يقتربون من الفندق وهو كل قصدهم. وهنا يجدر الحديث عن أداء الممثلين، الذي يهبنا حساً وثائقياً بمعنى أننا نجد أنفسنا أمام توثيق لرحلة هؤلاء الفتية “الحقيقية” إلى بيت دعارة للمرة الأولى، طبعاً هناك عناصر كثيرة تساعد على هذا الإحساس، سواء كان ذلك في الأداء والحوار، حيث يوحي هذا الأخير أنه مرتجل أو ابن لحظته، وصولاً إلى حركة الكاميرا، والأمكنة، ومن لنا أن نعتبرهم أبطال الفيلم فإنهم يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى كما ليسردوا علينا رحلتهم وحيواتهم.
حسناً يا قوم، لنضف إلى ما تقدّم عنصراً أساسياً في الفيلم، ألا وهو المونولوج، ولكل شخصية رئيسة كانت أم ثانوية لا بل عابرة أن تشاركنا مونولجاً وهي تروي الأساسي والمفصلي من الأحداث والأحاسيس، وصولاً إلى Flash Forward يضيء على مآلاتها ونهاياتها، فنعرف أنها ستموت في الأربعين أو السبعين، وأن هذه الشخصية لن تفارق لبنان أما تلك فستسافر وتموت بعيداً عنه. هذا يموت وهو نائم، وذاك يموت جراء جرعة زائدة من المخدرات. والدة اتيان تروي عشقها وشوقها إلى زوجها المتوفي، وأخته التي أجهضت، ولعل هذا شبيه بفيلم توم تايكور “اركضي يا لولا اركضي” مع فارق أن هذا الأخير يرينا مصائر الشخصيات بصرياً عبر لقطات متتابعة سريعة، بينما في “عا أمل تجي” يكون الأمر متروكاً لمونولوج منطوق.
يصل الصحب إلى الفندق المرتجى، ونمضي مع إتيان أول الداخلين إلى نعيم توديع العذرية، وعاهرة جميلة بانتظاره إلا أنها حزينة ومجبرة على ممارسة ما ستمارسه، وهناك يتجلى إتيان بمونولوج طويل، تارة يغوص في أعماقه ويبحث عن شعور من أصبح رجلاً رفقة خيالات جنسية متأتية من “أفلام البورن”، وتارة أخرى يستنبط مشاعر عاهرته الحزينة وهو يراها مثله “خائفة وخجلة وضائعة” وأنها على أهبة البكاء وأن أصوات تأوهاتها كاذبة، ويتخيلها وهي صغيرة، ونحو ذلك من تهويمات مراهق له “قلب صغير”، أو في تجسيد لتصدير الفيلم المأخوذ عن “دمعة وابتسامة” جبران خليل جبران: “لي قلب صغير/ أريد أن أخرجه من ظلمة صدري/ وأحمله على كتفي متفحصاً أعماقه، ومستحكياً أسراره/ فلا تترصده يا لائمي برماحك الحادة/ مسبباً خوفه واختفاءه/ ضمن قفص الضلوع”.
*****
خاص بأوكسجين