فجأة تجد أن لا جدوى من هذه الصداقة، لا بل هي مضيعة للوقت، وصديقك يثرثر ويثرثر إلا ما لا نهاية، ويمضي العمر وأنت تنصت لهذه الثرثرة، وكلما أنصتَّ أكثر كلما ترامى حديثه الذي لا طائل منه!
هذا ما يتوصل إليه كولم (برندان غليسون) في فيلم The Banshees of Inisherin “جنيات انشيرين” بالنسبة لصداقته مع باندريك (كولين فاريل)، إذ يقوم الأول بقطع علاقته مع هذا الأخير، فالعمر قصير ولم يعد فيه متسع لمن يحدثه لساعتين عن ما وجده في روث أتانه الصغير، وعليه قرر كولم أن يتفرغ للتأمل والموسيقى فالآخرون مملون وكل ما يطلبه هو بعض السكينة التي لا يعكّر صفوها هراء باندريك.
لن يستوعب باندريك ذلك! ستشكّل قطيعة كولم له كارثة وجودية، وسيسعى بكل ما أوتي من حب وعناد وبراءة وخواء استعادته، فكولم مع أتانه هو كل شيء في قريته المعزولة، القائمة على جزيرة معلقة بين الأرض والسماء، ولا ثالث لهما سوى البحر، وحانة يلتقي فيها كولم وبعض من أهالي القرية الذين لا يشكّلون شيئاً بالنسبة إليه، الأمر الذي يمتد لأخته (كيري كندون) التي سرعان ما ستفارقه وأتانه وأبقاره وماعزه وتلك الحياة الرتيبة.
لن يصدق باندريك وعيد كولم له بأنه وكلما سعى إلى الحديث معه سيقطع إصبعاً من أصابع يده اليسرى التي يعزف بها على كمانه، ولن يتوقف عن سعيه ذاك حتى وهو ينفذه بقطعه أول إصبع، وصولاً إلى إقدامه على قطع أصابعه الأربعة المتبقية، ورشق باب بيته بها، لكن حين يجد أتانه ميتاً جراء ابتلاعه واحداً منها يُستَفزّ ويُثار، ويقرر الانتقام من كولم.
تلك هي الأفعال الرئيسة في “جنيات انشيرين” الذي كتبه وأخرجه مارتن مكدونا، وكل ما يشكل الصراع الأساسي في الفيلم في إطار من الكوميديا السوداء، فالمسألة وما فيها أن كولم لم يعد يحب باندريك، أليس هذا كافياً؟ ولعل الإجابة على هذا السؤال بنعم أو لا، تشكّل المعبر الصحيح لقراءة الفيلم، فإن رضينا بـ “نعم” فنحن حيال فيلم يروي قصة متكاملة الأركان، دوافع شخصيتيه الرئيستين لا تخرج عن ما أسلفت، والصراع كامن في استعادة تلك الصداقة، والذي كلما تصاعد مضى نحو مزيد من الأفعال العنيفة، نحو المزيد من التشويه والحرق!
وإن قلنا “لا”! فإن ذلك سيقودنا إلى ما هو خارج الكادر، ووضع الحكاية البديعة في سياق تاريخي أولاً، وما ينتمي إلى العبث واللا معقول ثانياً، على اعتبار الفيلم يجمع بين التاريخ والفراغ، والفعل واللا فعل، والزمن واللا الزمن، كما في أدب بيكيت ومسرحه، وعليه فإنني أجدني منساقاً نحو الإضاءة على الفيلم وفقاً لهذين السياقين، وهذا نابع أيضاً مما أرّقني به الفيلم من أفكار بعد مشاهدته، كما كل فيلم مهم، مما دفعني لمشاهدته أكثر من مرة.
بالعودة إلى ما هو خارج الكادر، فإن حرباً أهلية تدور رحاها في الطرف الآخر من البحر، يتردد صداها وصدى دوي قنابلها بين الفينة والأخرى في الفيلم، لا بل إن باندريك يقول حين يسمع الانفجارات البعيدة “بالتوفيق، أياً كان ما تقاتلون من أجله”، وهنا يمكن الإشارة إلى أن المكان والزمان محددان في الفيلم، فقرية “اينشرين” وإن كان لا وجود لها، إلا أنها في إيرلندا، كما أن تاريخ الأحداث يعود إلى عام 1923 وتحديداً شهر أبريل/نيسان وهذا ما يطالعه باندريك على الرزنامة ليكتشف أنه في الأول من أبريل فينتعش لديه الأمل بأن قطيعة كولم له قد تكون “كذبة نيسان”، لا بل إن زمن الفيلم الافتراضي تبعاً لذلك يمتد لما يقرب الـ 55 يوماً، فالحرب الأهلية الإيرلندية انتهت في 24 أيار/مايو 1923، وهذا ما ينتهي به الفيلم حين يقف باندريك وكولم وثالثهما كلب، فيقول الأخير للأول “أظن أن الحرب انتهت!”، فيجيبه باندريك: “اعتقد أنهم سيعودون إليها، فبعض الأشياء لا تتوقف”.
حرصي على إيجاد هذا السياق التاريخي، والإيغال بالدقة، جاء جراء إحساس رافقني طيلة مشاهدة الفيلم متمثل بأن الجاري بين باندريك وكولم هو حرب أهلية أيضاً، فهي بين صديقين، لا يعيش أحدهما من دون الآخر، ولا محيد لهما عن ذلك، فكيف بكولم أن يلغي باندريك، كيف له أن يلغي وجوده، ولا يأبه به؟ لا يحق له ذلك، وباندريك لن يتنازل عن حقه به مهما كان الثمن، وليقطع أصابعه، ويفعل ما يشاء، فإنه سيواصل المطالبة بحقه بالوجود، ووجوده مرتبط باعترافه به، بحبه وصداقته، حتى وإن أفضى ذلك إلى حرقه له حياً! إنه صراع عبثي كما هي الحرب الأهلية، صراع عنيف يطالب فيه كل طرف باعتراف الآخر، لكن لا سبيل إلى ذلك سوى العنف في النهاية، أو كما تغني مغنية في حانة القرية “تخلصت من كلبي بأن أطلقت النار عليه”.
ومن جهة أخرى فإن أطياف بيكيت تحوّم في الفيلم، فالمكان لا شيء يحدث فيه فعلياً، كل شيء متوقف، فالأحداث بعيدة يسمع صداها فقط، وصلة الوصل مع الخارج لا تتجاوز الشرطي الذي يفارق القرية ليساعد في القتل ودفن الجثث، أو أخت باندريك الذكية المتزنة التي تهجر أخيها وتفارق القرية نحو مكان آخر فيه حياة وعمل، وليبدو كولم وباندريك كما فلاديمير واستراجون، يراوحان في ذات المكان والزمان، ولا يصلان إلى شيء في النهاية، فاستراجون لا يستطيع أن يعيش من دون فلاديمير، ولا يمكن لفلاديمير أن يواصل الحياة لولا اعتقاده ذلك، فلولاه لما كان استراجون سوى ركام من عظام، بينما كل ما نشهده في “جنيات اينشيرن”من أحداث تكون طارئة، وعبثية تساعد فقط في زيادة جرعة العدمية، وهي آتية من محاولة كولم إضفاء معنى لحياته، أن يترك أثراً بعد أن يفارقها، بضع مقطوعات موسيقية لا أكثر، وهذا ما يشكّل دوافعه في صراعه مع باندريك، كما لو أنه بات ينتظر شيئاً أشبه بـ “غودو” بينما كولم عاجز عن انتظار أي شيء ولا حتى تبين جدوى ذلك. سيعودان إلى سابق عهدهما كما سنرى في اللقطة الختامية، من دون أن يدفعنا ذلك للتساؤل ما إذا عادت علاقتهما، واكتفيا من محاولتهما إلحاق الأذى ببعضهما!
يشكّل “جنيات انشيرين” انعطافة في مسيرة مارتن مكدونا (1970) الإخراجية، ولعل استعادة أفلامه ستضعنا حيال هيمنة للكوميديا السوداء عليها، ويحضرني مع قراءتي لـ “جنيات انشيرين” فيلمه “ثلاث لوحات إعلانية خارج ايبنغ، ميزوري” (2017) مقدماً قصة قوية يتحول فيها المأساوي إلى معبر لمأزق الشخصيات الوجودية وتكوينها ومعالمها وهي تتغير وفقاً لأثر المأساة عليها، التي تكون طي النسيان والإهمال، وليحدث كل ذلك في نطاق بلدة “ايبينغ” المعزولة. ولعل بناء الشخصيات وتطورها وتغيرها في أفلامه يحيلنا على الدوام إلى تجربته المسرحية، هو الذي ألّف العديد من المسرحيات وأخرجها قبل أن يخوض غمار السينما.
*****
خاص بأوكسجين