الصديقان
العدد 291 | 26 كانون الأول 2024
علي عبدالله سعيد


منذ سنوات قليلة لا أكثر، كان خالد الهوشة زوجاً مخلصاً لحميدة العرندس ذات الثلاثين عاماً من العمر، صاحبة المؤخرة المثيرة في الحي وما بعده، ومحباً وطنياً كبيراً لبلاده. ليس لبلاده، بل لمدينته، ليس لمدينته، بل لزقاقه الذي يأخذه إلى باب البيت، بعد أن يعود طينة جراء معاقرة كؤوس الخمرة حتى وقت متأخر من الليل، مع أصدقاء سوء قدامى قاسمهم الفرح والحزن ورغيف الخبز، وبعض نساء المتعة العابرات، أو المحتاجات فعلاً للمقايضة، اللواتي كان مع أصدقائه يأخذونهن من تحت جسر اليمن السعيد. رغم أنه أمضى وقتاً طويلاً في زنزانات الاعتقال في فترة الاضطرابات المحلية الأخيرة، التي ما فتئت تطالب بإسقاط الديكتاتور، أو ملك البلاد المعتوه، كما اعتاد أن يلقبه، والتي فُسرت على أنها احتجاجات مبنية على الكراهية العقائدية، لم يغير كثيراً في نمط حياته.

***

إلا ان السيد الهوشة لم يتعود الكراهية العقائدية ولا غيرها، ولم يكن كارهاً لأحد في حياته، حتى لأعضاء الفرع الأمني القذرين، الذين اختطفوه وغيبوه وعذبوه، وانتهكوا له حرمة مؤخرة حميدة العرندس، التي استخدموها في القبو كأداة لإذلاله وإهانته في حفلات التعذيب اليومية. إذ إنهم كانوا يغتصبونها من فتحاتها كلها أمام عينيه، بعد تعريته هو الآخر بزلط ربه، مرة على الطريقة اليهودية، ثم مرة على الطريقة الرومانية، أو المسيحية، ثم مرة على طريقة نبي المسلمين الكفرة بالله ويوم الدين، كما كانوا يقولون له ساخرين من إيمانه المعتدل كوطني أهبل. غير أنه خرج من الأزمة، واعتبر سلوكهم المشين بحق الجمهورية والقانون، مجرد انتهاك أمني سافل لمؤخرة امرأة وطنية مسلمة ومسالمة. حتى إنهما لم يتكلما عن الموضوع مرة، وهما يمارسان حياتهما الحميمة كفردين ليس لديهما سوى الرغبة بتجاوز المحنة والقفز فوقها صوب المستقبل ما أمكن.

***

لم تكن السيدة العرندس تعرف طفلها ابن من هو على وجه الدقة والتحديد، أهو ابن الهوشة؟ أم ابن أحد من أولئك المغتصبين الجناة العصاة قتلة الشعوب والأوطان الذين كانوا يتناوبون على اغتصابها يومياً، بعد آخر مضاجعة لها للسيد الهوشة، التي لم يمض عليها سوى القليل من الوقت قبل الاعتقال، أو الاغتصاب الأول، دون أن يقيموا وزناً أو احتراماً لدورتها الشهرية المقدسة؟ حتى أنهما لم يناقشا أمر الطفل أو أبوته إلا مرّة سريعة، مع قرار ثنائي اتفقا فيه على أنه كائناً ما كان الأم،  يجب أن يكون الطفل ابن السيد الهوشة وحاملاً كنيته ولقبه، وحاملاً أيضاً لإرث أبيه المستقبلي الوطني وغيره.

***

حتى شيخ المسجد، كان ضده في نمط حياته وعبثه، وكان يلعنه علناً أمام الناس في صلاة الجمعة، معتبراً له نموذجاً سيئاً لرجال الحي، إلا أنه في باطنه، أو في خلوته كان يجلّه ويحترمه، نظراً لخدماته التي يقدمها للناس مجاناً في محنتهم الاجتماعية الوطنية الدينية السياسية المركبة والمعقدة. إلى أن اقتنع شيخ المسجد، أن الخمارة شأن فردي من شؤون خالد الفردية، بعد أن يئس من هديه وإرشاده من باب الضلال، إلى باب الصواب. كان يقول له مع ابتسامة غامضة: ليس لك إلى باب الصواب من مرشد أو هادٍ يا هوشة.. يا بن الهوشة.. بعد حياتك الفانية هذه ستذهب دوس دغري إلى حياة المسوخ.

ـ وربما أذهب إلى الجنة بعفوك يا شيخي!

***

في خمارة الخرنوبة، أي الخروبة المتواضعة في الزقاق المجاور، وغير البعيد عن عمله كثيراً، اعتاد خالد أن يدعو أصحابه المفلسين غالباً لمنادمتهم على بضعة كؤوس من المشروب المحلي الثقيل المرغوب دائماً، في أوقات فراغه من عمله، وفي ليالي عطلته الأسبوعية المعتادة، أو لحظات يأسه من الحياة، أو المستقبل الذي يطمح إليه. وفي أحيان نادرة، كان يدعوهم لتناول المشروب سراً في بيته. بعد أن تعد لهم السيدة العرندس وليمة عامرة بالأسماك واللذائذ، التي يشتريها الهوشة من صيادي بحر يسكنون إلى جواره. حتى هذا الصنف من البشر، كان الهوشة يفسدهم على طريقته، بعد أن يأخذ معهم عدته ورفاقه في ليلة صيد خريفية، أو ربيعية إلى عرض البحر. حتى أنه يقال سراً عن أن شيخ المسجد قَبِلَ دعوة من دعواته على العشاء، وتناول ما تناول من طيبات الحياة. إلى أن اختلطت اللغة ببعضها ما بين شفتيه وحلقه، ولم يكن يُفهم منه مصطلح، من مصطلح. إلى أن سلّمه الهوشة للحجة أم العيال يداً بيد. لأنه كان يترنح من باب الجنة في اليمين، إلى باب جهنم في اليسار دون انسجام، أو تماسك يذكر، وهو يفكّر فعليّاً بترك المصلحة لأصحابها.. أي المسجد. إذ.. ليس من الصواب أن يقضي المرء حياته غافلاً عن متع الحياة التي خلقها الله للعباد، ثم جاء الأوباش التقاة وحرموها عليهم.

***

كان جمال الطحش من أقرب المقربين إلى خمارته، والأكثر ضحكاً وسخرية من تلك الليلة التي لشيخ المسجد. لم يفض الهوشة حتى لأمه بما تعرضت له السيدة العرندس من انتهاكات تتعلق بنكح المؤخرة، أو الفم أمام عينيه.. سوى له، أي للطحش. بعد أن أطلقوا سراحه. كان يحكي له تفاصيل التفاصيل، كي يزيح ثقلاً باهظاً عن دماغه. رغم أنه كان يخفي ذاك الثقل عن السيدة العرندس بمهارة فائقة. بعد أن أعلن لها أنه تجاوز المحنة كما اتفقا، وكما يجب

***

بعد خروجهما من المعتقل بأشهر من الوقت، خضعت السيدة العرندس لمضايقات متتابعة من أحد الذين تمتعوا باغتصابها في الفرع الأمني. إلا أنها كانت تتملص بمهارة، أو بحجج صحيّة، أو أعذار قاهرة تتعلق بتربية الطفل، الذي أفرج عنهما بسببه كي لا تضعه في السجن. رغم أنها في كل مرة كانت تعلن له أنها لن تخون السيد الهوشة، أو الطفل، إلا بالطريقة التي خانته بها. أي اغتصاب باغتصاب في الزنزانة ذاتها. بعد ذلك أخذ يهددها عبر اتصالاته المتكررة، باغتيال السيد الهوشة بطريقة من الطرق، أو إعادته مدى الحياة إلى السجن. وبأنه يمكن أن يبني معها حياة سرية طويلة الأمد. دون أن يعرف الهوشة شيئاً عن ذلك. وبأنها سيدة من سيدات المتعة، التي ليس بإمكان المرء أن ينساها بسهولة. وأن كل النساء خائنات بالفطرة، ويمكنهن إقامة أكثر من علاقة في توقيت واحد. وليس لديها من مبرر كي تجعل من نفسها شريفة مكة. وأن من أتوا بها إلى السجن السري بإمكانهم أن يأتوا بها متى شاءوا بالتهمة ذاتها، أو بتهم أخرى أكثر خطورة. وبأن قدرها المحتوم، هو أن ترضى بما يطلبه منها، كي تنقذ نفسها والهوشة نفسه من خطر مؤكد قد لا يعرف طبيعته إلا الله تعالى.

***

متقابلين على طاولتهما القديمة في الخرنوبة. جمال + خالد يدقان كأسيهما كرفيقين منذ ربع قرن على الأقل. لم يختلفا مرة خلافاً يهدد وئامهما، أو أمن رفقتهما طويلة الأمد. حتى في الحرب الأهلية، تطابقت وجهات نظرهما حول ما يجري من تجيّير الطائفية القذرة في الاقتتال الهمجي، والقضاء المبرم على الشعور الوطني لدى المواطن. لم يكن مصير جمال كمصير خالد الكارثي. إذ.. لم يمض سوى وقت قليل على احتجازه حتى أطلقوا سراحه، بعد إعلان رغبته بالعمالة والعمل بجد وتفان للإيقاع بالغلمان والخونة الوطنيين، الذين لا همّ لهم سوى تهديم البلد فوق رؤوس أهلها لصالح الغرباء وشذاذ الآفاق.

***

في العادة، في نهاية الخمارة، يدفع خالد عن جمال منذ ربع قرن أو أكثر، بحكم أن خالد أكثر يسراً من جمال، إلا أن جمال في هذه الخمارة من اليوم أو نهايته، أصرّ إصراراً لا عودة عنه بدفع ثمن الخمارة كرد جميل مستحق.

ـ من أين لك أن تدفع يا جمال؟

ـ البارحة لأول مرة في حياتي أقبض مليون على الحساب.

ـ مليون؟؟؟؟؟؟

ـ أجل.. ثمن كائن..

ـ أي كائن؟؟

ـ لنفترض أنه ثمنك!

ـ ثمني يا تافه؟؟؟؟

ـ لنقل إنها مزحة تافهة.

ـ وهل تبيعني بمليون فعلاً؟

ـ ولا بمال الأرض يا رجل

***

لم تغب سيرة النساء عن طريق العودة المقفر، وهما يترنحان من باب الخمارة إلى باب الله. إنما ليس سيرة السيدة العرندس. بل سيرة نساء قديمات تعرفا إليهن قبل انجرار البلاد إلى الدم والمحنة. كان من طبيعة جمال أنه يحكي عنهن كسوقي مخمور من الخصر إلى ما تحت العانة ببوصة واحدة، على أنهن شراميط بالجملة والمفرق عشيقات وحبيبات وحتى أخوات وأمهات وزوجات، ولا تليق بهن سوى الكرخانه الكونية، مكانهن الطبيعي، بعيداً عن الفضيلة الإلهية.

ـ مرة.. قل شيئاً غير ذلك عن النساء يا رجل!

ـ هن كذلك.. لا تكن معتوهاً أكثر

ـ انس

ـ أنت تقول عن النظام إنه خائن وداعر ونظام كرخانة

ـ أجل هو كذلك

ـ إذاً النظام والنساء كلاهما سبباً قذراً في خراب الأرض والكون من الخمارة.. إلى بوابة السماء

ـ النظام السياسي للكون..؟؟ نعم، أما النساء؟ فـ لا..

***

للحظة تذكر جمال شيئاً مهماً لا بد أنه نسيه. من  تحت ثيابه، أخرج خنجره المعتاد، أخذ يصارع به الهواء بحركات بهلوانية، اعتادها خالد منه بعد الخمارة دائماً عبر زمنهما المشترك.

ـ مليون ليرة على الحساب.. السعر قليل.

ـ ما حكاية المليون يا جمال؟

ـ لا حكاية ولا هم يحزنون يا رجل؟

***

ما إن تقدما قليلاً في شارع الملعب حتى خيل لهما أنهما يسيران في بلاد مهجورة من البشر والحيوانات والحشرات. هناك كما هو متفق عليه، بعد أكثر من حركة بهلوانية تهريجية، وبحركة مفاجئة، يغزّ جمال خنجره بصدر خالد، ثم يعاجله بطعنة أخرى. لم تعقبها سوى “آه” ميتة لا ترتقي إلى مستوى الصرخة الحادة. يسقط خالد على إثرها مضرجاً بدماء صدره

***

أربعة رجال من حيث لا يدري جمال في سيارة ستيشن أوقفوه في العتمة. أشار أحدهم إلى جريمته النكراء، التي ارتكبها منذ قليل فقط. لم يدر ما يفعل أو يقول، لم يكن بإمكانه أن ينفي ذلك، ولا أن يوضحه لهم، إذ.. أن الرجل صاحب الفكرة، ودافع المليون على الحساب لم يكن بينهم. غير أن ذاكرته الثملة أسعفته في اللحظة المناسبة قائلاً بصوت مرتعد: المليون التي أخذتها ثمنه.. تأخذونها الآن ثمني، شرط أن

توصلونني

إلى

البيت.

*****

خاص بأوكسجين

 

 

 

 


روائي من سورية، مواليد اللاذقية 1958. من رواياته: “جسد بطعم الندم”، (2020). “البهيمة المقدسة”، (2020). “براري الخراب”، (2000). فازت روايته “جمالية المتاهة” بجائزة منتدى ابن خلدون، القاهرة (1993)، بينما نالت روايته الأولى “اختبار الحواس” جائزة مجلة الناقد، لندن (1992). صدر له في القصة: “موت كلب سريالي”، جائزة أصدقاء الأدب، دمشق (1996)، و”هكذا مات تقريباً" (1993). صدر له عن محترف أوكسجين للنشر رواية "سكّر الهلوسة" (2023).