كرسيّي الهزّاز
العدد 287 | 23-5-2024
نوفل نيوف


أعرف: سأتأخر!
موعدي مع الشمس لا يحتمل الانتظار. ولكني أنتظر. أنتظر على نار وأشرب القهوة. لا أمَل، ولكني أنتظر. ليس من عادة الشمس أن تنتظر. أنا من أنتظرها ولا أذهب إلى الموعد. ما يُقعِدني ليس شيئاً يستوجب الانتظار. ولكني أنتظر. والانتظار كتلة شائكة تكاد تسدّ حنجرتي. سأشرب فنجان القهوة الكندية الكبير بسرعة وأذهب. ليست قهوة، في الحقيقة. ليس لها نكهة ولا طعم. لا أتركها. سأشربها وأمضي.
أعرف: سأتأخر.
لكني أُمضي الدقائق الثمينة بتقليب بوستاتٍ سخيفة في النت، وأنتظر. سأتأخر. الشمس لا تنتظر.
أذهبُ أخيراً.

لا أجد مقعداً فاضيا في حديقة سان جوزيف. أجلس على العشب مستنداً إلى جذع شجرة كبيرة عالية. الشمس تلمّ آخر خيوطها وتنسحب تاركة مَن على العُشب على العُشب، ومَن على المقاعد ينفضون مؤخراتهم ويغادرون على مهل.

أكثرُ من يثير غبطتي ودهشةَ الروح مَن قلوبُهم نقيةٌ صافية كما يكتبون!
أغلقُ الكتاب. أعيد السؤال على كاميليا انتخابي فَرْد:

ـ هل تتذكّرين مدرِّسة الأدب الرائعة خانم شهرودي؟ كاميليا، هل ما تزالين تنحّين وريقات الحبق من طعامك؟
أيضاً لا تُجيب.
تلتفتُ كاميليا إلى عاشور الطويبي. تعانقه بيديها المحمرّتين من الشمس.

***

أقول للكدمات أن تكبر وتتّسع وتنتشر. أن تشق الجلد. أن تفتح منافذَ للكوابيس والأفكار وألوان الخريف الباكر في الشجر.

وردة تحت خطِّ الفقر. نسمة يدغدغها الخطأ. بعضُ الشرِّ عِلّتُه الجمال. في خيال الحجر شجرة تنتظر ابتسامتكِ. أختُ فاتِكَ تهدهد حصانَ المتنبّي القتيل.

آه! بَسمةٌ حافية، ولا فمٌ يقضم صباحَ الخير.

في الكرسيّ الهزّاز. وأنتَ تسبح خارج المكان. في زمان آخر. وأنت تنهض. تتمشّي. تمدُّ النافذةُ نظرها كي يضيع. تقلِّب ما صامتٌ. ما سارحٌ لا يراه الحبيب. تؤجِّل ما مُلِحٌّ لا رغبة فيه. وأنت لا شيء. تخلع عن عمرك شجرةَ التفاح المنسيّةَ خلف الشمس. تلقي به عالياً ليرتدَّ ويغطّيك. وأنت تُنصت إلى مُنكَرٍ ونَكير يرسلهما إلهٌ “بكلِّ شيء عليم” للتجسّس عليك. تجرُّ ضبابك على العشب الأزرق في البال. وأنت لا أحد. لا تفارقك ولا تنضمُّ إليك. برسائلها المتورِّمة من الانتظار. بوعودها المقلوعة بيديك. بالشِّباك المنصوبة بين قوسَين. لا تعود الأصواتُ إلى البئر. لا يزيِّن هذا المطرُ العشيّات. لا يغسل الزجاج. لا يُذهِب عن الطاولة الرنين. لا يكفُّ نحلُ الكلام عن الغليان.

تتمايل الشجرة في حضن الريح. ينخلع ذهبها. يتكسَّر إيقاعُه الأحمر المستطيل. تتقاتل أعضاؤها بالسكاكين. الزمن وقتٌ مستقطَع من ماراتون مصارعة رومانية. يتراكض اللاعبون بسلاسلهم بين الكواليس والخطوطِ السرّيّة ونعمةِ المراحيض. جموع المشجِّعين من الطرفين: تغلي. تتلمَّس أطرافها. جيوبَها. حناجرَها أحياناً. خناجرَها دائماً. وحيناً تحكّ القفا بالأنوف. الجمهور يتلمّس جِراحه وبقاياه. يرتعش. يئنّ. يتقلّب. يضمِّد شهيقاً بين النصل والموت. يتوَهّم طيفَ بصيصٍ قريب في الظلام. شخيرُ الحكّام ونعيق المعلّقين: رعدٌ ووعدٌ ونزيفُ شرايين. خوفٌ جديد يسكن الهواء وأرضاً يمتصّها البصّاصون.

دعني أتجَنْدَل وحيداً. أنا الثلج. يدُ العاشق خاليةٌ من النار. الصمت بدلة الموت التنكريّة. أخدعُ الأنهارِ الحياةُ. تداعب الشمسُ رأسي. تفلِشُ عطور الشجر والتراب. في برودة الصباح نهنهةُ مهجورةٍ تحت غطاء الرصيف. لا يُسكِر نبيذٌ تنقصه خميرةُ الحُبّ. لا تقتربُ النجاة. رأسي ثقيل يجعل الفراغُ منه دودةً مجنّحة في المنام. في بساتين خالد خليفة تتجدد الفصول أبداً. لا تتكرّر: “أحياناً ينهض ويتوضّأ. يرفع صوته بالأدعية. يغمض عينيه متوسِّلاً من الله الرحمة والغفران. يجلس على سجادة الصلاة كرجل عجوز يترك العنان لدموعه تنهمر بتقوى. أحياناً أخرى يرمي بالقرآن ويمزق صفحاته مردّداً: مَن يطلب منّا عبادته يجب أن يكون أكثر رحمة وعدالة. تجحظ عيناه ويغرق في نوبات هستيريا صامتة”. في مزار ميجي في طوكيو. تتزوّج الأميرة اليابانية أياكو رجلاً تحبّه من عامّة الشعب. تتخلّى عن لقبها الملكي، وفقا لقواعد البيت الإمبراطوري الياباني. ثدْيا الفتاة الكردية بارين كوباني حفرتان تفيضان بالدم. الوجه براءةٌ تائهة. قسَمات مشرفة على الانفجار بالبكاء. كل كلام صغيرٌ. باطلٌ. القلب والذاكرة منصّة لصرخةٍ بدائية. عارية. حارقة. ليس لهمجيةِ رسوخِ الجهالة قاع. حقيقة سوداء. لا نهاية لأشكالها ولا حصر.

***

تسأل نيران دودو عشيقها عبدو الصيرفي باستنكار:

ـ “أيحبُّ أحدُكم أن يأكل لحم أخيه ميّتاً”!؟

ـ لا والله! بل حيّاً! ـ يردُّ وعيناه تدمعان شهوةً وشهيّة.

في السرِّ والسرير والسريرة أنيابٌ لا تنام.

***

 بي بي سي:

شركة مطار براندربورغ، توقفُ العمل لتبدأِ من الصفر. “مغالطة التكلفة الغارقة” هي التردد في اتخاذ قرار الانسحاب من مشروع يثبت فشله منذ البداية. هي طريقة تفكير كثيراً ما نصادفها في حياتنا العملية أيضاً”.

***

كلُّ هذا السلام المظنون. كلّ هذه الحربِ الكونية السافرة…

أفتَكُ الثعالبِ الدجاجة!

كِليني لهمٍّ، يا أُميمةُ، يخترق الأمومة والأئمّة والأمم.

البؤس والغنى توأمان: مصنعُ كل قبيح.

يا لَبريقِ حريّةٍ فيها الإنسان ثرثارٌ أخرس.

*****

خاص بأوكسجين


مترجم وكاتب وأكاديمي من سورية. دكتوراه في نظرية الأدب من جامعة موسكو (1983). درّس في العديد من الجامعات الروسية والعربية، ونقل عشرات الكتب والروايات من الروسية إلى العربية.