قبلة بطعم البرتقال
العدد 287 | 23-5-2024
آية جمال


رؤية الأشجار، وقطف الثمار منها، والمشي في مساحات شاسعة، تحت السماوات السبعة، تداخل الألوان في لوحة فنية خلابّة، اللون الأحمر، والبُرتقالي، والأصفر، يرسم كل ذلك عالم غاية في العذوبة في مجال رؤية داليا. تقف مندهشة أمام ما تراه، ويملأها الصمت والغُفران.

سارت داليا ذات مرة بين أشجار المانجو، وراحت تقطف الحبات، وتلتهم ما بين يديها، تغوص في الثمرة، تلهو بها، تأكلها بقشرتها الناعمة، تلغوص فمهما ولسانها، وشفتيها وكفيها وهي منتشية تماماً. لا شيء يمكن أن يقف أمامها، أو يحول بينها وبين غرامها.

ومرة أخرى كان لها نصيب من أشجار التوت، تمشي بين الشجر وترفع رأسها إلى أعلى، فيتساقط التوت عليها، فتدثره في حجرها. تمد قدمها اليُسرى، تدفعها خطوة واحدة إلى الأمام، ثم تخطو باليُمنى، وتتسلق الشجرة العملاقة. يمتد الجذع إلى نقطة عميقة في التربة، وتتفرع الأغصان في كل اتجاه. تقف داليا على غصن قوي، تقطف التوت الأحمر، وتأكله، يمتلأ فمهما بالحبات عن آخره، تغرق يدها في اللون الأحمر القُرمزي. تستريح على الغصن، وتُمرجح رجليها في الهواء، ثم تتسابق هي والصبايا على من يلتهمن القدر الأكبر من التوت. تشتعل الشمس فوق رؤوسهن، يتصببن عرقاً، وتوتاً. يكدسن الحبات في أفواههن بلا تريث.

يملأ اللون الأحمر أقدامهم، كما لو كانت مُخضبة بالحناء. يتطاير شعرهن مع النسمات العليلة، تتمايل الخصلات مع الأغصان، ويرقصن مع الأوراق الزاهية.

يتعبن من اللعب، والتسلق، والتوت. تمتلئ معدتهن، يشعرن بالإعياء. ينزلن من على الشجرة، ويغرسن أقدامهم في التُربة الرطبة. يفرشن الحصيرة (زرقاء منقطة باللون الأبيض) تحت شجرة التوت الكبيرة، ويتظللن بظلها، يرتحن من الشمس التي خرقت رؤوسهن. تخرج نساء العائلة من دوار البيت (بيت أبيض شاسع مبني من الطوب اللبن)، ليقضين ساعة العصاري في صحبة شجرة التوت، تُسميها فاطمة “الحجة الكبيرة”، باسم “نرجس”. تحب نرجس أكثر من كل الأشجار، والحيوانات، والبشر، الموجودين حولها. تجلس فاطمة، وتسند ظهرها إلى جذع نرجس تماماً، تغمض عيناها، وترى الشمس وهي تغفو على جفنيها.

تذهب البنات في غفوة قصيرة، بينما النساء يقطّعن البطيخ، والمانجو، إلى مكعبات صغيرة. ويضعن قطع الطماطم على الجبن القريش في طبق أبيض مزخرف، وترش هند عليه النعناع والزعتر، وتضع زيت الزيتون، وتحمر العيش على المنقل. تقشّر أمينة البيض الملوّن، وترش عليه رشة ملح وفلفل.

يفتحن أعينهن من غفوتهن، يغسلن أياديهن في “الطرمبة”، وتشرب داليا من الماء المتدفق منها “بق” كبير، “ساقع”، يروي عطشها، ثم تتنهد بصوت عال.

يأكلن، وينصتن إلى القصص التي تحكيها النساء بفضول وشغف، يرغبن في أن يدخلن إلى “عالم الكبار”، ويدركن ما لا يعرفن ولا يفقهن. تدمع عينيّ داليا، وهي تسترق السمع إلى عمتها فاتن التي تقص بهمس على أختها ماجدة، ما تفعله ليلاً، (الليل الذي يملكه الكبار) مع زوجها إلى أن يغلبهما النُعاس مع بزوغ الفجر، ثم تضحك ضحكة مجلجلة.

تأتي القطة مشمشة، “بُرتقالية اللون” وتجلس في حِجر داليا، وتموء. تنونو بلا توقف، تشعر داليا بالغضب. تهمس لها، رافعة حاجبها إلى أعلى قائلة “يا ستي اسكتي بقى عايزة اسمع”. لا تسكت، تتأفف داليا هذه المرة، وتحمل قطتها في حُضنها وتذهب إلى زاويتها الأحب من العالم الذي تعرفه.

ترمي الطوبة في الترعة الخضراء، وتتبع بحدقتي عينيها حركة الطوبة والماء من حولها وهو يتحول إلى دوائر صغيرة، تكبر وتتسع. تلقي الأحجار لتمتزج بصوت طشششش الذي يرنّ في أُذنيها كنغمة موسيقية جميلة.

تتأمل داليا غزل البنات الذي يسبح في زرقة السماء، بينما تتذكر البوسة التي ذاق بها يوسف شفتيها وتركها في دهشة من أمرها ذات مرة، لكنها لم تدركها تماماً. راحت تتخيل طعم القبلات التي تود تذوقها مع حبيبها يوماً. أرادت بشدة أن تحظى بقُبلة بطعم البُرتقال الذي تحبه. قُبلة حلوة ولاذعة في آن واحد، فيها مرارة مُحببة إلى نفسها، وتترك آثراً طويلاً على شفتيها ولسانها، يمتد إلى الصباحات التالية، وتظل رائحة البُرتقال تلاحقها أينما حلت.

عندما سألت داليا صديقتها سلمى عن طعم القبلة الذي تحبه، فردت بلا تردد “طعم مِلح البحر”. صمتت داليا وجلة لأنها لم تذهب إلى البحر يوماً، وبالتالي لا تتخيل طعم القبلة بشيء لا تعرفه. تمنت في سرها أن تكبر بسرعة، وتصبح كالنساء اللواتي يلتهمن القُبلات في الليالي، وينتشين من فرط اللذة، وراحت تعد على أصابعها عدد القُبلات التي يمكن أن تدرك شفتيها في الحياة، وتحمد اللَه على البوسة التي آتت بها إلى الدُنيا.

في حجرة أمينة عمتها، اختلست داليا النظر إلى كل ركن فيها، ووقعت عيناها على الملابس في الدولاب، والتصقت بقمصان النوم. تأكدت من أن المفتاح في الباب، وخلعت بيجامتها، واختارت بعناية قميصاً من الستان الناعم، لونه وردي فاقع، ولديه شق كبيرة عند الصدر، ومفتوح من الجانبين. نزل القميص على جسمها في انسيابية مُفرطة. شدته من عند الصدر والخصر إلى الخلف، وضيقته بيدها بإحكام، ثم رشقت فيه دبوساً كبيراً. وراحت تمشي بأناملها على جسدها. أمام التسريحة، كبّت كل ما تراه على وجهها: البودرة، الكُحل، قلم الروج، ملمع الشفاه، مُورد الخدود، وسرحت شعرها البُني، وفردته على ظهرها، وشبكت فبه “البنس” على شكل فراشات مُتطايرة لامعة. رفعت رقبتها إلى أعلى، وفردت ظهرها، ووقفت كنعامة زرقاء.

راحت ترقص حتى تألمت قدماها، واعتصرت ألماً، وأنساب منها الدم، بينما لصوت “طرقعة” الجزمة الآتية من الصالة على الأرض، أن يقف جماحها إلى هذه اللحظة تماماً، وإلا هتترنّ علقة أسخن من رغيف العيش وهو طالع من الفُرن للتو.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من مصر.