القبلة على العنق تدغدغني
العدد 287 | 23-5-2024
بهجت المصطفى


لبس أفضل ثيابه وخرج يمشي نحو البار، قميصٌ أبيضٌ وسروال فاتح. ضوء النهار يغمر الطرقات رغم اقتراب الوقت من التاسعة مساءً، مفارقة الضوء لليوم تتأخر هنا ربيعاً وصيفاً. وصل تماماً في الوقت المحدد. سُرَّ لوجود طاولة فارغة فوضع معطفه على الكرسي وفتح رسالتها على موبايله وهو يهم بالجلوس، تقول إنها ستتأخر قليلاً.

طلب بيرة وتشاغل بتصفح موبايله. رفع رأسه بين وقتٍ وآخر ليختلس نظرات سريعة على الجالسين إلى الطاولات حوله. كانوا خليطاً من “الهبستر”، والشبان والشابات العاملين في وظائف تدفع جيداً. بدا له ذلك من وجوههم، وقد أخفَى الدخل الجيد الكثير منها. استغرب كيف تشكّل رواد هذا “الكوكتيل بار” الذي افتتح فقط منذ شهرين قريباً من شقته؛ بحيطانه غير المصبوغة وأثاثه قديم، إنها آثار مرور الزمن الباقية من دون تجديد ليهبه روح مدينةٍ تقاوم مفارقة التسعينيات. أحسّ أنه الوحيد الذي يرتاده من أصول شرق أوسطية، رغم أن المنطقة هي غيتو شرق أوسطي كما تصفه الصحافة المحلية.

جاءت إيما متأخرة عشرين دقيقة. تلعثم بعد أن تبادلا بضع كلمات، وتبادر إلى ذهنه أنه عادة ما يكون أفضل في اللقاءات الأولى. صدمته ملامح وجهها التي تشبه ملامح وجهه. تساءل ما إذا كان ذلك حقيقة أم وهم! هو الذي يكره ملامح وجهه.

أحسّ أنه يحتاج لكحول قوي ليفُكّ تلعثمه الطارئ، فشربا كوكتيلا شديد الكحولية. كانت تسكن أيضاً في نفس المنطقة، ولم يهتم كثيراً بحديثها، بل ركّز بملامحها، وشعرها القصير الذي يماثل طول شعره. وخلص مما وصل سمعه إلى أنها تكبره بعامين، وتعمل في إحدى الإدارات العامة الكثيرة في هذه البلاد.

انتبه بعد فروغه من نصف الكأس أن سبب تلعثمه هو طريقة لفظها للكلام، ربما تعاني من شيء عقلي لا يستطيع تسميته الآن! بدأت مع كأس الكوكتيل الثانية بالحديث عن معاناة أمها، قالت إن باقي أفراد العائلة لا يفهمون تصرفاتها النزقة، وأن أمها تعاني من شيء أنتقل لها من جدتها التي عاشت الحرب العالمية الثانية في برلين. هزّ رأسه موافقاً على انتقال الصدمة من جيل إلى آخر، وقد كان يحني ظهره محاولاً الاقتراب منها ليسمع جيداً ما تقول جراء الموسيقى وصخب الآخرين حولهما.

ذهب إلى الحمام، وحين أرخى سرواله الفاتح بدت له أنها ما زالت مراهقة رغم أنها في الثلاثينيات. وعندما غسل يديه اقتربت منه بنت في العشرين من عمرها وهمست:

–          أعرفها!

–          مَنْ؟

–          التي تجلس معها!

ثم ابتعدت بخفة وهي تبتسم بغموض.

أرته “كوميكس” ترسمه وتضعه على انستغرام، وهي عبارة عن رسوم “ميم” بسيطة لوجوه مع تعليق “كليشه” تحته عن المواعدة في برلين، كأن ترسم وجه رجل بشعر مجعد وشارب مفتول وتحته تعليق: “شكراً لأنكِ استمعتِ لهمومي اليومية في الشهور الماضية. أعتقد أنني غير جاهز لعلاقة”. ابتسم مجاملاً. تجنب الحديث عن الحرب مداورة كعادته، حدثها عن أسفاره الأخيرة، عن ما يحب أن يفعل بعد العمل.

بعد منتصف الليل وهو عائد إلى شقته، لام نفسه. لِمَ قال لها “دعينا نلتقي مرة أخرى؟” دمعة طفرت من عينه وهو يمشي تحت جسر القطار. أحسّ أن الحياة تعانده بقسوة في السنة الأخيرة، والفكرة الطفولية عن مغادرة هذه المدينة نهائياً مسّته مجدداً.

في الأسبوع التالي، طبخ لها خضار بالكاري وحليب جوز الهند ورز.

“ألمس هنا ولا تلمس هناك”.

“القبلة على العنق تدغدغني”.

لم تحسّ بشي عندما لمس حلمة ثديها الصغير، الصغير لدرجة أنه مكوّن من حلمة فقط. توقف. ابتسم وهو يقول لها “دعينا ندخن سيجارة في البلكون”.

لبس سروال بيجاما وتي شيرت، فيما ارتدت روباً قطنياً بنياً طويلاً، يعلّقه في الممر، ولحقته إلى البلكون الذي يحوي كرسيين وطاولة خشب.

انتبه وهو يقلّب في حسابها على انستغرام أن لديها آلاف المتابعين. رفع رأسه وقال لها:

–          يبدو أنك مشهورة؟

–          قليلاً.

ابتسمت.

المنشورات تمت مشاركتها آلاف المرات وكلها عن موضوع المواعدة في برلين. وضع الموبايل على الطاولة ونظر إليها وإلى الليل التي تغرق فيه نوافذ المدينة وابتسم. تشجّعتْ وكسرت الصمت، وراحت تتحدّث عن قطتها. قالت إنها تأتي إلى فراشها في الصباح وتلحس جبهتها لتوقظها إلى العمل، وأنها تشعر بحزنها فتجلس ساكنة في حجرها دون أن تطالبها باللعب.

*****

خاص بأوكسجين