“سلام”.. إنّه العطاء وليس الأخذ
العدد 256 | 23 أيار 2020
نوار عكاشه


على الحد الخفي الفاصل بين حقيقتنا ورؤية الآخر لنا؛ تلعب المخرجة الأردنية زين دريعي (1989) في شريطها الروائي القصير “سلام” (2019، 15د) وتنسج حكاية تلهمنا إعادة التفكير في خياراتنا وأسلوب تعاملنا، وتنبهنا على طيبة ذواتنا كي نصونها من شر استغلال الآخر لها. تعالج موضوع “العطاء” وكيف يمكن أن يتحول إلى “أخذ” بِنظر إليه المُستفيد منه من دون إيلاء أي تقدير لهُ أو باعتقاد مفاده أنّ العاطي راضٍ ومستعد للاستمرار بعطائه حتّى وإن جار عليه وجعله ضحيةً لِرغباته ونواقصه.
يتناول الفيلم حكاية سلام (ماريا زريق) الزوجة المُحبّة والمخلصة لِزوجها عمار (زياد بكري) ومحاولتها تجاوز عائق عدم القدرة على الإنجاب ولو اضطرت لِتحمل كافة أعباء الأزمة وانعكاساتها، مما يجعلها تخوض صراعاً غير عادل بين حبّها واستقرارها العاطفي والعائلي، سواء من خلال رغبتها بِالأمومة من جهة، وإدانة المجتمع لها كَامرأة يُعتَقَد أنّها عاقر ولا تناسب فحولة رجل شرقي من جهة أُخرى، ما يؤدي إلى تدمير سلامها الداخلي تحت الضغوط النابعة من معتقدات وتنبؤات غير صحيحة.
القسم الأكبر من الحالة الإلهامية في الفيلم (إنتاج علاء الأسعد) لم تأتِ من قصته، بل من طبيعة شخصية بطلته، وبذلك حققت دريعي تميز شريطها عن باقي أفلام قدّمت الفكرة ذاتها، فَاتجهت نحو طرح مختلف بعيد عن الميلودراما التقليدية، إذ إنها صنعت وركّبت تفاصيل سلام كَامرأة محبة للحياة بالدرجة الأولى، وعلى هذا الأساس شكّلت باقي سماتها، فجاءت شخصية مُسالمة لها من اسمها نصيب وافر، شخصية حاملة للنقيضين (البراءة والقوة) وبالتالي امتلكت حكمة اجتماعية تحميها وترشدها نحو هناءة العيش أياً كانت الظروف، فهي واعية ومُتفهِمة وصبورة، لكنها ليست ضعيفة أبداً.
لم تخشَ مواجهة واقع عدم قدرتها على الإنجاب، بل صرحت به دون إذن أو تردد لِعائلة زوجها، وحين اكتشافها زيف الواقع؛ لم تغير أقوالها بل كتمت الكذبة كي تحمي زواجها القائم على الحبّ، واحتضنت زوجها بحنان واهتمام كي تعبر لهُ أنّها باقية بجانبه في السراء والضراء غير آبهة بِكونها أصبحت ضحية صمته.
لم يكن عمار يتقصد أن تعتبر سلام صمته حين سؤالها له عن نتيجة الاختبار الطبي علامة الرضا عن توقعها، لكنه بالنتيجة فعل ذلك، وكان في فعلته ظلمٌ كبيرٌ لها، إذ كان الأجدر بِه إعطاء إجابة واضحة أو نفي توقعها، فَأدى صمته لالتباس خاطئ وتعاظم الأمر حتّى تحول لمشكلة هزّت متانة علاقة الزواج القائم على حبّ كبير واضح. إنّه صمت الرجال المكسورين، والنساء غالباً من يدفع ثمن انكسارهم!

هكذا تأسست وتطورت أزمة سلام التي لا تروم سوى حياة مستقرة وهادئة مع من تحبّ، ورغم حاجتها الأنثوية الفطرية للأمومة؛ إلّا أنّها راضية بما قسمت لها الأقدار، فَكابرت على أزمتها واهتمت بمراعاة وصون مشاعر زوجها بصمت.
لكن الكذبة تتحول لِوصمة مدعومة بِالأحكام الاجتماعية، فَتصبح ضحيتها وهي البريئة منها.
إنّ غياب الحقيقة عن عائلة الزوج أحدث تبادلاً بالأدوار ليصبح الظالم مظلوماً، وتغدو سلام بأعينهم زوجة غير مناسبة وعلى ابنهم الزواج بغيرها، والظلم الأكبر يقع حين يخضع عمار دون تردد لرغبة أهله متجاوزاً حقيقة الأمر. هي أنانية الرجال حين تجد تربة صالحة تنمو وتتغذى بها، لاسيما حين يتعلق الأمر بِإمكانياته التناسلية. تعلم “سلام” أنّ ذاك الزواج الآخر لن يدوم، ولن يُضيرها قبول أمر مؤقت ومحكوم عليه مُسبقاً بِالفشل.
في هذا المحور وقد أصبحت سلام تحت الأمر الواقع؛ عادت دريعي لتُثري شخصية بطلة فيلمها، فَشكلت قرارها من طينة روحها النابضة بِحبّ الحياة، فَكانت امراة حرّة انتصرت لنفسها على أنانية من أحبّت، وفي انتصارها انتصار لِكلّ امرأة معطاءة لكنها لا ترضى الهوان والإجحاف.
لاقى الفيلم ترحيباً في العديد من المهرجانات السينمائية بعد عرضه العالمي الأول في قسم “آفاق” في الدورة 76 من “مهرجان فينيسيا السينمائي”، ونال جائزة النجمة الذهبية كَأفضل فيلم عربي قصير في الدورة الثالثة لـ “مهرجان الجونة السينمائي”.

*****

خاص بأوكسجين


ناقد سينمائي من سورية.