*”بالحبِ وحده تُبعثُ الأشياء”، مثل من أمريكا اللاتينية.
تروي الكاتبة أميناتا فورنا تفاصيل الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي في سيراليون، بلدها الأصلي، عبر روايتها المؤثرة “ذاكرة الحب” (The Memory of Love)
تنقل مأساة بلدها، عبر قصص تتنوع بين الحب والكراهية، الرضا والانتقام، السعادة والتعاسة وسواها من المشاعر الإنسانية المتناقضة. والتي تبلغ ذراها في زمن الحرب. تتركز عقدة الحكاية الأساسية حول ذاكرة الحب، كما هو عنوان الكتاب، انطلاقاً من قصة حب معقدة من طرف واحد، بين الياس وصافيا، لتتفرع منها باقي القصص.. مشكّلة ذاكرة الحب رغم الألم الممتد عبر معظم صفحات الكتاب.
تدور أهم الأحداث حول مصائر ثلاثة أشخاص هم يوليوس وصافيا زوجته والياس زميل يوليوس في الجامعة. وحول تقاطعات تلك المصائر ونهاياتها المؤلمة. يموت يوليوس في الفصول الأولى من الكتاب، لتترمل صافيا الشابة الجميلة. فيتزوجها من أغرم بها من النظرة الأولى، الياس زميل زوجها.
تبدأ الرواية بمشهد احتضار الياس كولي، أستاذ التاريخ المتواضع، على سريره في أحد مشافي العاصمة.
راوياً ذاكرة حبه للمعالج النفسي البريطاني الشاب أدريان، القادم كمتطوع ليشارك في حملة استشفاء لضحايا الحرب، عبر تشجيعهم على رواية آلامهم. يصف مشهد الاحتضار سرير الياس في المشفى ونحوله، حيث بالكاد يُلاحظ جسده تحت الغطاء. يتذكر الياس قصة حب حياته مع صافيا ويقول لأدريان: ” بينما كنت أمشي ذات صباح باتجاه الجامعة سمعتُ أغنية كانت تنبعث من راديو على رفٍ عبرتُ قربه. أغنية من البعيد، البعيد جداً عن حب ضائع. هكذا حين تلمح امرأة للمرة الأولى، امرأة تدرك أنك تستطيع أن تحبها. وحين تتجاوزك تلك المرأة تشعر بالفقدان وبهاجس الفقدان”.
سرعان ما يقصف الفقدان زواج يوليوس وصافيا سريعاً. إذ يرافقنا يوليوس في الفصول الأولى من الرواية، ثم يموت بشكل تراجيدي بعد التحقيق معه في قسم البوليس. لن نستطيع الجزم ما إذا كان الياس هو من وشى بصديقه أم ان الانقلاب وما رافقه من اعتقالات وتصفيات هما من خطف الأكاديمي الطموح؟
في المشفى المتواضع وهو أهم جغرافيات الرواية، والذي يُستخدم بأشكال متعددة شاملة، من الإسعافات الأولية البسيطة، إلى مداواة الجروح، إلى مكان لإجراء عمليات جراحية أعقد، كبتر الأعضاء المصابة أو عمليات التوليد، وكذلك لاستشفاء ضحايا الحرب، كمصح لعلاج الذاكرة المعطوبة.. أو باختصار كمسرح لاستعراض كل أحداث الرواية.
نتعرف على كاي، الطبيب الشاب الطموح صديق نينبا (ابنة الياس كولي من صافيا) في الجامعة، والحبيب الشغوف. سيفهم كاي بعد زمن مرير أسباب ابتعاد نينبا عن أبيها. ويعرف سر هروبها من كل مكان يذكرها به وبوشايته بأصدقائها، حين قاموا بالتظاهرة الطلابية، حيث اختفى كل من شارك فيها إما موتاً أو إعاقة أو كمرتزقة في حرب سيخسر فيها الجميع. ستفهم نينبا لمَ منعها والدها من الذهاب إلى الجامعة في ذلك اليوم؟ ولن تسامحه حتى في اللحظات الأخيرة من حياته. لن يتسنى لها ذلك، إذ تموت قبله في ولادتها العسيرة لابنتها من أدريان. ابنة أدريان ونينبا اليتيمة ستصبح في عهدة كاي الذي يلغي مشروع ذهابه لأمريكا، بسبب تلك الطفلة.
خلال محاولات كاي الذهاب إلى أمريكا، عبر مساعدة صديقه تيجاني الذي سبقه في الوصول إلى “ضفة الحلم”؛ يحيا يومياته في المشفى كمسرنم بالكاد ينام، دون حساب للزمن، مستسلماً للذكريات، التي تستنفذهُ. وغارقاً في واجبات المشفى التي لا تنتهي.. فمن تقطيب جرح هنا، إلى بتر ذراع هنا، أو ساق هنالك.. أو حقن مريض أرق، لكي ينعم بالنوم، أو مساعدة شخص على الموت الرحيم، بأقل ألم ممكن.
ويبقى “كاي” أسير تهويمات ذاكرته مع نينبا، وشكل لقاءاتهما.. ذكريات تصيبه بما يشبه الشلل، أمام قوة حضور ذاك الحب في ذاكرته. نقرأ في “الفصل الثامن والعشرين من الصفحة 235:
“منحت الحرب تكثيفاً جديداً لممارستهما الحب. كانا يلتقيان كلما تمكنا من ذلك في ساعات حظر التجول أو العمليات الجراحية. ظلام تام؛ لم يكن هناك ضوء ولا غاز للطبخ.. كانا يذهبان أحيانًا من دون أي كلام أو طعام. كل ما كانا يفعلانه فقط هو ممارسة الجنس. تأتي ذكريات تلك الممارسة ل ” كاي” من اللامكان يقف ممسكاً بفنجان ورقي زهري حلو ورائحته كرائحة الكحول، الغرفة مزدحمة وحارة ذكريات نينبا؛ رائحتها وطعمها؛ جلدها الناعم وعضلات مؤخرتها؛ الرطوبة الذائبة تصعقه كانفجار. لا يمكنه فعل شيء حيال ذلك سوى أن يثبت في مكانه وينتظر تلك اللقطات أن تعبر.”
يفضل كاي تمضية أوقات راحته القصيرة في بيت أخته، مكرساً نفسه لعباس ابن اخته الوحيد واليتيم، الذي فقد والده في حروبِ الآخرين، مثل آلاف الاطفال من جيله.
ما المجدي في الكتابة عن الحرب بدلالة الحب، وقد مات الأحباب ولم يبق من بيوت يعود إليها أصحابها؟ تدعو الكاتبة أبطالها للاستشفاء عبر الاتكاء على الذاكرة، كي نتخلص من المؤلم فيها ونثبت الجميل، مهما كان قليلا. فأي حرب ستنتهي مثلما هي سيرورة الخراب البشري، كما عرفناه فيما قرأناه في الكتب وكما نشهده في أيامنا هذه. وإن كان للناجين من فرصة للقول والإدلاء بشهادة، فلتكن عن الحب كعلاج وخلاص إنساني من بشاعة الألم. قد يكون الفن أكثر قدرة من أي أداة أخرى على فهم مآسي الشعوب، بشرط انحيازه الأساسي لرواية الحقيقة ما أمكن.
في نهاية روايتها تنوه الكاتبة بأن أبطالها مجرد شخوص متخيلة أو روائية، بنتها استناداً على حكايات مبعثرة ومتفرقة. وإذ قامت أميناتا برواية تلك الآلام، بدلالة الحب واستعاراته؛ فقد نجحت في استثمار التوثيق التاريخي للمأساة كعامل يخفف ألم قراءة لمثل هكذا تجارب
—————————————
فازت رواية ” ذاكرة الحب” بجائزة أفضل كتاب في دول الكومنولث 2011، ووصلت تصفيات جوائز أدبية هامة منها: جائزة “أورونج” البريطانية 2011، وجائزة الأدب الأوربي 2013.
يمكن الاطلاع ضمن مواد هذا العدد على ترجمة لفصل من الرواية.
اسم الكتاب
ذاكرة الحب
اسم الكاتب
ميناتا فورنا