صوت شعبٍ صامت، نطق الجميع باسمه
العدد 191 | 21 أيار 2016
نادين باخص


نجحت عتاب شبيب في روايتها الصادرة حديثاً “موسم سقوط الفراشات” (دار ممدوح عدوان) في صهر قصص الحرب الكثيرة التي يوجد منها الكثير في جعبة كلّ سوري، فوجدت حلّاً ذكيّاً لتقديمها دون أن توقع نفسها أوّلاً، والقارئ ثانياً في متاهة كثرة الأحداث والشخصيات، وذلك عبر بناء روايتها على شخصيّة أساسية هي نزار، وتساندها شخصية نور.

يقصّ كلّ من نزار ونور القصص على بعضهما البعض، ومن خلالهما تورد الكاتبة أفكاراً لابدّ أن تغضب الأطراف المتنازعة لأنّها تحمل ما يكفي من موضوعية غير محبّذة من قبلهم.

تبتعد الكاتبة عن “لغة الحرب المواربة” كما سمّتها، وهي اللّغة التي اعتاد الناس استخدامها كأن يقولوا “قتلوا، فجّروا، خطفوا حرّروا.. دون توضيح الفاعل لأنّ مَن تخاطبه قد يكون عدوّك”، فتسمّي الأشياء بأسمائها، وتعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وتجرّم المجرم من أيّ طرف كان، وهو ما يميّز هذه الرواية لأنّها كُتبت وسط الصراع دون أن تتحيّز لجهة: “لا أستطيع الإعجاب بأبطال هذه الحرب، كلٌّ منهم مرّ بدهليز الموت وخرج بحذاء ملوّث بدم الضحايا”، لذا تقرّر بعد صفحات عدّة من بداية روايتها الانسحاب “متنصّلة من مأزق الحكاية” تاركة البوح لـ نزار، معترفة بأنّه “يحدث لبعض الحكايات أن تكون ورطة حين يتعلّق الأمر بوطن”.

لا تترك عتاب شبيب شخصيّة هامشية في الحرب إلا وتكتب عنها وعن الخراب الذي لحق بها، فتلك المرأة الستينية التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها وسفر أولادها ظلّت ترفض الاعتراف بخراب بلدها متمسّكة بعِشرة العمر التي تربطها بمنزلها وحيّها ومدينتها، إلى أن رأت بائع الحليب الذي يتردّد منذ ثلاثين سنة على الحيّ يُضرَب ويهان من قبل أحد الجيران الذي “لا يريد لغريب دخول الحيّ” بعد مقتل ابنه. عندها فقط علمت “أنّ المدينة تخلّت عنها وأنّ أوان الرّحيل قد حان”.

تمتلك عتاب شبيب تلك الحساسية المنشودة في الرواية، يتلمّسها القارئ في لغة لا تتدّخر فرصةً لاستحضار عشرات التفاصيل التي تلتقطها الكاتبة في زمن حرب عمي عن عظائم الأمور والمصائب، وفقد الإحساس بأيّ مأساة، فكيف بتفاصيل يهملها المرء في أيام الخير عادةً، إلا إنّ الكاتبة تلتقطها بحسّ إنساني عميق: “شجرة الياسمين قرب الباب العتيق هي الأنثى الوحيدة التي تسترق السمع لأحاديث رجال المقهى”.

تعجّ رواية “موسم سقوط الفراشات” بالموت، لدرجة أنّ القارئ كثيراً ما قد يشتمّ رائحة جثث تنبعث من السطور: “كيف بإمكانك مصافحة الموت كلّ لحظة ولقاؤه في الشارع وأنت تحضر بقالتك؟”، إلا إنّها قدّمت قصصاً لم تُسمع في وسائل الإعلام، فتحدّثت عن خزائن تُركت ممتلئة بكلّ أنواع المقتنيات، وعن أسواق المسروقات التي فرشت الأرصفة بعدما فرّ الناس من بيوتهم، وتركت شخصياتها تتجول فيها، وعن كتب مسروقة اهتمّت نور بتقصّيها في رغبة مجنونة منها لتقيم “معرض الكتاب المسروق”.

وعلى الرّغم من تفاهة قيمة الأشياء التي فقدها الناس بمقابل الأرواح التي زهقت، والأجساد التي عُذّبت، إلا إنّ الكاتبة شبيب تثير هذا التفصيل الذي لا ينفصل عن بنية روايتها التي تنطلق بالدرجة الأولى من بثّ روح إنسانية نبيلة غيّبتها الحرب في كلّ تفصيل من تفاصيلها: “لم أجرؤ على شراء أيّة قطعة، هذا لأنّ بعض الرّوح يعلق في الأشياء”.

“الرّصاص حتّى لو لم يصب، إنّه دائماً أسوأ أسباب الموت”. بهذه الجملة تلخّص عتاب شبيب سلسلة ميتات لا تُعدّ حدثَتْ خلال سنوات الحرب التي قاربَت على الخمس، مات فيها مئات الأشخاص قهراً، يمثّلهم في الرواية أبو مطانيوس الذي أصيب بالاكتئاب خلال الأيام العصيبة التي مرّت بها مدينة حمص عقب شهر فبراير 2012 وانعدام الحركة في الشوارع في ظلّ سيادة النار المنطلقة من أنواع الأسلحة شتّى، ليلاقي مصيره بعد أشهر حُرِم فيها من طقسه اليومي في الخروج من منزله صباحاً، والذهاب إلى أصدقائه ليلعب معهم النّرد. قد يبدو سبباً سخيفاً ولكن مثل هذه التفاصيل البسيطة التي افتقدها الناس وغيرها الكثير هو ما يشكّل حياة الناس اليوميّة التي كانوا يعيشونها آمنين.

تقول: “أخبار الوطن تجعلك تتحسّس جيبك بقلق، وتنزع الورد من أحواضه لتغرس بدلاً منه خضاراً، شرفات حمص تزيّنها الخضار المتقزّمة، في الحرب تقتصد في التسوّق وتسرف في الحبّ”.

ليس الموت هو الحقيقة الوحيدة في رواية “موسم سقوط الفراشات” بل مجانيّته. فموت بشارة مثلاً وهو صديق نزار ونور مثل موت سوريين كثيرين “لا يضيف شيئاً لأيّ جهة، إنّه يضيف فقط مزيداً من المرارة لما تبقّى لنا من عمر”.

وما يحسب لها حقّاً أنّها نجحت في إيراد كلام الشعب الذي نطق الجميع باسمه في حين أنّه ظلّ صامتاً، لأنّه لا يريد سوى أمانه ولا طاقة له للدخول في نزاعات دموية أو حتّى كلامية، وهو أمر من الصعوبة أن يأتي به كاتب في زمن حرب كهذه، خصوصاً بالنّظر إلى كتب عديدة صدرت خلال السنوات الأربع الأخيرات لا يخفى انحيازها لطرف معيّن، فالإنصاف والموضوعية من الندرة في روايات الحرب لا سيّما وأنّ كاتبها يسعى من كتابته إلى إثبات الحقيقة التي يعرفها، أو التي يعتقد بصحّتها، أو التي يريد أن يروّج لها بغضّ النّظر عن صدقها أو زيفها. تقول الكاتبة شبيب: “خرج الوطن عن السيطرة، لم يعد بإمكان قوّة إيقاف جموحه. عربد جارّاً معه النّاس في جنون لا يحتمل، جنون لم يلحظه سوى من وقف في الشرفات يراقب مدركاً منذ البدء عبثيّة الانخراط ضمن أيّ فريق”.

وعلى الرّغم من مآسي الحرب الكثيرة التي تقدّمها رواية “موسم سقوط الفراشات”، إلا إنّ الكاتبة عرفت كيف تعزف على الوتر الإنساني على طول الرواية، بدءاً من فكرة أننا “لم نكن سوى فراشات، والحرب حوّلت الوطن إلى موسم واحد تتشابه طقوسه في سقوطنا”، فهذا تلطيف لبشاعة الموت اليومي الذي ينال من الصغار والكبار منذ سنوات خمس في مدينة حمص التي تدور فيها أحداث الرواية الحرب أو الحرب الرواية.

إنّه نزوع النّفس البشرية الأزلي للحياة في أشدّ لحظات مواجهة الموت: “اضبط ما تبقّى من روحك قبل أن تعطب، لا تنفق انفعالاتك على الصور الدامية، احتفظ بها لامرأة تحبّك”.

اسم الكتاب

موسم سقوط الفراشات

اسم الكاتب

عتاب شبيب

عدد الصفحات

192

الناشر

دار ممدوح عدوان 2015


كاتبة من سورية. من مؤلفاتها رواية بعنوان "وانتهت بنقطة"" 2009، و""أُخفي الأنوثة"" 2012، و""حمص ويستمر"" 2015."