قلب مفتوح
العدد 283 | 20-2-2024
زياد عبدالله


إلى عزت عمر (أبو العز)

 

ثمة عامل توصيل عبر الشارع. راقبتُ خطواته السريعة، وحذاءه العتيق المغبر المهترئ، كما لو أنه ولِد به وراح يكبر معه وهو يقطع به كل المسافات لحين عبوره هذا الشارع!

على الرصيف ثمة رجل يحمل ابنته الصغيرة وبجانبه زوجته، يفكّر بعبور الشارع، لكنها مغامرة كبرى، خاضها العامل عن طيب خاطر، فالتوصيل مسألة حياة أو موت، وهو لا يفكّر بهذا الأخير، طالما لا ترافقه ابنة أو زوجة أو أحد!

ثمة هواء عاصف بعض الشيء، والجو بارد رغم أن درجة الحرارة 22 مئوية.

لا أعرف لماذا أكتب إليك هذا!

ربما أتتبع شيئاً من توصيفك لكتابي بـ “الواقعية النقدية”! أعود وأقرأ ما أسلفت! نعم واقعي ونقدي ربما! أو أني على الأرجح، وجدت ضالتي في هذا المسمى، فأنا أكتب، ومن يكتب بحاجة ماسّة لنقّاد مثلك – وما أقلّهم –  وأنت تستخلص معبراً إلى القراءة على نحو “صحيح” أو وجهة نظر تصيب وتخطئ، أو إيجاد سياق، وهذا متعذر إلى حد بعيد عربياً…على كلٍّ، ما أوردته يستدعي أن تكون هنا لتوضحه، لتضيء عليه!

فاتني ذلك، وأشياء كثيرة أخرى! وأنت لم تكن في وارد عمر مديد، فقلبك النبيل مفتوح على الدوام، وواقعي لم يدفعك للتوهم بأنك ستعود إلى حلب يوماً، بينما أتخيلك الآن تمشي من مقهى القصر إلى مطعم البستان، والمسافة أختزلها إلى مجرد خطوتين أو ثلاث، ألم تكن تلك هي المسافة! معبراً وضاء من اسبريسو القصر إلى عرق البستان!

هل هذه واقعية نوستالجية؟

هل إن رفعت نخبك عالياً، سيبدو الأمر انخطافة غير واقعية بالزمن وتمركزاً حول المكان الأول، متجاهلاً مكاناً أمضيت فيه 33 سنة من عمرك؟

هل من ذرة واقعية إن تخيلت مرقدك الأخير في حلب؟

أجد في كتاب الشاعر عبده وازن “قلب مفتوح” سنداً لافتراضاتي وهو يقول: “بت كأنني أحيا في عالم حائر بين أن يكون ماضياً أو حاضراً محلوماً به. تُرى أيكون الاقتراب من الموت والخروج منه هما اللذان يخلقان حال الحيرة هذه؟ أهي مواجهة الموت تكشف الوجه الآخر من الحياة، الوجه السري، الراقد في أعماق النفس؟”

كيف هي حلب الآن، طمّنا، حتى وإن غادرتها منذ عام 1990، ومرّت سنوات طويلة لم تزرها؟ كيف هي اللاذقية التي أمضيت فيها فترة خدمة العلم؟ فهذا على شيء من “من سيرة المكان وأهله” عنوان كتابك عن حلب.

في قراءتك لكتابي “سورية يا حبيبتي” حدَّثتني عن أم عمر، بداية لم أتبين من تكون، ثم تذكرت نعم هي المرأة المسنّة في قصتي “الطريق إلى حلب”، وابنها اسمه عمر، أسميتها في مقالك[1] “العجوز الحلبية”، وكلما أوردت شيئاً عنها كنت أردد في نفسي: هذا ليس إعجاباً بالقصة فقط بل إنه الحنين القتّال، وأنا أتبينه بين الأسطر ساطعاً وضّاء، وأنت تنتقل من قصة إلى أخرى، متفحصاً لها واحدة تلو الأخرى، مستخرجاً منها عوالم هؤلاء “المفعمين بعبق الحقول والأرض الندية”، والوطن قد تحول إلى “قفص يبحث عن عصافير” عنوان روايتك.

أسأل في آخر مرة التقيتك:

– ممكن دخّن؟ يزعجك أن –

– دخّن خيو…

وتضيف:

– هات سيكارة!

ندخن سوية. أقول إنه قلب مفتوح. ليس هذا اسم عمل جراحي خضع له قلبك، بل هو توصيف لقلبك النبيل. أتلقّط ما أنفثه من دخّان لعله يقلل ما يصل قلبك، وأنسى أنك توليت الأمر بنفسك، فأنت ممن لا حاجة لهم بأحد!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  المقال بعنوان “سورية يا حبيبتي”… عن المفعمين بعبق الحقول والأرض الندية. وهو ضمن مواد العدد 283.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.