الجلوس على عنق الزجاجة
العدد 283 | 20-2-2024
ياسين غالب


هناك تبادلات في جوانب عديدة من الحياة اليومية والاجتماعية التي تتناولها في اللهجة العراقية. تظهر القنينة الزجاجية “البُطْل” باللهجة العراقية المنكلزة من Bottle القنينة، تظهر كونها الرمز اليومي للكولا أو الحليب المعقّم في الأسواق العراقية، فكيف وصلت إلى كونها أداة تعذيب مروّعة في شعبة التعذيب وكعربون “تعارف” يجلس المتهم بدون لباس داخلي على عنق زجاجة مجهّزة، مثبتة جيداً من الأسفل؛ ضغط وزن الشخص يساعد على اختراق عنق الزجاجة للشرج، يتّسع جسد قطر الزجاجة بالتدريج من 1 إلى 5 سم، وربما أكثر حسب نوع “البُطْل” المخترِق لمؤخرة المتهم. يتم ذلك دون أيّة رحمة أو مرهم حتى يصل إلى حدّ الاغتصاب مع الإغماء. وعندها يشعر المحقّق بنجاح مهمّته بانتزاع اعتراف ولو كاذب من المتهم.

يحتاج المتهم إلى سنة من العلاج في حال تم الإفراج عنه.

الجرح المعنوي لن يمحى أبداً.

القنينة الزجاجية “البُطْل” تُملأ بالدم بدل السوائل الغذائية كالحليب، العصائر، أو حتى الويسكي. نقلة من الممتع إلى إلمرعب، من سوائل الراحة والمزاج إلى سوائل الألم الحاد حدّ الإغماء.

يقع هنا التناقض بين الروتين اليومي المستساغ في تناول القنينة الزجاجية “الحليب مثلاً” بواسطة الفم، وليتحول الحليب رمز النقاء والطفولة إلى دمٍ من الشرج، إنها سريالية عالية تذكرني بنصّ الرومي العظيم: “أنا الدم وأنا الحليب”، فهذا جاء في الأصل من ذاك، وما تقوم به شُعَب التعذيب هو تدوير للأشياء.

انتقال دور القنينة الزجاجية إلى التناول من فتحة الشرج هو رمز لفضّ الطفولة والبراءة وكسر الذات إلى الأبد في اغتصاب معنوي وجسدي خلال حفلات التعذيب العراقية التي لم تنقطع منذ بدأت. ربما تكون قد تقلّصت، ولكنها ما زالت جزءاً من روتين حكومي بصبغة غير رسمية “لا يتم توثيقها ولا يتم توثيق الأوامر التي أعطيت لممارستها”.

بالنسبة للمواطن الضحية، فإن هذا الواقع المروّع الذي يمكن أن يكون خلف الستار، هو بمثابة هتك لمنظومة قيمه، بلمس وإيذاء مناطقه الحساسة، هو الذي تربى على فكرة الذكورة المرتبطة بالشوارب والقضيب والعضل وأيّ تماس مع مؤخرته يحيله إلى محتوى أنثوي خالص. عدا عن كونه مغتصَب بالأساس، فإن فكرة هذا التحول “الجندري” مرعبة ومذِلّة بما يفوق الألم الجسدي في تهتّك أو تمزّق الشرج.

بينما يتحول ضابط التعذيب من موظف يؤدّي عمله فحسب إلى كائن آخر، كلّ همّه الإطاحة “برجولة” الضحية وقتله معنوياً. لا يستطيع المغتصَب بالقنينة النظر حتى إلى عيون ضابط التعذيب وذلك بتأثير نفسي وشعور بالدونية التي وصل إليها الضحية. بعض الضحايا تقرّر الانتحار أو قتل هذا الضابط المغتصِب يوماً ما، فالكون على اتّساعه الهائل لا يسع الاثنين معاً.

في إطار المبدأ النفسي للذة، يبرز الصراع بين رغبة الإنسان في البحث عن المتعة وتجنّب الألم، وكيف يؤثر ذلك على تشكيل سلوكياته وقراراته. يشير التحليل إلى أهمية هذا المبدأ في تفسير السلوكيات البشرية وتأثيره على القرارات الحياتية. يعبر مبدأ اللذة، المعروف بالألمانية باسم “Lustprinzip”، عن السعي الغريزي للمتعة وتجنب الألم لتلبية الاحتياجات البيولوجية والنفسية. يُفهم مبدأ اللذة بدقة كقوة أساسية موجهة نحو الهوى.

لماذا تقارب اللغة العربية بين العذاب والعذوبة؟

“العذاب: الألم. وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة، لأن العذاب يزيل حلاوة العيش فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة، أو هو اسم موضوع للألم دون ملاحظة اشتقاق لفظه من العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف”. كما يورد ابن عاشور في كتابه “التحرير والتنوير”، والعذاب عقوبة دينية يستعملها الرب بعد أن يذنب تابعه وليس قبل، حتى الله لا يملك شعبة تعذيب أثناء التحقيق.

قال بعضهم: “كلمة (عذاب) من عذب، التي تدل على عزل أو فصل أو تنقية شيء من أمور لحقت به، نحو الماء العذب، وهو الماء الصافي الصالح للشرب والخالي من الشوائب. والعذاب للإنسان هو القيام بتطهيره أو عزل الشوائب التي أصابته وهذا مفهوم التعذيب، وإذا انتفت الغاية انتفى مفهوم العذاب وصار تشفّياً، واستمرار التعذيب إلى ما لا نهاية يُعَدّ عبثاً كذلك وخلاف الحكمة”.

ويرد لدى المتصوف محي الدين بن العربي قوله بـ” تحول عذاب أهل النار إلى عذوبة ولذة، المنطقة الضبابية بين الألم واللذة ” ولكن كيف يتحول هذا إلى ذلك؟

لنا ان نسلّط الضوء أيضا على التحولات الجنسية والعاطفية التي يمكن أن يتسبب بها التعذيب، وكيف يؤثر ذلك على العلاقات الإنسانية. مع التركيز على التأثير النفسي للتعذيب وتأثيره على البشر وعلى قراراتهم بالانتقام لاحقاً.

بالعودة إلى القاموس الجسدي والطبّي. فمعصرات الشرج هي العضلات التي تغلق فتحة الشرج وتمنع خروج البراز والغازات. تتواجد هذه المعصرات على فتحة الشرج؛ أي أنها المنطقة الضيّقة من هذه الفتحة. خلفها يوجد المستقيم. وهو يقبل التوسع بسهولة. إدخال شيء بالقوة إلى الشرج سيجابه بمقاومة من قبل هذه العضلات قد يسبب بتخريبها وتمزّقها وقد يصاب الشخص بسلس البراز فيؤدّي ذلك إلى خروجه دون إمكانية السيطرة، وهو غالباً يحدث لأشخاص أرغموا على “الاغتصاب” ولا ننسى أن فتحة الشرج يمكنها أن تتسع إلى ما يقرب من 4 سم كقطر دون أن تتأذى.

لكن لماذا يستمر هذا الفعل التعذيبي إلى اليوم. ولماذا تستمر دائرة الانتقام؟

لماذا ورثة الآباء الجالسين على “البُطْل” يجلسون جيلا فجيلاً عليه، وقد يدور الحال ويرث أبناء من يعذبون اليوم السلطة ويجلس أحفاد من عذبوهم على قناني زجاجية مستوردة من إيران أو تركيا هذه المرة.

ما هذه السلسلة من الخوازيق وهتك حلقة الشرج بالقناني المدببة؟

هناك جانبان لحشر عنق الزجاجة في الشرج

الأول معنوي، وهذا يعتبر ترفا مقارنة بالآخر المادي؛ يقول العراقي “إلّي يشوف الموت يرضى بالصخونة (الحمى)”. لو حدث هذا الفعل في زمن ومكان آخرَين وثقافة مختلفة لاختلفت الأولويات.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من العراق مقيم في فنلندا