هشام العسري.. التدمير في زمن الانحطاط
العدد 193 | 20 حزيران 2016
زياد عبدالله


أكتب ما يلي عن تجربة المخرج المغربي هشام العسري في عدد أوكسجيني صوره هي لقطات من أفلامه، وزاوية “فيديو” تحمل فيلمه القصير “أندرويد” والصورة ها هنا من فيلمه الجديد “ضربة في الرأس” الذي يعمل على مونتاجه، فوجب التنويه:

 

بدأ تجربته الروائية الطويلة من “النهاية” 2011، وقال عنهم “هم الكلاب”، عنوان فيلمه الروائي الطويل الثاني 2013. وفي “البحر من ورائكم” 2014، تساءل “لماذا تشم الكلاب مؤخرات بعضها بعضاً أول ما تلتقي؟”.

أصل الآن مع هشام العسري إلى “جوّع كلبك” 2015 آخر ما شاهدته له، في انتظار لجديده “ضربة في الرأس” الذي يعمل حالياً على مونتاجه.

في السعي لالتقاط مفاتيح تجربة العسري الاستثنائية في عالمنا العربي فإنني سأضع “جوّع كلبك” إلى جانب “هم الكلاب” ليس لأن الكلاب حاضرة في عنوانهما! ربما لكونهما ملونين، وفيهما استثمار في تقنيات وثائقية ضمن سياق روائي، لا بل إن الروائي متأسس على وثائقية تأتي من كون العسري يتناول في “جوّع كلبك” شخصية حقيقية ألا وهي وزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري، بينما يستعيد في “هم الكلاب” “انتفاضة الخبز” التي كانت تطالب بالإصلاح والتغيير في المملكة المغربية عام 1981، وذلك من خلال شخصيته الرئيسة ومعاينته ما عرف بـ “الربيع العربي”.

بينما جاء كل من “النهاية” و”البحر من ورائكم” بالأبيض والأسود، وفي بناء روائي صرف – إن صح الوصف – حتى وإن كان العسري لا يفارق في “النهاية” مغربه بالمعنى التاريخي وهو ينهي فيلمه بنبأ وفاة الملك الحسن، لكن ذلك يؤسس له في تنويعات سردية لها أن تُفسر بهذا النبأ كما لو أنه أوجد ناظماً لما شاهدناه في الفيلم أو مستقراً يضيء كل ما سبقه.

توقظ أفلام هشام العسري الكثير من الأفكار التي لها بالنهاية أن تلتقي مع نقطة ارتكاز رئيسة تلتقي عليها أفلامه، تتمثل بتجريبه على صعيد الشكل وإطباقه على مضمون لا ينفصل عن الواقع على مستويات متعددة سياسية واجتماعية وتاريخية، بحيث يأتي التجريب من جهة إعادة بناء الواقع من وجهة نظره ومقاربته، وبكلمات بريشت “تبيان كيف هي الأشياء واقعياً”، ومن ثم مناكفة هذا الواقع، تشظيته، فكه وتركيبه، من دون الركون إلى نسق ثابت في سياق الفيلم الواحد، ولعله العسري يدفعني للقول إنه يعرف جيداً مدى انحطاط ما وصلنا إليه، وهو بالتالي لا يريد محاكاة الواقع ورصده وتقديمه ككتلة واحدة متناغمة تستقبله الحواس بهناءة ونعمة، فداحة الواقع تستدعي مجابهة ما، تدميراً للوعي البليد للواقع، والمتلقي المسكون بالجاهز والمعلب من الأفكار والصور.

 يضعنا “جوّع كلبك” أمام أسلوبية غودارية لها أن تكون فاقعة في هذا الفيلم كما هي في “همّ الكلاب”، ولا أعرف إن كانت هي كذلك في المقبل من أفلامه حين يمزج العسري بين الوثائقي والروائي، وهو يطالعنا بذلك من اللقطة الأولى في كلا الفيلمين، ففي “جوّع كلبك” سنشاهد امرأة من الشارع تروي معاناتها أمام الكاميرا متناولة في لقطة واحدة سوء الحال والفاقة والفقر متشكية من كل شيء وصولاً إلى تمنيها أن يحل على المغرب زلزال لا يبقي أحداً وأن تقع هذه البلاد فوق رؤوس أصحابها إلا أنها وبعد حديثها الطويل ودموعها تنهي اللقاء بالقول “عاش الملك”، ومن ثم يبدأ الفيلم في لعبة صوتية يظهر فيها الصوت ثم يختفي، ونحن نرى من وجهة نظر شخصية لم نتعرف عليها بعد مفترق طرق وشاحنة سرعان ما تسد الطريق أمام السيارات الأخرى والصوت يظهر ويختفي، ولنقع على عليا (فيروز الديلمي) تراقب الحاصل وهي تتناوب على سد أذنيها بإصبعيها، بينما يتدلى منهما قرطان مؤلفان من رجلي دجاجة بما يجعل الصوت يظهر ويختفي، وهي فتاة متسكعة تنتقل بين الشوارع والأزقة، تعبث مع هذا وذاك من فتية الشوارع، كما سنرى مع ذاك الفتى الذي يأخذها إلى محل حلاقة ويرى وهو في نشوته الجنسية معها صور أرشيفية من كوارث العالم وحروبه.

ينقسم “جوّع كلبك” إلى قسمين: الأول يؤسس لعوالم الشخصيات، فـ عليا ليست إلا ابنة “سي إدريس” وهذا الأخير سنتعرف عليه وحارسه الشخصي وهو يعيش مهجوراً منسياً، له أن يتناوب مع هذا الحارس البصاق على بركة ماء، إلى أن نصل القسم الثاني حيث ينجر الفيلم كاملاً إلى وثيقة معاد تكوينها وذلك أن إدريس البصري (بنعيسى الجيراري) يود أن يقدّم شهادة واعترافات خطيرة على اتصال بماضيه الدامي والعمليات القذرة التي قام بها، وذلك بمواجهة كاميرا مخرجة الأفلام الوثائقية ريتا (لطيفة أحرار) بحيث تلتقي كل الشخصيات التي طالعتنا في القسم الأول من الفيلم في موقع التصوير الداخلي مضافاً إليها شخصيات جديدة مستقدمة حياتها المتأثرة على نحو مباشر أو غير مباشر بأفعال وزير الداخلية الأسبق.

يشكل أداء الجيراري المميز والحوار الأقرب للمونولوج الرهان الرئيس فيما نشاهده من عميلة نبش الماضي الأسود ومعها ما يجول في أعماق البصري وأحلامه وكوابيسه. هذا التطويع والتأرجح في اللقطات وبناء المشاهد في بعثرة للسياق، واستفزاز حواس المشاهد وتشويشه في القسم الأول من الفيلم سرعان ما يتسق في النهاية ويستكين لاعتراف إدريس، ورغم محاولات الخروج من موقع التصوير الداخلي إلا أن ذلك يكون متقطعاً ومرتجلاً، الأمر الذي لا يكون على هذا النحو مع “همّ الكلاب”  – طالما أنني وضعته إلى جانب “جوّع كلبك” –  فهو ينطلق أيضاً مما له أن يكون وثائقياً ونحن نرى فماً يهتف من خلال مكبر الصوت، وليبدأ كريبورتاج تلفزيوني يظهر فيه “مجهول” حاملاً عجلة دراجة للأطفال، وفيه يستثمر العسري في البناء على طاقم التلفزيون، فيجعل تصوير الفيلم كاملاً قائماً على كاميرا محمولة، وليس ما نشاهده إلا ما تصوره الكاميرا التلفزيونية في ملاحقتها مجهول (حسن باديدة)، وبالتالي فإن منطق التصوير هو لكاميرا محمولة، وفي استجابة لما يفرضه هذا الخيار من تحديات، لا بل إن محاولة سرقة هذه الكاميرا ستجعلنا نرى ما تبثه الكاميرا بينما يحملها السارق ويركض بها، وحين تقع على الأرض فإننا سنرى ما تصوره وهي مرمية على الأرض.

كل ما نشاهده ونستقبله من حكايا ومعطيات درامية في “هم الكلاب” يأتي أيضاً  كما في “جوّع كلبك” من الماضي في رحلة استعادة لحياة مجهول وبكلمات أخرى اكتشاف هذا المجهول ليصير معلوماً، هو العائد من الموت واللا موت في آن، وبالتالي فإن حاضر الفيلم سيكون متشكلاً وفقاً لهذا الماضي الذي نكتشفه في الجزء الأخير من الفيلم، ألا وهو ما عرف بـ “انتفاضة الخبز” سابقة الذكر.

يقودني ما تقدم إلى اعتبار كلمة “النهاية” مفصلية في البناء السردي في أفلام العسري، بمعنى أن الاكتشاف يترك دائماً للنهاية وما يسبقها يكون منشغلاً تماماً في نبش الواقع وما آل إليه لكن عبر البحث عن الفكرة التي تتوارى خلف هذا الواقع و”عن جسر يصل المرئي باللا مرئي” على رأي ماكس بيكمان، ما يدفع العسري إلى تجريب تنويعات كثيرة لتحقيق هذا الغرض فقد تكون اللقطات متضادة أو متناغمة، طويلة أو قصيرة، كاملة أو مبتورة، متواصلة أو منفصلة ولعل التجلي الأكبر لهذا الأسلوب المونتاجي وتقديمه بإحكام متواجد في فيلمه الطويل الأول “النهاية”، إذ يأتي كل ما فيه بجرعات متسقة لا تتخلى عن عنصر على حساب آخر، والمفردات البصرية المتمثلة بالسلاسل وتكوين الشخصيات وأزيائها ومعها مواقع التصوير لا تتعرض لانتقالات مفاجئة بل يجرى التركيز على بناء الحدث وتناقضاته وصراعاته في عملية ضبط للصور الهذيانية الهجومية، التي تكون منفلتة أكثر في الأفلام الثلاثة الأخرى.

جاء “النهاية” كما أسلفت بالأبيض والأسود، وما من موسيقى تصويرية. يبدأ الفيلم بشارع مقلوب وسيارات تسير فيه مقلوبة أيضاً. الكاميرا الذاتية تفتتح الفيلم. نرى كل شيء بعيني الشخصية الرئيسة. هو يقف على سقف سيارة شرطة ورأسه متدلّ منها. وحين نعود إلى المشاهدة بكاميرا موضوعية، يكون قد وصل مع موكب الشرطة إلى مكان مخصّص لإتلاف المخدرات، حيث سيصعد إلى سطح المكان الذي تتلف فيه ويبدأ باستنشاق ما ينبعث منها.

أحب كثيراً أن أستعيد ما تقدّم، فهو مفتتح معاينتي سينما العسري! كما أن الشخصيات في “النهاية” تتبدّى مفردات بصرية، حيث الضابط العنيف وزوجته المقعدة، والعاشق، والعاشقة وأخوتها. العاشق يعمل في مراقبة مواقف السيارات مدفوعة الأجر، والضابط يتعقبه مع شيء من الوصاية عليه واستخدامه مخبراً، والمعشوقة مقيدة بالسلاسل التي لن تفارقها حتى نهاية الفيلم، وأخوتها يبدون كـ”غانغستر”خارجين من رحم “الكوميك”  أو كما أليكس وعصابته في برتقالة كوبريك الآلية، يقومون بالسرقة والسطو ويطاردون العاشق، فيما السلاسل التي لا تفارق أختهم من صنيعهم.

المدينة في “النهاية” مهجورة وافتراضية، لكنها لن تبقى كذلك مع نهاية الفيلم. سيكون الضابط المصدر الرئيس لكل السلطات، وسيظهر لديه الانتقام والعنف في أعتى تجلياته. وسيقوم بكل ذلك رغم أنه سيموت. إنه جثة، لكن بمقدورها أن تقتل وتنتقم من الأخوة الذين لا يسرقون إلا أتفه الأشياء، ولا سيما أنّ كل الأمكنة مهجورة ومتروكة لهم ليصنعوا فيها ما يريدون. القيود كثيرة في الفيلم. والكل تحت رحمتها، ضحايا وجلادين. العاشق يضع قيداً على السيارات المتوقّفة، العاشقة وسلاسلها، زوجة الضابط المقعدة وقيد الكرسي، وصولاً إلى القتل على طريقة ترنتينو على يد الضابط الذي يفترض أنه جثة… لكن فجأة يقفز الفيلم إلى مستوى واقعي وتاريخي ومفصلي في تاريخ المغرب هو موت الملك الحسن الثاني.

مع “البحر من وارئكم” لن يترك العسري شيئاً للنهاية، لا بل على العكس يكشف الفيلم من البداية عن هدفه ومساره ولعبته السردية ويكتفي تماماً بالرهان على المستويات المتعددة لحركة الكاميرا والاستثمار في المفردات البصرية والممثلين وتكوين الشخصيات وأزيائها والتنويع في تشكيل مواقع التصوير، بحيث يكون ناجحاً تماماً بتحميل كل عنصر من عناصر ما نشاهده بالمفاجآت والاكتشافات. وبالتالي، فإنه لا يحتفظ بمفاجآت للنهاية إلا إذا اعتبرنا بكاء طارق في النهاية وعودة الألوان جراءها مفاجأة.

البحر الذي من ورائنا يقود مباشرة إلى أن العدو من أمامنا، ومنا وفينا وفي ثنايا كل ما يسرده الفيلم، حيث كل شيء مدمّر ومشوّه، وبدل الحب يسود إتيان البهائم، و”لورد” عجوز بكامل أناقته وقبعته العالية، يلاحق طارق. وحين يواجهه هذا الأخير، لا يحظى إلا بغطاءَي علبة سردين يستخلصهما من القمامة للدفاع عن نفسه، فيتركه ذلك الرجل ويمضي للتبول في مرحاض متروك في الشارع، فيقوم طارق بحز وريده من دون أن ينجح في ذلك.

للعسري كما في “النهاية” أن يأخذ المشاهد من اللقطة الأولى في الفيلم، فنحن في “البحر من ورائكم” في بلد لا ألوان فيه، وقد تلوّثت المياه وأصيبت بـ”البق”، والكاميرا محمولة تلاحق رجلاً من الخلف في طريقه إلى عراك وقد اجتمع اثنان على ضرب رجل مرمي على الأرض. سيتوقف كل شيء حين تنكسر زجاجة على الأرض، حينها سينزع أحد المارة سترته ويمسح بها ما أهرق، ومن ثم يعصرها في فمه في لقطة مقرّبة (كلوز أب).

 إنه طارق (مالك أخميس)، من كان يتعرض للضرب، وها هو جالس في مقهى إلى طاولة وأمامه فنجان وقطرات من دمه تسقط في السائل الذي يحتويه. ولنقع عليه بعدئذٍ مقيداً إلى قضبان سجن يتعرض للتحقيق. اللقطة التي ستكون لازمة الفيلم، والمنطلق لحركيته العالية وسرده الخاص والتنويع في المفردات البصرية التي يوظفها العسري في أسلوبية خاصة، لها أن تضعنا أمام تهتك كل شيء. وطارق يصرخ بأنه رجل، وهو كذلك وله شاربان، لكنه يرتدي ثياب الراقصات ويضع المكياج ويرقص على سطح عربة يجرها “العربي”، اسم حصان والده الذي يطالعنا من البداية وقد حرُنَ وتوقف عن جرّ العربة.

 “العربي” الذي ما عاد قادراً على التقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وطارق عاجز عن قتله، وقد أمسى والده محطماً تماماً جراء ذلك، لا يملك أن يفعل لـ “العربي” سوى أن يمشط شعره بطقم أسنانه.

 إنه العبث أيضاً، إذ لا شيء يحدث، وكل ما حدث آتٍ من ماضٍ قريب وبعيد. ما من ألوان، والمياه ملوثة، وطارق عاجز عن الفرح والحزن وأي من العواطف، هو الذي لم يبكِ ولديه وقد قتلهما جاره رجل الأمن، بعد أن قام هذا الأخير بغواية زوجته. وهو عاجز أيضاً عن قتله، كما أن تشبّهه بالنساء لم يجعل منه مثلياً رغم أنه يُنعت بذلك، وهناك من هو غارق بحبه.

تستحق تجربة هشام العسري أن توضع في سياق، وليس ما تقدّم إلا محاولة لفعل ذلك! ربما هي محاولة فاشلة، لا لشيء إلا لانعدام هذا السياق عربياً وصعوبة الحديث عن مدارس فنية، هذا عدا التشويه والانحطاط الذي يحيق بنا من كل جانب في مجتمعات لا يتطور فيها إلا النكوص والتخلف، لكن وفي هذا السياق تظهر تجارب فردية لها أن تكون “تدميرية” لهذه البنى التي يستكين إليها المجتمع مستعيراً تعبير أموس فوغل وكتابه الشهير “السينما التدميرية” فالعسري يسعى إلى أشكال ومضامين جديدة غير مستساغة أو غامضة للبعض فهو – موظفاً كلام فوغل – “قرن استشعار حساس يمتد نحو أسرارنا الجماعية. إنه يعكس (أو يتنبأ). في أشكال شاعرية ومائلة وخفيّة. مرحلة من التشوّش والعزلة والثورة الاجتماعية، ويدلنا إلى المعرفة دون استخدام أدوات المنطق”.

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.