من رواية (أغسطس من كل عام)
العدد 284 | 18-3-2024
غابرييل غارسيا ماركيز | ترجمة: زياد عبدالله


في ما يلي ترجمة مجتزأة من الفصل الأول لرواية غابريل غارسيا ماركيز الصادرة أخيراً بوصفها آخر رواية كتبها أو رواية ما بعد موته وقد أمسى موته حائلاً بين أن يؤكد أنها بحق آخر رواية ألفها:

درجتْ على خوض هذه الرحلة في 16 أغسطس من كل عام، في نفس الساعة، مستقلة التاكسي نفسه، مشترية الأزهار من البائع نفسه، تحت الشمس اللاهبة لهذه المقبرة البائسة، وكل ما تنشده وضع باقة من زنابق سيف الغراب على قبر أمها. وها هي وقد أتمت ذلك، لم يعد لديها ما تفعله حتى صباح اليوم المقبل، في تمام التاسعة موعد انطلاق أول عبّارة عائدة.

اسمها آنا مجدالينا باخ. عاشت لسبعٍ وعشرين سنة من سنواتها السبع والأربعين حياة زوجية مستقرة مع رجل أحبته وأحبها وتزوجته قبل حصولها على بكالوريس الآداب والفنون، تزوجته وهي عذراء من دون سابق علاقة معه. أمها معلمة في دار حضانة مرموقة، تتمتع بمواهب عدة، إلا أنها اكتفت بأن تكون معلمة. ورثت آنا مجدالينا عنها عينيها الذهبيتين، وفضيلة أن تكون امرأة مقتصدة في كلامها، وحاذقة في التحكم بانفعالاتها. لقد كانت محاطة بعائلة موسيقية؛ والدها معلّم بيانو شغل منصب مدير المعهد الموسيقي الإقليمي لأربعين عاماً، وحين تقاعد حلّ محله زوجها، والذي بدوره كان قائد أوركسترا، وابناً لأبوين موسيقيين. كما أن ابنها المثالي، تمكن وهو في الثانية والعشرين من عمره أن يصبح عازف التشيلو الأساسي في الفرقة السيمفونية الوطنية، ونال استحسان مستيسلاف ليوبولدوفيتش روستروبوفيتش في جلسة خاصة. ولهما ابنة أيضاً في التاسعة عشرة من عمرها، والتي بدورها تمتلك قدرة خارقة على تعلم العزف على أي آلة سماعياً، الأمر الذي تستخدمه كحجة تجنبها المبيت في البيت. لقد كانت في بداية علاقة مع عازف ترومبيت في فرقة جاز، ولكنها مصممة في الوقت ذاته على إيفاء نذورها في الرهبنة الكرملية، ضد مشيئة والديها.

قبل ثلاثة أيام من وفاتها، أعربت والدة آنا مجدالينا عن رغبتها بأن تُدفن في الجزيرة، وكم رغبت آنا مجدالينا أن تسافر وتشهد دفنها، لكن أحداً لم يشجعها على ذلك، وهي نفسها لم تكن موقنة من قدرتها على احتمال حزنها، وليأخذها والدها معه بعد سنة على وفاتها وقد عقد العزم على كساء القبر بالرخام. عبور البحر، والأربع ساعات في مركب محرّكه يهدر مكشوفاً في مؤخرته، رفقة أمواج لم تهدأ لو للحظة، كل ذلك أخافها. أعجبتها رمال الشواطئ الذهبية المجاورة لعذرية الأدغال، وسحر الطيور المغردة، والتحليق السحري لمالك الحزين فوق البحيرة الساكنة. ساءها فقر القرية، وقد كان عليهما النوم في أرجوحة معلقة بين شجرتي جوز هند، فالقرية فقيرة رغم أنها أنجبت شاعراً وسيناتوراً متحذلقاً كاد أن يصبح في إحدى الانتخابات رئيساً للجمهورية. صدمها عدد الصيادين السود مقطوعي الأيدي جراء استخدام الديناميت في الصيد، إلا أنها فهمت مقاصد أمنية أمها حين أشرفت على روعة العالم من العلو الذي تقع فيه المقبرة. إنه المكان الوحيد الذي يهب العزلة من دون أي إحساس بالوحدة، وحينها قررت آنا مجدالينا باخ أن تبقي أمها هناك، آخذة عهداً على نفسها بأن تضع لها في كل عام باقة من زنابق سيف الغراب.

أغسطس شهر الحر وزخات المطر الساخن المجنونة، وقد عايشت كل ذلك، على شيء من التكفير الذي عليها القيام به وحيدة بلا أدنى ذرة تهاون، وذلتها الوحيدة ونقطة ضعفها مثلت باستجابتها لطلب ولديها بزيارة قبر جدتهما، وحينها حولت الطبيعة رحلتها إلى رحلة تكفيرية مروعة. أبحر المركب على الرغم من تهاطل الأمطار، متجنباً الإبحار في الليل ووصل الولدان خائفان وقد نال منهما دوار البحر والإعياء. في تلك المرة، حالفهم الحظ بالنوم في أول فندق سياحي شيده السيناتور بأموال الدولة وحمل اسمه.

شهدت آنا مجدالينا تشييد المزيد من الأبراج الزجاجية بالتوازي مع تنامي فقر القرية أكثر فأكثر. استُبدل المركب بعبّارة، وظل عبور البحر يستغرق أربع ساعات، لكن مع تكييف، وفرقة موسيقية، وفتيات المتع والمسرات، وواظبت لوحدها على روتين زياراتها لتغدو زائرة القرية الأكثر انتظاماً ودقة.

عادت إلى الفندق، وتمددت على السرير عارية إلا من لباسها الداخلي الدانتيل المخرّم، فتحت كتابها، رواية “داركولا” لبرام ستوكر، على الصفحة التي حددتها بسكين الورق، وراحت تقرأ تحت مروحة السقف التي تحرك الهواء الساخن. في العبّارة قرأت بنهم بحيث أجهزت على نصف الكتاب، لكنها الآن نامت والكتاب على صدرها، واستيقظت بعد ساعتين غارقة بالعرق والجوع، وقد حلّت العتمة.

يفتح بار الفندق لغاية العاشرة، وقبل معاودتها النوم، قصدته لتأكل أي طعام يقدّمه. لاحظت أن الزبائن أكثر من المعتاد في هذا الوقت، وأن النادل غير الذي كان في السابق، فطلبت، تجنباً لأي تعقيدات، ما اعتادت طلبه في السنوات السابقة، شطيرة هام بالجبن، مع قهوة بالحليب. وبينما تنتظر طلبها، تبينت أنها محاطة بمجموعة السياح العجائز نفسهم الذين اعتادت رؤيتهم حين كان هذا الفندق هو الوحيد في القرية. كانت شابة تغني أغنية بوليرو حزينة وأوغستين روميرو بذاته، وقد أمسى عجوزاً أعمى، يرافقها بعزف على بيانو قديم لم يتغير منذ حفل افتتاح الفندق.

تناولت طعامها بسرعة، ساعية إلى التخلص من ذلّ الأكل وحيدة، لكنها استمتعت بالموسيقى، التي وجدتها هادئة ورائقة، رفقة غناء الفتاة. لم يتبق في البار سوى ثلاثة أزواج على طاولات متفرقة، ورجل يجلس إلى طاولة أمامها على اليمين، لم تره حين دخل.  يرتدي هذا الرجل بدلة كتانية بيضاء وقد تخلل شعره البياض، وأمامه على الطاولة قنينة براندي ونصف كأس ملآن، وقد بدا وحيداً في هذا العالم.

وتجاسر البيانو بعزف مقطوعة ديبوسي “كلير دون لون” على إيقاع البوليرو، وراحت المغنية تغنيها بشغف، ما حرّك مشاعر آنا مجدالينا باخ فطلبت جِن مع صودا وثلج، المشروب الكحولي الوحيد المتوافق معها، وليتغير العالم مع أول رشفة، مستقدماً إليها إحساساً بالخفة والبهجة والقدرة على فعل أي شيء، وقد باركها مزيج الموسيقى والجن المقدّس. ظنت بداية أن الرجل أمامها لم يرها، لكنها رأته يراقبها حين ألقت عليه نظرة ثانية. احمر خجلاً. بقيت تحدق به بينما كان يلقي نظرة على ساعة الجيب، التي أعادها محرجاً، وصب في كأسه مجدداً، وعينه على الباب، فقد أدرك الآن بأنها تتملاه بناظريها بلا رحمة. رفع عينيه نحوها مباشرة. ابتسمت فحياها بانحناءة رأس خفيفة.

سألها:

“هل لي أن أدعوك إلى كأس”.

توجه إلى طاولتها وصب لها كأساً بأناقة. “نخبك” قال. أنهضت نفسها وتجرعا كأسيهما دفعة واحدة في ذات الوقت. تشردق، سعل وارتج سائر جسده، ودمعت عيناه وسال الدمع على خده، ساد الصمت لبعض الوقت وهو يجفف عينيه بمنديل معطر باللافندر ويستعيد صوته. تجرأت وسألته ما إذا كان ينتظر أحداً.

أجاب نافياً. “كنت أترقب شيئاً هاماً لكن الأمر لم ينجح”.

“متعلق بالعمل؟” سألت بريبة مقصودة. أجاب: “لم أعد نافعاً لشيء”. قالها بنبرة يستخدمها الرجال حين يريدون ألا يصدّقهم أحد. واسته، وأضافت تعليقاً مبتذلاً، بعيداً كل البعد عن طبعها، لكنه حاذق:

“ربما هذا ما يقولونه لك في البيت”.

وهكذا مضت في قيادته برقة، إلى أن وقع في حبائل دردشة عادية. حاولت أن تحزر عمره، فتوصلت إليه بفارق عام واحد، فقد كان في السادسة والأربعين. تحزرت بلده من لهجته، وبعد ثلاث محاولات عافت ذلك، فهو غرينكو من أصول لاتينية، وبعد محاولاتها الثانية في تخمين مهنته قال في الحال إنه مهندس مدني، فشككت في ذلك، ووجدت إجابته خدعة لئلا تتوصل إلى الحقيقة.

تحدثت عن الجرأة في عزف مقطوعة ديبوسي على إيقاع البوليرو، الأمر الذي لم يتبينه، وقد أدرك مدى معرفتها بالموسيقى، بينما اقتصرت معرفته على ما لا يتجاوز فالس “الدانوب الأزرق”. أخبرته أنها تقرأ “دراكولا”، التي قرأها في المدرسة، وما زال للآن مصدوماً بمشهد الكونت وهو ينبح في لندن وقد تحول إلى كلب، مبدية اتفاقها معه، وعدم فهمها لتغيير فرانسيس فورد كوبولا له في فيلمه الذي لا ينسى. بعد الكأس الثاني أحست بأن البراندي لاقى الجِن في ركن ما في قلبها، وأن عليها أن تركّز لتستجمع نفسها. وبانتظار أن يغادرا البار، واصلت الفرقة الموسيقية العزف لهما وقد تجاوزت الساعة الحادية عشرة موعد إغلاق البار.

أمست بعدئذٍ تعرفه، تعرفه جيداً كما لو أنه عاش معها عمراً. عرفت أنه نظيف، فائق الأناقة، بيدين خلتا من أي تعبير وبرزت من أصابعه أظافر لامعة لمعاناً طبيعياً، مع قلب طيب وهلع، وقد كان مضطرباً قلقاً تحت سهام ناظريها وهي لا تزيح عينيها عنه. أحست بجرأة ما بعدها جرأة واتخذت خطوةً لم تتخذها يوماً في حياتها، ولا حتى في مناماتها، لقد اتخذتها بجلاء وصفاء تام:

“هل نصعد إلى غرفتك؟”

“لست مقيماً هنا”، قال.

لم تنتظر أن يكمل جملته. “أنا مقيمة هنا”، نهضت وحركت رأسها قليلاً من باب التحكم به.

“الطابق الثاني، غرفة 203، إلى يمين السلّم. لا تقرع الباب، ادخل مباشرة”.

مضت إلى غرفتها وإحساس من الهلع اللذيذ يهيمن عليها، إحساس لم ينتابها منذ ليلة زفافها. شغّلت مروحة السقف وتركت الغرفة في عتمتها، وراحت تنزع عنها ثيابها وترميها من الباب إلى الحمام، وحين أضاءت هذا الأخير، أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً لتتحكم بأنفاسها المتسارعة ورجفة يديها. غسلت سريعاً ما بين فخذيها، وتحت إبطيها، وما بين أصابع رجليها، المتعرقتين في حذائها المطاطي القاسي. رغم تعرقها طيلة الظهيرة لم تكن في وارد أن تستحم إلا صباح الغد. لم تجد متسعاً لتفرشي أسنانها، فاكتفت بوضع شيء يسير من معجون الأسنان على لسانها وعادت إلى غرفة النوم المنارة فقط من الضوء الآتي من الحمام.

لم تنتظر إقدام ضيفها على دفع الباب، بل فتحته هي من الداخل حين سمعت خطوه. كان مبهوتاً فزعاً، فلم تتح له مجالاً لأي شيء في العتمة، سوى أنها نزعت عنه جاكيته، وربطة عنقه، وقميصه، ورمت بها خلفها على الأرض، وبفعلها ذلك فاح عطر اللافندر المدوخ. حاول بدايةً مساعدتها، لكنها لم تمهله، وحين أصبح عاري الصدر، ركعت على ركبتيها لتنزع حذاءه وجوربيه، بينما تولى هو فكّ حزامه، فما كان عليها إلا أن تسحب بنطاله، ومن دون أن يلتفتا إلى تساقط المفاتيح والنقود الورقية والمعدنية وسكين الجيب من جيوبه، وفي النهاية ساعدته في إنزال شورته من بين رجليه، ولاحظت أنه ليس كبيراً كما قضيب زوجها، الرجل الوحيد الذي رأته عارياً طيلة حياتها، لكنه في النهاية لطيف ومنتصب.

*****

خاص بأوكسجين

 

 


مساهمات أخرى للكاتب/ة: