يبدو أنني أخوض مجدداً غمار رحلة تأخذني 20 ألف سنة في المستقبل، تضعني في صحارى كوكب “آراكيس” المترامية، والشاشة العملاقة أمامي تأخذني إلى المستقبل المتصحر للبشرية، وارتكاسه إلى القبائل المنضوية تحت جناح امبراطورية والصراع على التوابل، بالتوازي مع ظهور المخلّص أو “لسان الغيب” أو المهدي.
أجد أفكاراً كثيرة تدور في رأسي وأنا أشاهد الجزء الثاني من فيلم “كثيب” Dune، ليس لأن جرعة المتعة أقل من الأول فقط، بل لتمركزه أيضاً حول فكرة “المخلّص” والتي تشكّل كل ما يتمحور حوله هذا الجزء، بعد أن كانت علائم أولية تتشكل في الجزء الأول (2021) تنبئ بذلك، وأهل “أراكيس” يصفون بول أتريدس بـ “لسان الغيب”، التوصيف الذي يُنطق بالعربية، ولينافس حضور تلك العبارة المتكررة في الفيلم كلمة هي الأخرى عربية ألا وهي “المهدي”.
لي أن أقول إن الإدهاش البصري على أشده في الجزأين، ودنيس فيلنوف محتكم على قدرة كبيرة في هذا السياق، لا بل إن مشاهدتي الفيلم نابعة أولاً من التكوين البصري للفيلم، الصورة المستقبلية وهي تسرح وتمرح في الصحاري، تلك الآليات هائلة الحجم وهي تحط في الخواء والرمال لتقوم بجمع التوابل، والتناقض بين ما هو مستقبلي وشديد التعقيد وما هو بدائي وماضوي، التناقض بين مدرجات رومانية مرقمنة وشديدة الاتساق وقد أنشئت على يد روبوتات أو ما هو غير إنساني، بينما تدور على ميدانها منازلة بالسيوف كما في روما ما قبل الميلاد، وصولاً إلى أفاعي الصحراء، التي تُستدعى بالصوت فتثير عاصفة رملية تبتلع كل ما تصادفه في وجهها، وحين روضها بول (تيموثي شالاميت) بدا وضوحاً أنه المخلّص، ونحو ذلك من علائم راح يجسدها واحدة تلو الأخرى.
يمكنني أن أختزل الجزء الثاني على صعيد السيناريو المأخوذ عن رواية فرانك هيربرت- كما هو الجزء الأول وصولاً إلى الثالث المقبل – بأنه متمحور حول تجسيد بول لكل ما يجعله “المهدي”. ومن هنا ينبع كل فعل ورد فعل أيضاً، وتطور شخصيته أيضاً بالتوازي مع شخصية والدته (ريبيكا فيرغسون)، فهو لا يؤمن بذلك بدايةً، لكنه في النهاية لا يجد محيداً عن الإيمان بأنه هو المخلّص أو المهدي، مجسداً كل خصاله بأفعاله، وغالبية “الفيرمين” تؤمن بذلك ما عدا أقلية تجده خرافة. أما في الجزء الأول فالأحداث متعددة، وأولها تعرض قبيلة أتريدس للخديعة من قبل الإمبراطور، والمصير الذي تواجهه ومقتل والد بول ونحو ذلك من أحداث دراماتيكية، وصولاً إلى نجاة بول وأمه وعثور قبيلة “الفيرمين” عليهما.
سأعود إلى تلك الأفكار التي كانت تدور في رأسي طيلة مشاهدة الجزء الثاني، وهنا سأدع السينمائي جانباً، وسأمضي خلف الخيالي والمقدّس، وكيف أن قبيلة “الفيرمين” الذين لم يفارقوا الصحراء هم بشكل أو آخر سكّان ما يُعرف بـ “العالم الثالث” أو العرب أو “الشرق أوسطيين” طالما أن المخلّص نسخة “عربية”/كونية.
مع هذا الأمر الجوهري يحضر تجاور المقدّس والخيالي في الثقافة العربية والإسلامية، الأمر الذي يظهر جلياً على يد “الآخر”، كما عهدنا بذلك، ومعادلها في الفيلم أن الصحراء التي يقطنها “الفيرمين” تحتوي على المصدر الأساسي للطاقة، أي التوابل التي من يستحوذ عليها يهيمن على الكون، فهي التي تتيح الانتقال بين الكواكب بالسرعة المطلوبة كما هو النفط حالياً! لكن بعيداً عن ذلك يطل برأسه مفهوم “المهدي” الذي سيحقق العدالة الكونية، وينقلنا نحن معشر سكّان العالم الثالث المؤمنين بالخرافة والما ورائي إلى عدالة ما!
يتيح المتصل بالتوابل و”الفيرمين” تأويلات كولونيالية، لكن شغلي الشاغل سيكون ماثلاً بما هو خيالي وما هو مقدّس وكيفية التوفيق بينهما، الأمر الذي لن يكون بحال من الأحوال عائقاً بالنسبة لـ “الآخر” وهو يتعامل معهما بوصفهما فانتازيا، بينما يستدعي لدى الأصلي أو الأصلاني الأخذ والرد، وربما التكفير! وفي هذا ما يمكنني القول عنه بأنه جزء من مشروعي السردي والبحثي، فالقصصي في التراث العربي متداخل حدّ التماهي بالمقدّس، فهو حافل بالخيالي والقصصي والفنتازي، إلا أن إضفاء قدسية ما عليه، أو كونه حاضراً في كتب ذات صبغة دينية، أو حتى “قديمة” يجعله بعيداً عن التعامل معه بوصفه خيالاً أو قصة أو فنتازيا، ويجعل من الإيمان به أمراً حرفياً، بمعنى استبعاد المجاز، فما يروى يعامل بوصفه حصل حقاً، مهما كانت لا معقوليته، كما هو “تاريخ الطبري” على سبيل المثال، وكل ما فيه يعتبر تاريخياً، لا بل وقائعياً، رغم أن مؤلفه يقول في تصديره له: ” وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطتُ أني راسمه فيه، إنما هو على ما رُويت من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا”.
خذوا بعضاً من مرويات الطبري مما لم يعرف له وجهاً من الصحة – وما أكثره – ودعوا لها أن تطفوا على الشاشة الكبيرة وستجدون ما يتخطى مخيلة هيربرت وفيلنوف مجتمعين، وهذا مماثل تماماً في مخاطبتي لجيمس كاميرون في كتابي “لا تقرأ هذا الكتاب إن لم تر من السماء إلا زرقتها” الذي عالجت فيه عجائبيات القزويني وغرائبيات الغرناطي في كتابهما “تحفة الألباب ونخبة الإعجاب” و”عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات”: “إن الكاميرون هذا الذي عُرف بـ جيمس كاميرون و”أفاتاره” الأزرق لو تعرّف على مخلوقات الغرناطي والقزويني لوجد لها كوكباً مثل “باندورا” وصنع بدلاً عن أفاتار أو أفاتارين عشرات الأفلام، ومنها ألوان وأشكال وأحجام عجيبات، براً وبحراً وجواً، وفيها الخيّر والشرير، الجميل والقبيح، الهائل والضئيل، العملاق والمتقزم، الملائكي والمتشيطن، منها من خلق من نور، ومنها من صيّر من نار، في سموات سبع…”.
من الواضح في فيلم “كثيب” حضور المستعمر، الذي يأتي من كوكب آخر ويستوطن آخر ليأخذ ثرواته ويستعبد أهله، والذين بدورهم ميالون للإيمان بمخلّص وهكذا خرفات تصبح في الفيلم حقيقة في سياق فنتازي، لكنه واقعي في منطقتنا وليس فنتازياً، بمعنى أن عدداً هائلاً من البشر في منطقتنا ينتظرون مهدياً أو مخلصاً، ولعل رداءة الأوضاع وتدهورها المستطير يجعل من ذلك حاجة، لكن وفي سياق الفيلم، فإن توظيف “المهدي” أو “المخلّص” ليس سرقة للمخيلة العربية أو الإسلامية، بل الأدق هي سرقة لفكرة واقعية معاشة، فما هو خيالي أو فنتازي واقعي عندنا، لا بل إن دولة مثل إيران تؤسس عليها مشروعها السياسي، ففي تصريح لقائد فيلق القدس الجنرال إسماعيل قاآني يعلن أن “محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر في العمل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته”، ولا أملك أمام تصريحه هذا إلا أن أنصحه بمشاهدة الفيلم، علّه يساعده في تطوير مشروعه الخارق!
*****
خاص بأوكسجين